عنوان الفتوى : هل قولنا للعاصي المستتر بمعصيته " استح من الله كما تستحيي من الناس " خطأ ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

لقد أعجبتني إجابة السؤال رقم ( 101539 ) لقد عرضتموه بشكل جميل ، وأكثر ما أعجبني هذه العبارات التي تلامس شغاف القلب " الأمر الأول : هو أن نسألك : هل تستطيع فعل العادة السيئة أمام أهلك وإخوانك ؟ هل تستطيع فعلها أمام أصدقائك وجيرانك ؟ وهل تستطيع فعلها أمام أحدٍ من العلماء أو الصحابة ؟ نجزم عنك بأن الجواب : لا ، لا أستطيع ، ولو بلغت الشهوة مني مبلغها ، أليس كذلك ؟ حسناً ، هل تعلم أنك تفعلها أمام رب السموات والأرض ؟! هل تعلم أن خالق الكون يراك وأنت تفعلها ؟! هل تعلم أنك تفعلها والملائكة الكرام الكتبة يرونك ؟! فكيف لم تفكِّر في ذلك ؟ كيف جعلت الله تعالى أهون الناظرين إليك ؟ " . أخي العزيز أرجو تصحيحي إن كنت مخطئاً ، فعلى الرغم من جمال هذه العبارات ، لكن ألا ترون أنكم قرنتم فيها تعظيم الخلق بتعظيم الخالق ، حين جعلتم احترام الناس عند التخفي من هذه المعصية كاحترام الله تعالى والتخفي منه ؟ فليس كل ما يتخفى الشخص عن فعله أمام الملأ ، يتحرج من فعله أمام الخالق ، فجماع الرجل لامرأته مثلاً أمر يستحيي الناس من فعله علناً ، أو حتى الحديث عنه ، لكنه قُربة وأجر عند الله . إنني لا أحاول تصيد الأخطاء وإنما حاولت فقط تصحيح ما بدا لي أنه من قبيل الخطأ ، لا شك أنكم تتفقون معي أن مقدار ما نظهره من احترام وتعظيم لله تعالى يفوق بكثير ما نظهره للناس ، وبالتالي فلا داعي للتمثيل والمقارنة بين هذا الاحترام وهذا ؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء . سامحوني إن كنت قد أخطأت في الفهم ، راجياً منكم التوضيح والتبيين .

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق


الحمد لله
نشكر لك حرصك على الفائدة ، ونثني على دقة فهمك لما نجيب به ، ومع تقديرنا لنقدك الكريم للجواب السابق ، فلا يظهر لنا صوابه ؛ فهناك فرق بين ما ذكرته من حال الرجل مع أهله ، وما أردناه في الجواب من تذكير المرء باطلاع ربِّه تعالى عموماً أو عند الطاعة أو عند المعصية ، فمن حقَّق منزلة المراقبة أورثه ذلك إتقاناً للطاعة وابتعاداً عن المعصية لما تحققه تلك المنزلة في قلبه من التعظيم والخوف لربِّه عز وجل ، وفي حديث جبريل المروي في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم عن " الإحسان " : ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) فإذا استشعر المسلم المتعبد لربه تعالى مراقبة الله تعالى له وهو يتعبده كان ذلك أدعى لإتقان العبادة والإخلاص فيها .
ومثله يقال في جانب المعصية السريَّة وأن النفس تأبى فعلها بحضور الناس فيحرص العاصي على الاستتار عن الناس وفعلها بعيداً عن أعينهم ومراقبتهم ، إما في الظلام أو في غرفة وحده يُغلق عليه أبوابها ويرخي ستورها ، وهذا الذي يحتاج للتذكير بمراقبة الله تعالى له وأنه كما حرص على عدم رؤية الناس له وهو يرتكب المنكر ، فالله تعالى أولى أن يستحيي منه وفي مثله أوصى بعض السلف بقوله " لا تجعل الله تعالى أهون الناظرين إليك " ، وفي مثله قال أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني في " نونيته " :
وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحيِ من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
ولسنا نريد في إجابتنا إلا هذا ، وإلا فنحن نعلم أن كثيرين يرتكبون معاصي وآثام لا نذكرهم بمثل الأمر كالذي يشرب الدخان علناً ، ويحلق لحيته ، بخلاف من يفطر في رمضان سرّاً ، أو من ينظر إلى المحرمات في بيته على حاسوبه أو جواله ، فما ذكرناه من التذكير بمنزلة مراقبة الله تعالى لم نرد به إلا هذا ولم نرد به من يفعل المنكر مجاهرة به ، ولم نرد به من يجب عليه الاستتار عن الناس إذا فعله كمن يقضي حاجته ، وكم من يجامع أهله فإن الحرام في هذا هو فعل هذا أمام الناس .
ويدخل في هذا الباب " العادة السرية " فهي من المعاصي التي يحرص العاصي على فعلها سرّاً وهو في هذا يقدِّم الخوف والحياء من الناس على الخوف والحياء من الله تعالى ، ويَحسن بنا – والحالة هذه – تذكيره بالحياء من الله واطلاع الله تعالى عليه ؛ لتركها حياءً من الله أو تخويفاً منه عز وجل .
بل إن صاحب هذه المعاصي وأمثالها ، يكره جدا أن يعلم كرام الناس عنه ذلك ، ويستحي من معرفتهم بذلك عنه ، حتى ولو لم يروه مباشرة ؛ وأما شأن الرجل مع امرأته فيختلف عن ذلك ؛ فمن ذا الذي لا يعرف أن بين الرجل وامرأته ما بينهما ، وأنه يفضي إليها ، وتفضي إليه ؛ وإن كان لا يتكلم بذلك ، ولا يذكره ، لكنه يعلم أن هذا شأنه وشأن الناس جميعا ، وهكذا الناس كلهم يعلمون .

