عنوان الفتوى : ومضات هادية على طريق إصلاح السرائر
كيف لنا أن نصلح باطننا أو سرائرنا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإصلاح السرائر يكون بدوام مراقبة الله جل وعلا، وإصلاح المقاصد والنيات، وأن يستشعر العبد اطلاع ربه عليه في كل أموره وأحواله، فقد وصف الله سبحانه نفسه بأنه رقيب على كل شيء قال سبحانه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا {الأحزاب:52}
فمن راقب الله سبحانه في أموره أورثه هذا صلاح الباطن الذي عبر عنه القرآن بـ "تقوى القلوب" قال سبحانه: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ {الحج:32}.
ومن أعظم ما يفيد في أمر إصلاح الباطن دفع الخواطر النفسانية والهواجس الشيطانية التي تطرأ على القلب، فإن الاسترسال معها يفسد القلب، وفساد القلب يترتب عليه فساد الأعمال ولا بد. قال ابن القيم رحمه الله في كتاب " الفوائد":
قاعدة جليلة: مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإيرادات، والإيرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العدة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها. انتهى.
ويقول ابن القيم أيضا رحمة الله تعالى عليه في كتابه طريق الهجرتين: قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال وهي شيئان: أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها والحذر من إهمالها والاسترسال معها فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء ؛ لأنها بذر الشيطان والنفس في أرض القلب فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال.
ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزا أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذا لم يدفعها وهي خاطر ضعيف كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها .
فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟ قلت: أسباب عدة.
أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك.
الثاني: حياؤك منه.
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته.
الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.
السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويستعر شرارها فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.
السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلا بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعا في قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه، فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة، فأخرجتها واستوطنت مكانها، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه.
التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلا، فقلب تملكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد.
العاشر: أن تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس. انتهى.
ومن أعظم أسباب دفع هذه الخواطر الرديئة أن يكثر العبد من قراءة القرآن بالخشوع والتدبر وحضور القلب يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:....... دوام التفكر وتدبر آيات الله بحيث تستولي على الفكر وتشغل القلب، فاذا صارت معاني القران مكان الخواطر من قلبه، وجلس ( القلب) على كرسيه وصار له التصرف، وصار هو الأمير المطاع أمره، فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق. انتهى
ولمزيد الفائدة تراجع الكتب التي تهتم بهذا الجانب خصوصا كتب ابن القيم رحمه الله.
والله أعلم.