عنوان الفتوى : وجه الجمع بين النصوص الواردة في الصلاة والذكر أنهما خير الأعمال
هل نستطيع الجمع بين الحديثين: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ...الحديث. وحديث: خير أعمالكم الصلاة. بأن نقول إن خير أعمالكم الصلاة أي صلاة النوافل الثابتة في السنة كالضحى والتسبيح والراوتب والتهجد وغيرها. لا يزيد عليها. فإذا فرغ المسلم من كل هذه النوافل الثابتة في السنة فبعد ذلك يكون أفضل عمله على الاطلاق هو الذكر في سائر الأوقات بدون استثناء. هل هذا الجمع والتفسير صحيح مناسب للحديثين؟ جزاكم الله خيرا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا التوفيق المذكور لم نر من قال به من أهل العلم، ولا نراه صحيحا، ومن تأمل في النصوص علم أنه لا يوجد تعارض حتى يُطلب توافق، فالصلاة تتضمن الذكر فقد قال الله تعالى في شأن الصلاة: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طـه:14].
قال ابن كثير: معناه: صل لتذكري.
وفي حديث مسلم: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن.
وقد فسر الطبري و القرطبي قوله تعالى إخباراً عن سليمان أنه قال: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ {ص:32}، فسر قوله عن ذكر ربي بالصلاة.
ونفيدك في مسألة المفاضلة بين الأعمال واختلاف الإجابة عن أي الأعمال أفضل أن أهل العلم ذكروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس بما يصلح لهم، فيخاطب كل صنف بحسب حاله ، فيذكر له ما هو أفضل له وأنفع .
قال ابن دقيق العيد: وقد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والذي قيل في هذا: إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص، أو من هو في مثل حاله، أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي ترشد القرائن إلى أنها المراد، ومثال ذلك: أن يحمل ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم من قوله: ألا أخبركم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم؟. وفسره بذكر الله تعالى على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم، أو من هو في صفاتهم، ولو خوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهل للنفع الأكبر في القتال لقيل له "الجهاد" ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال ولا يتمحض حاله لصلاحية التبتل لذكر الله تعالى، وكان غنياً ينتفع بصدقة ماله لقيل له "الصدقة" وهكذا في بقية أحوال الناس، قد يكون الأفضل في حق هذا مخالفاً في حق ذاك، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (مدارج السالكين) ما ملخصه: أهل مقام (إياك نعبد) لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق، فهم في ذلك أربعة أصناف: ـ الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها. ـ الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا. ـ الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل. ـ الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به. والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك. والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به... والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك. والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذية الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم. فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى .. اهـ.
إلى آخر ما قال رحمه الله.
والله أعلم.