وقد جاءت الشريعة بمثل هذا الذي قلناه في جوابنا الأول ونوضحه هاهنا ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كشف العورة خالياً قال ( اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ ) رواه الترمذي ( 2794 ) ، وأبو داود ( 4017 ) ، وابن ماجه ( 1920 ) وحسَّنه الألباني في " صحيح الترمذي " ، وهذا تذكير للمسلم أن رؤية الله تعالى له أحق أن يكون لها وقع على قلبه وفي حياته ، فلا يفعل المنكر والمعصية خالياً كما لا يفعله أمام الناس ، فصارت النصيحة في هذا لا تصلح إلا لمن فعل معصية في الخفاء والسر بعيداً عن نظر الناس حياء منهم ، فيقال له هنا ما قاله صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ ) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - : " أحيانا إذا رآك الذي يشرب الدخان عرف أنه وقع في منكر واحترمك وأخفاه ، هل نقول : هذا يكفي عن نصيحتك إياه ؟ ربما نقول : يكفي ؛ لأن الرجل عرف أنك تنكر هذا الشيء ، ولهذا استحيا منك وأخفاه ، وقد يقال : إنه الآن حانت الفرصة إلى أن توجهه وتقول : يا أخي ! إذا كنت الآن تستحيي مني ، فحياؤك من الله أولى ، الله أحق أن يستحيا منه ، ويكون هذا فرصة لك لتدعوه " انتهى من " لقاء الباب المفتوح " ( 176 / جواب السؤال رقم 20 ) .

وفي الباب أيضاً حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نرجو التأمل فيهما وفي كلام العلماء في شرحهما ليتبين لك صحة ما ذكرناه في جوابنا الأول .
1. عَنْ سَعِيدِ بن يَزِيدَ الأَزْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوْصِنِي ، قَالَ : ( أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ) .
رواه الإمام أحمد في " الزهد " ( 46 ) والبيهقي في " شعب الأيمان " ( 6 / 145 ) والطبراني في " المعجم الكبير " ( 7738 ) وصححه الألباني في " الصحيحة " ( 741 ) .
قال المناوي - رحمه الله - : " ( أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك ) قال ابن جرير : هذا أبلغ موعظة وأبْين دلالة بأوجز إيجاز وأوضح بيان ؛ إذ لا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح عن أعين أهل الصلاح وذوي الهيئات والفضل ، أن يراه وهو فاعله ، والله مطلع على جميع أفعال خلقه ، فالعبد إذا استحى من ربه استحياءه من رجل صالح من قومه : تجنَّب جميع المعاصي الظاهرة والباطنة ، فيا لها مِن وصية ما أبلغها وموعظة ما أجمعها " انتهى من " فيض القدير " ( 3 / 74 ) .
2. وعن أبي أمامة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفْشِ السَّلامَ وابْذُلِ الطَّعامَ واسْتَحْيي مِنَ الله تعالى كما تَسْتَحِيي رَجُلاً مِنْ رَهْطِكَ ذا هَيْئَةٍ ) .
رواه الطبرانى في " المعجم الكبير " ( 8 / 228 ، رقم 7897 ) .
ورواه البزار في " مسنده " ( 7 / 89 ، رقم 2642) بلفظ (واسْتَحْيي مِنَ الله تعالى كما تَسْتَحِيي رَجُلاً مِنْ رَهْطِكَ ذا هَيْئَةٍ ) .
الحديثان فيهما كلام لكن يحسِّن أحدهما الآخر ، وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 3559 ) .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – بعد أن ذكر حديث معاذ - : " وهذا هو السبب الموجب لخشية الله في السر ؛ فإنَّ مَن علم أن الله يراه حيث كان ، وأنه مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته ، واستحضر ذلك في خلواته : أوجب له ذلك ترك المعاصي في السرّ ، وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله تعالى ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) النساء/ 1.
والمقصود : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصَّى معاذاً بتقوى الله سرّاً وعلانية أرشده إلى ما يعينه على ذلك ، وهو أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من قومه ، ومعنى ذلك : أن يستشعر دائما بقلبه قرب الله منه ، واطلاعه عليه ، فيستحيى من نظره إليه ، وقد امتثل معاذ ما وصَّاه به النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عمر قد بعثه على عمل فقدم وليس معه شيء ، فعاتبته امرأته فقال : " كان معي ضاغط " يعني : من يضيق عليَّ ويمنعني من أخذ شيء وإنما أراد معاذ ربَّه عز وجل ، فظنَّت امرأته أن عمر بعث معه رقيباً فقامت تشكوه إلى الناس ، ومن صار له هذا المقام حالاً دائماً أو غالباً ، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " انتهى من " جامع العلوم والحِكَم " ( ص 161 - 163 ) .
وانظر جواب السؤال رقم ( 106249 ) فهو مهم ، وفي الباب نفسه .

والله أعلم

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...