عنوان الفتوى : هل يتحمل المسلمون إثم عدم دعوتهم الكفار للإسلام ؟
يظهر على قناة " بيس " التلفزيونية العديد من الخطباء والدعاة يقولون لنا : إن لم تقم بدور الدعوة مع كل من عرفت وقابلت من غير المسلمين فإنهم سيخاصمونك بين يديّ الله يوم القيامة . فهل هذا صحيح ؟ وما الدليل على هذا ؟ وهل يُعقل أن هذا الكلام ينطبق على كل شخص أقابله ، أم إنه خاص فقط بمن أعرفه معرفة جيدة ؟ وهل زملائي في العمل وجيراني ومن أعرفهم في الشارع الذي أمرُّ منه كلهم من ضمن هؤلاء الناس الذين تجب دعوتهم ؟
الحمد لله.
فإن الدعوة إلى الله واجبة من حيث العموم ، وجوبا على الكفاية ؛ فإذا قام بها من يكفي من الدعاة والعلماء وطلاب العلم : سقط ذلك عن باقي المسلمين، قال تعالى ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة/ 122 .
وقد يتعين ذلك على فرد بعينه ، كأن يكون في موطن لا يوجد فيه غيره ، أو أن توجد ثغرة لا يستطيع سدها أحد إلا هو ، أو لا تسد إلا بوقوفه مع من يدعو إلى الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم ، لكنها فرض على الكفاية ، وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره ، وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتبليغ ما جاء به الرسول ، والجهاد في سبيل الله وتعليم الإيمان والقرآن " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 15 / 166 ) .
ومما يدل على أن الدعوة إلى الله فرض
كفاية قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران/ 104 .
قال الشيخ السعدي – رحمه الله - : " وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم
جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه ، ويدخل في ذلك العلماء
المعلِّمون للدين والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام
ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة ، والمجاهدون في سبيل الله ، والمتصدون لتفقد أحوال
الناس ، وإلزامهم بالشرع ، كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ، وغير ذلك من
شرائع الإسلام ، وكتفقد المكاييل والموازين ، وتفقد أهل الأسواق ، ومنعهم من الغش
والمعاملات الباطلة ، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة
في قوله ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ) إلخ ، أي : لتكن منكم جماعة يحصل المقصود
بهم في هذه الأشياء المذكورة ، ومن المعلوم المتقرر : أن الأمر بالشيء أمر به وبما
لا يتم إلا به ، فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه : فهو مأمور به " .
انتهى من " تفسير السعدي " ( ص 142 ) .
ثانياً:
أما من قال إن من يموت من الكفار سيكون خصمك أمام الله : فهذا كلام مرسَل ليس عليه
دليل ، ويمكن أن نقسِّم الكفار المدعوين في هذا إلى أقسام :
القسم الأول : من يعيش من الكفار في بلاد لا يعلم عن حياته فيها أحد ، أو لا يمكن
الوصول إليه بسهولة : فهؤلاء لا ينبغي لمسلم أن يحمِّل آثامهم لعموم المسلمين ، كما
يفعله بعض من يشتغل في الدعوة فيقول : اليوم مات في أدغال أفريقيا بعض الوثنيين ،
وإن إثم هؤلاء في رقاب المسلمين ! وهذا قول باطل لا يصح نسبته للشريعة وإلا للزم
منه تأثيم النبي صلى الله عليه وسلم – عياذاً بالله – وصحابته الكرام ؛ حيث مات في
زمن بعثته الكثير من أهل الهند والسند والصين وأفريقيا وغيرها من أصقاع الأرض ، فهل
هؤلاء يأتون يوم القيامة خصماء للمسلمين ؟! وهل كلَّف الله تعالى المسلمين ما لا
طاقة لهم به ، حتى يؤثمهم أولئك وهم لم يحصل منهم تقصير أصلاً ؟! والنبي صلى الله
عليه قد بذل وسعه في إرسال الكتب لبعض الملوك وإلى الناس ، وأرسل الدعاة إلى بعض
الأماكن قدر الوسع والطاقة ، وإذا كان ثمة إثم على أحد من المسلمين فعلى من رأى
أولئك على الكفر ، ولم يبلغهم دين الله ، أو على من علم بوجودهم ، واستطاع الوصول
إليهم ، ولم يفعل .
القسم الثاني : مَن سمع مِن الكفار بدعوة الإسلام ، وعلم أنه ثمة رسول خاتم ، ودين
يجب عليه الدخول فيه : فهذا قد أقيمت عليه الحجة بما سمع وعلم ، ولا يجب على المسلم
إذا رآه وخالطه أن يبلغه دين الله أو يدعوه إلى الدخول في الإسلام ، ولا يأثم إذا
تركه من غير دعوة ؛ لما سبق من إقامة الحجة عليه ، ونحن نعلم أن النبي صلى الله
عليه وسلم قد بلَّغ قريشاً دين الله تعالى وأمرهم بالدخول فيه في نودايهم وفي
اجتماعاتهم ، ولم يكن بعدها كلما رأى كافراً منهم دعاه إلى الإسلام قبل الحديث معه
، ومما يدل على ذلك عقد صلح الحديبية مع سهيل بن عمرو وليس فيه دعوته له للدخول في
الإسلام ، ومنه ما حصل من بيع وشراء مع اليهود .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - : " وإذا كان في محل محدود كـ " قرية "
و " مدينة " ونحو ذلك ووُجد فيها مَن تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله : كفى ،
وصار التبليغ في حق غيره سنَّة ؛ لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله
على يد سواه " .
