عنوان الفتوى : عاهدت ربها ، ثم لم تلتزم بذلك العهد فترة من الزمن ، فما الحكم ؟
لقد عاهدت الله منذ ثلاث سنوات تقريبا على أن أختم القرآن كل شهر مرة , لكنني لم ألتزم بذلك أول ثلاثة أو أربعة أشهر , وبعد ذلك نسيت هذا العهد , ولا أدري كيف نسيته ربما ظننت أنه يسقط عند إخلالي به ، أو ظننت أنه بإمكاني التراجع عنه , والآن قد تذكرته فندمت أشد الندم على التفريط به , وقد تبت إلى الله عز وجل وبدأت أحرص على ختم القرآن كل شهر , لكني قلقة جدا على الأشهر التي مضت . وأسئلتي : هل علي كفارة ؟ وإن كان علي فهل هي واحدة لكل الفترة التي مضت ، أم كفارة لكل شهر على حدة ؟ وبما أني طالبة مازلت أدرس ، فهل آخذ ثمن الكفارة من أهلي أم أصوم ثلاثة أيامٍ ؟ وهل صحيح ما اعتقده أن علي الوفاء بهذا العهد طيلة حياتي ؟ لأني لم أذكر ذلك أثناء العهد ، كما لم أحدد مدة معينة فقد قلت : أعاهدك يا رب أن أختم القرآن كل شهر مرة ، وإن كان كذلك فإذا انتهيت من الختمة قبل نهاية الشهر بيومين أو ثلاثة ، فهل أستطيع البدء بختمه جديدة أو أنتظر بداية الشهر الجديد ؟
الحمد لله.
أولاً :
ينبغي على المسلم أن يحذر من مسألة العهد ، فمعاهدة الله على فعل شيء أو تركه ليست بالأمر الهين ، فصاحب العهد مأمور بالوفاء ، ومتوعد بالعقوبة إذا هو أخلف ذلك العهد ، قال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) الإسراء / 34 ، وقال تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ ) التوبة /75 – 77 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " فليحذر المؤمن من هذا الوصف الشنيع ، أن يعاهد ربه ، إن حصل مقصوده الفلاني ليفعلن كذا وكذا ، ثم لا يفي بذلك ، فإنه ربما عاقبه اللّه بالنفاق ، كما عاقب هؤلاء " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " (ص/345) .
وقال ابن قدامه رحمه الله في
" المغني " (9/401) : " قال أحمد : العهد شديد في عشرة مواضع من كتاب الله : (
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) ، ويتقرب إلى الله تعالى إذا حلف بالعهد وحنث
, ما استطاع ، وعائشة أعتقت أربعين رقبة , ثم تبكي حتى تبل خمارها , وتقول :
واعهداه " انتهى .
ثانياً :
العهد حكمه حكم النذر إذا قصد به المكلف إلزام نفسه بطاعة وقربة ، كأن يقول : أعاهد
الله أن أصلي ركعتين ، أو أعاهد الله أن أختم القرآن كل شهر .
وأما إذا كان المقصود بالعهد
ليس القربة والطاعة ، وإنما المقصود به المنع أو الحث ، فهذا حكمه حكم اليمين ، كأن
يقول : أعاهد الله أن أختم القرآن كل شهر إن كلمت فلانا ، فهنا القربة ، وهي ختم
القرآن كل شهر ليست مقصوده ، وإنما المقصود من ذلك حمل الإنسان نفسه على عدم الكلام
.
قال أبو بكر الجصاص رحمه
الله - عند قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ
فَضْلِهِ .. الآية ) - : " فيه الدلالة على أن من نذر نذرا فيه قربة ، لزمه الوفاء
به ؛ لأن العهد هو النذر والإيجاب " انتهى من " أحكام القرآن " (4/350) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : " إذا قال : أعاهد الله أني أحج العام ، فهو نذر وعهد
ويمين ، وإن قال : لا أكلم زيدا ، فيمين وعهد ، لا نذر ، فالأيمان إن تضمنت معنى
النذر ، وهو أن يلتزم لله قربة : لزمه الوفاء بها " انتهى من " المستدرك على مجموع
الفتاوى " (5/144) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله : " وينعقد – أي : النذر - بالقول ، وليس له صيغة معينة ، بل كل ما دل على
الالتزام فهو نذر ، سواء قال : لله علي عهد ، أو لله علي نذر ، أو ما أشبه ذلك مما
يدل على الالتزام ، مثل: لله علي أن أفعل كذا ، وإن لم يقل : نذر ، أو عهد " انتهى
من " الشرح الممتع " (15/207) .
وللفائدة ينظر جواب السؤال
رقم : (20419) ،
وجواب السؤال رقم : (139465)
.
فعلى هذا ، العهد الذي
قطعتيه على نفسكِ ، إنما هو من باب نذر الطاعة ، ونذر الطاعة يجب الوفاء به ؛ لقوله
عليه الصلاة والسلام : ( مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ) رواه
البخاري (6696) .
فإذا ثبت أنك لم تختمي القرآن في بعض الشهور ، فيلزمك قضاء تلك الختمات ، ويلزمك مع
القضاء كفارة يمين عن كل شهر ؛ لأن النذر إذا فات عن وقته المحدد ، ففيه كفارة يمين
.
قال المرداوي رحمه الله في
"الإنصاف" (11/141) : " وإن نذر صوم شهر معين فلم يصمه لغير عذر ، فعليه القضاء
وكفارة يمين - بلا نزاع - وإن لم يصمه لعذر ، فعليه القضاء ـ بلا نزاع ـ ، وفي
الكفارة روايتان ( يعني عن الإمام أحمد ) والمذهب : أن عليه الكفارة أيضاً " انتهى
بتصرف .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله فيمن " نذر أن يصوم عشرة أيام من شهر ما ، ثم لم يصمها في ذلك الشهر وصامها في
الشهر الثاني ، فنقول له : إن عليك كفارة يمين ، لأن نذره تضمن شيئين : تضمن صيام
عشرة أيام ، وأن تكون في هذا الشهر المعين ، فلما فاته أن تكون في هذا الشهر المعين
لزمته كفارة اليمين لفوات الصفة ، وأما الأيام فقد صامها " انتهى من " مجموع فتاوى
ابن عثيمين" (19/ 377) .
والكفارة واجبة في مالكِ ،
فإن لم يكن لكِ مال ، فإنه لا يلزمك أخذ ثمن الكفارة من أهلك ، لكن يجوز لك أن
تأخذيها منهم ، لو بذلوها لك ؛ فإن لم يبذلوا الكفارة ، ولم يكن عندك مال خاص بك ؛
كفاك أن تصومي ثلاثة أيام .
رابعاً :
يؤخذ من قولك : ( كل شهر مرة ) أمران :
الأول : أن النذر مستمر ؛ لأن " كل شهر " تفيد الدوام والاستمرارية ، فليزم الوفاء
بذلك النذر مدى الحياة .
الثاني : أن الشهر هو الزمان والظرف لكل ختمه ، ويحسب ذلك عليك من حين وقع منك
النذر ؛ فيجب عليك أن تبدئي في قراءتك ، بحيث لا يمضي عليك شهر إلا وقد انتهيت من
الختمة ؛ وهكذا : يجب عليك في كل شهر أن تقرئي القرآن مرة واحدة ، على الأقل ؛ فإن
قرأت أكثر من ذلك ، فلا حرج عليك .
والله أعلم .