عنوان الفتوى : حكم الاعتماد على الحسابات الفلكية وترك الرؤية الشرعية
الرسول صلى عليه وسلم قال في هلال رمضان: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ـ لأنها كانت الطريقة الوحيدة لمعرفة أول يوم في رمضان، والله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه: والشمس والقمر بحسبان ـ وعلم الفلك اليوم أثبت هذا الآن، فلما ذا لا نرجع لكلام الله سبحانه وتعلى؟ وقد تمكن العلم من حساب أول يوم من رمضان لكل سنة حتى عام 5010م، وفي هذا توحيد للأمة الأسلامية.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن جعل هذه الشريعة سهلة تناط الأحكام الشرعية فيها بأمور مشاهدة يستوي في العلم بها العامي والعالم والبدوي والحضري، ولذا قال صلى الله عليه وسلم مرشدا إلى هذا المعنى ومشيرا إليه: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا.
قال ابن رجب ـ رحمه الله: فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحسباناتها، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يرى بالبصر ـ وهو رؤية الهلال ـ فإن غم أكملنا عدة الشهر ولم نحتج إلى حساب.
انتهى.
فإذا علمت هذا وتبين لك أن تعليق حكم دخول الشهر برؤية الهلال طالعا، فاعلم أن علم الفلك أو ما يعرف عند العلماء المتقدمين بعلم الهيئة علم قديم، وأن معرفة حساب الشهور من خلال هذا العلم ليس أمرا حادثا، ومع هذا، فإن العلماء لم يلتفتوا إليه واتفقوا أو كادوا على أن المعتبر في إثبات دخول الشهر وخروجه هو ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه، وهو الرؤية البصرية، ودل على ذلك بوضوح ما ثبت في الصحيح: لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه.
قال القاري في المرقاة: وفي شرح السنة - وهو للبغوي، رحمه الله - قال ابن سريج ـ أحد أئمة الشافعية - فاقدروا ـ خطاب لمن خصه الله بهذا العلم - يعني علم الفلك، وكان ابن سريج يرى جواز العمل به بقيود - وقوله: فأكملوا العدة ـ خطاب للعامة، وهو مردود لحديث: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ـ فإنه يدل على أن معرفة الشهر ليست إلى الكتاب والحساب ـ كما يزعمه أهل النجوم ـ وللإجماع على عدم الاعتداد بقول المنجمين ولو اتفقوا على أنه يرى، ولقوله تعالى مخاطبا لخير أمة أخرجت للناس خطابا عاما: فمن شهد منكم الشهر فليصمه.
البقرة.
ولقوله بالخطاب العام: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ـ ولما في نفس هذا الحديث: لا تصوموا حتى تروه ـ ولما في حديث أبي داود والترمذي عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: الصوم يوم يصومون، والفطر يوم يفطرون.
انتهى.
وقد حمل ابن سريج ـ رحمه الله ـ قوله صلى الله عليه وسلم: فاقدروا له ـ على الإرشاد للعمل بالحساب.
وفي الفتح لابن حجر: وذهب آخرون إلى تأويل ثالث، قالوا: معناه: فاقدروه بحساب المنازل، قاله أبو العباس بن سريج ـ من الشافعية ـ ومطرف بن عبد الله ـ من التابعين ـ وابن قتيبة ـ من المحدثين ـ قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة: فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا.
انتهى.
ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: فاقدروا له ـ خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله: فأكملوا العدة ـ خطاب للعامة.
قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد، قال: وهذا بعيد عن النبلاء.
وقال ابن الصباغ: أما بالحساب: فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا.
قلت - أي ابن حجر: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك، فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته، هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرق بينهم كان محجوجا بالإجماع قبله.
انتهى باختصار.
وقال الحافظ ـ أيضا ـ في شرح حديث: إنا أمة أمية: فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا ويوضحه قوله في الحديث الماضي: فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ـ ولم يقل فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم.
انتهى.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كلام مفصل في هذه المسألة يرجع إليه في الجزء الخامس والعشرين من مجموع فتاواه ـ عليه الرحمة ـ ونقتبس هنا شذرة مما قاله مناسبة للمقام، قال ـ رحمه الله: فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يري أو لا يري لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًا بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم.
انتهى محل الغرض منه.
وإنما بسطنا القول في هذا مع وضوحه لعموم الحاجة إليه، فإذا تبين لك ما ذكرناه وعلمت أن الاعتماد في ثبوت الأهلة إنما هو على الرؤية دون التفات إلى حساب الحاسبين، فاعلم أن كلمة المسلمين لا تحتاج في اجتماعها لمثل هذا الحساب، وذلك بين لا خفاء به، فإن من قال من العلماء إن رؤية البلد الواحد رؤية لجميع البلاد فحصول هذه الوحدة على قوله واضح، فإنه متى رؤي الهلال في بلد صام جميع المسلمين لرؤيتهم، ومن اعتبر اختلاف المطالع أو الأقاليم فإنه يقول إن هذا الاجتماع غير مأمور به ولا مراد للشارع، فإنهم يختلفون في هذا كما يختلفون في مواقيت الصلوات ولا ضير في ذلك، وعلى كل، فهذه مسألة أخرى غير ما نحن فيه.
والله أعلم.