عنوان الفتوى : القول الصحيح في أول ما نزل من القرآن الكريم
في حديث جابر أن أول ما نزل من القرآن يا أيها المدثر. كيف نجمع بينه وبين حديث عائشة الذي جاء فيه أن أول ما نزل من القرآن اقرأ بسم ربك الذي خلق ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن مذهب الجمهور ترجيح قول عائشة رضي الله عنها كما قال ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد :
ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة, فجاء الملك وهو بغار حراء, وكان يحب الخلوة فيه, فأول ما أنزل عليه "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"(العلق:1) هذا قول عائشة والجمهور.
وقال جابر: أول ما أنزل عليه:"يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" والصحيح قول عائشة لوجوه:
أحدها : أن قوله:"ما أنا بقارئ" صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئا.
الثاني: الأمر بالقراءة في الترتيب قبل الأمر بالإنذار , فإنه إذا قرأ في نفسه, أنذر بما قرأه, فأمره بالقراءة أولا, ثم بالإنذار بما قرأه ثانيا.
الثالث: أن حديث جابر , وقوله: أول ما أنزل من القرآن "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" قول جابر , وعائشة أخبرت عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بذلك.
الرابع: أن حديث جابر الذي احتج به صريح في أنه قد تقدم نزول الملك عليه أولا قبل نزول "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" فإنه قال: "فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء, فرجعت إلى أهلي فقلت: زملوني دثروني, فأنزل الله:"يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" وقد أخبر أن الملك الذي جاءه بحراء فقلت: زملوني دثروني, فأنزل الله:"يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" وقد أخبر أن الملك الذي جاءه بحراء أنزل عليه "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" فدل حديث جابر على تأخر نزول "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" والحجة في روايته, لا في رأيه. والله أعلم.
وفي مجموع الفتاوى لشيخ الاسلام: أول ما أنزل من القرآن "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" عند جماهير العلماء. وقد قيل "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" روي ذلك عن جابر. والأول أصح. فإن ما في حديث عائشة الذي في الصحيحين يبين أن أول ما نزل " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " نزلت عليه وهو في غار حراء وأن "المدثر" نزلت بعد . وهذا هو الذي ينبغي . فإن قوله"اقرأ" أمر بالقراءة لا بتبليغ الرسالة وبذلك صار نبيا . وقوله " قُمْ فَأَنْذِرْ " أمر بالإنذار وبذلك صار رسولا منذرا. ففي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم . فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ُثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك فقال : اقرأ. قال، ما أنا بقارئ. قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت : ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ...." قال ابن شهاب الزهري: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: أخبرني جابر بن عبدالله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي : "فبينما أنا أمشي سمعت صوتا فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء على كرسي بين السماء والأرض فجئت حتى هويت إلى الأرض. فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني فزملوني . فأنزل الله تعالى " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ" إلى قوله " وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" . فهذا يبين أن "المدثر" نزلت بعد تلك الفترة وأن ذلك كان بعد أن عاين الملك الذي جاءه بحراء أولا. فكان قد رأى الملك مرتين.
وهذا يفسر حديث جابر الذي روي من طريق آخر كما أخرجاه من حديث يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبدالرحمن عن أول ما نزل من القرآن . قال: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ". قلت : يقولون "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ". فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبدالله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : جاورت بحرا؛ فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا . فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا . قال : فنزلت "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3). فهذا الحديث يوفق المتقدم وإن "المدثر" نزلت بعد أن هبط من الجبل وهو يمشي وبعد أن ناداه الملك حينئذ . وقد بين في الرواية الأخرى أن هذا الملك هو الذي جاءه بحراء وقد بينت عائشة أن "اقرأ" نزلت حينئذ في غار حراء. لكن كأنه لم يكن علم أن "اقرأ" نزلت حينئذ بل علم أنه رأى الملك قبل ذلك وقد يراه ولا يسمع منه . لكن في حديث عائشة زيادة علم وهو أمره بقراءة "اقرأ" . وفي حديث الزهري أنه سمى هذا "فترة الوحي" وكذلك في حديث عائشة "فترة الوحي" . فقد يكون الزهري روى حديث جابر بالمعنى وسمى ما بين الرؤيتين "فترة الوحي" كما بينته عائشة ؛ وإلا فإن كان جابر سماه" فترة الوحي " فكيف يقول إن الوحي لم يكن نزل ؟ . وبكل حال فالزهري عنده حديث عروة عن عائشة ؛ وحديث أبي سلمة عن جابر ؛ وهو أوسع علما وأحفظ من يحيى بن أبي كثير لو اخلتفا . لكن يحيى ذكر أنه سأل أبا سلمة عن الأولى فأخبر جابر بعلمه ولم يكن علم ما نزل قبل ذلك وعائشة أثبتت وبينت .
وفي شرح النووي على صحيح مسلم : قوله " أن أول ما أنزل قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما أنزل على الاطلاق اقرأ باسم ربك كما صرح به في حديث عائشة رضي الله عنها. وأما يا أيها المدثر فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر والدلالة صريحة فيه في مواضع منها قوله وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر، ومنها تتابع الوحي يعني بعد فترته، فالصواب أن أول ما نزل اقرأ، وأن أول ما نزل بعد فترة الوحي يا أيها المدثر .
والله أعلم.