انتهى من " فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 332 ) .
وعليه : فقول من يقول " بأن هذا الكافر
سيخاصم المسلم يوم القيامة إن لم يدعه لا يصح ؛ لأن كونه خصمه يوم القيامة يلزم منه
أن الكافر يكون يومئذ صاحب حجة على المسلم المقصر ، وصاحب عذر أمام الله تعالى
فيدلي به ، وهذا باطل ؛ لأن غير المسلم تقام عليه الحجة بمجرد معرفته بالرسالة
وسماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ
بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار ) رواه مسلم ( 153
) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
فمن بلغته الدعوة الإسلامية من غير المسلمين وأصر على كفره فهو من أهل النار .
ولاشك أن غالب من يعايشون المسلمين ، أو يعايشهم المسلمون ، قد بلغتهم الدعوة ،
وخاصة في هذا الزمان المنفتح .
قال علماء اللجنة الدائمة : " من عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة إلى الإسلام وغيره ،
ثم لا يؤمن ، ولا يطلب الحق من أهله ، فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصر
على الكفر ، ويشهد لذلك عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم " .
انتهى من " فتاوى اللجنة " ( 2 / 148 ) .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي .
إلا أن الحرص على البيان والتعريف
ومزيد الإيضاح والتفهيم لهم ، هو من تمام إقامة الحجة عليهم ، والبراءة إلى الله من
تبعتهم .
القسم الثالث : من يُرى من الكفار ، ويُعلم أنه لم تبلغه الرسالة ولم يدعه أحد إلى
الإسلام ، أو جاء طالباً التعرف على الإسلام : فهذا يجب على المسلم أن يدعوه إلى
الإسلام ، وأن يعرِّفه بدين الله تعالى وجوباً عينيّاً ، بما يستطيعه ويعلمه من دين
الله ، وإذا لم يفعل المسلم ذلك فيكون آثماً إثماً عظيماً ، وأما الكافر نفسه فليس
ثمة دليل أنه يأتي خصيماً لذلك المسلم ، لكنه يكون معذوراً عند الله ، إذ لم تبلغه
رسالة الإسلام ، فيُختبر يوم القيامة .
ومن علِم بوجود من لم تبلغه رسالة الإسلام ، وجب عليه أن يسعى إليه ، إذا كان
مستطيعاً ، أو يدل عليه مستطيعاً من الدعاة بحسب الوسع والطاقة والقدرة .
ثم إن تنوع تبليغه رسالة الإسلام تتنوع بحسب الزمان والمكان ؛ فقد تكون بالهاتف ،
أو قد تكون المراسلة – كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الملوك في زمانه – أو
غيرها من الطرق الحديثة ، وما لا يستطيعه المسلم فلا يكلَّف به ، ولذا لم يبعث
النبي صلى الله عليه وسلم دعاة إلى الأرض كلها ؛ لعدم وجود من يسد هذا الباب ، ولم
يراسل أشخاص الكفار كلهم ، لعدم القدرة على ذلك .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - : " وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنتَ في
مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك , كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه يكون فرض
عين ويكون فرض كفاية , فإذا كنتَ في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر ، ويبلغ
أمر الله سواك : فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك , فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة
والتبليغ ، والأمر والنهي غيرك : فإنه يكون حينئذ في حقك سنَّة , وإذا بادرت إليه
وحرصت عليه : كنت بذلك منافسا في الخيرات ، وسابقاً إلى الطاعات " انتهى من " فتاوى
الشيخ ابن باز " ( 1 / 331 ) .
وقال – رحمه الله – أيضاً - : " ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله ، وإلى بقية الناس : يجب على العلماء حسب طاقتهم , وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم ، أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون , وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة .
وبهذا يعلم أن كونها فرض عين وكونها
فرض كفاية : أمر نسبي يختلف , فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى
أشخاص ، وسنَّة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام ؛ لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من
قام بالأمر وكفى عنهم .
أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة : فعليهم من الواجب أكثر ,
وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان ، بالطرق الممكنة
وباللغات الحية التي ينطق بها الناس , يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل
دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها , باللغة العربية وبغيرها ؛ فإن الأمر الآن
ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها , طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من
الطرق التي تيسرت اليوم ولم تتيسر في السابق " انتهى من " فتاوى الشيخ ابن باز " (
1 / 332 ) .
وعليه : فمن كان مستطيعاً إنشاء فضائية أو مواقع إلكترونية لتوصل رسالة الإسلام إلى أهل الديار التي يُعلم عدم سماعهم بالإسلام – أو سماعهم له مشوَّهاً – فهذا يجب عليه أن يفعل ذلك ولا يُعذر بتخلفه وبخله وكسله ، وإن ذلك الأمر يتعين على ولاة الأمور وعلى الأغنياء أكثر من غيرهم .
قال علماء اللجنة : " أما مَن عاش في
بلاد غير إسلامية ولم يَسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن والإسلام :
فهذا - على تقدير وجوده - حكمه حكم أهل الفترة يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه
شريعة الإسلام أصولاً وفروعاً ، إقامةً للحجة ، وإعذاراً إليه ، ويوم القيامة
يعامَل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه أو بلهه أو صغره وعدم تكليفه " .
انتهى من " فتاوى اللجنة " ( 2 / 150 ) .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد
الرزاق عفيفي .
وانظر أجوبة الأسئلة ( 131777 ) و (
26721 ) و (
84308 ) .
والله أعلم