عنوان الفتوى : عدم تعرض الإنسان للبلاء لا يدل على صلاحه أو فساده
ماذا يدل عدم التعرض للابتلاء؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فعلى المسلم أن يطلب العافية ما أمكنه، وأن لا يسعى في تعريض نفسه للبلاء، فإن عافاه الله تعالى ولم يعرضه لشيء من البلاء فهذا فضله ورحمته بعبده، ولا يدل ذلك على صلاح العبد، أو فساده، إنما الذي يدل على ذلك ما يأتي به العبد من امتثال أمر ربه واجتناب نهيه في الأحوال المختلفة، فإذا أنعم الله على العبد وعافاه من البلاء فإنه مأمور أن لا يعرض له نفسه كما دلت على ذلك نصوص كثيرة، وعليه أن يجتهد في شكر ربه على نعمته، والقيام بواجب عبوديته، وهو على خير عظيم إن كان ممن أنعم عليه فشكر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. رواه مسلم.
وليعلم أن السراء والعافية قد تكون بلاء وامتحانا للعبد أيشكر أو لا؟ كما قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً {الأنبياء:35} .
وقال فيما أخبر به من قول سليمان عليه السلام: قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ {النمل:40}. ولهذا قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
فقد يكون هذا الذي يظن أنه لم يتعرض للبلاء مبتلى من حيث لا يشعر، والواجب على المسلم أن يقوم بواجب العبودية في الحال التي هو عليها سواء كان مبتلى أو لا، فإن فعل ما أمر به فهذا دليل على توفيق الله له وأنه أراد به الخير، والعكس بالعكس، وهذا كلام نفيس لابن القيم ـ رحمه الله ـ نسوقه لفائدته، قال في أول الوابل الصيب: العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث:
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه فقيدها الشكر، وهو مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنا والتحدث بها ظاهرا وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها، فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها ففرضه فيها ـ الصبر ـ والتسلي، والصبر حبس النفس عن التسخط بالمقدور وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن المعصية كاللطم وشق الثياب ونتف الشعر ونحوه فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة واستحالت البلية عطية وصار المكروه محبوبا، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية الضراء وله عبودية عليه فيما يكره كما له عبودية فيما يحب وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون والشأن في إعطاء العبودية في المكاره ففيه تفاوت مراتب العباد وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية، ونفقته في الضراء عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين، فمن كان عبدا لله في الحالتين قائما بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: أليس الله بكاف عبده. إلى آخر كلامه رحمه الله.
فليجتهد الموفق في شكر نعمة الله عليه، وليوطن نفسه على الصبر متى أصابته بلية، وليكثر من الاستغفار لذنوبه، وهو بذلك على خير عظيم ـ إن شاء الله.
والله أعلم.