عنوان الفتوى : ما الحكمة من كتابة الله تعالى لمقادير الخلق في اللوح المحفوظ وهو لا يضل ولا ينسى ؟
كنت في السابق ملحدة ، وكانت تأتيني بعض الشبَه ، ولم أكن أجد لها جواباً ، ومنها : لماذا كَتب الله كل شيء في اللوح المحفوظ مع أن الله لا يضل ولا ينسى ، فكيف هذا ؟
الحمد لله
أولاً:
يعتقد المسلم الذي آمن بالله تعالى ربّاً أنه تبارك وتعالى الحكيم في فعله ، وشرعه ، وحُكمه , ويعتقد المسلم أنه ثمة حكَماً جليلة في أفعاله ، وتشريعاته ، منها ما يُعرف , ومنها ما استأثر الله بعلمه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
الحمد لله رب العالمين ، قد أحاط ربنا سبحانه وتعالى بكل شيء علماً ، وقدرةً ، وحُكماً , ووسع كل شيء رحمةً ، وعلماً ، فما من ذرة في السموات والأرض ، ولا معنى من المعاني ، إلا وهو شاهد لله تعالى بتمام العلم والرحمة ، وكمال القدرة والحكمة , وما خلق الخلق باطلاً , ولا فعل شيئاً عبثاً ، بل هو الحكيم في أفعاله وأقواله ، سبحانه وتعالى ، ثم من حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه ، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه .
" الفتاوى الكبرى " ( 8/197 ) . وينظر : " شفاء العليل " لابن القيم ( ص 190 ) .
وكثير من الحكَم والمقاصد استأثر الله بعلمها وحكمتها ، وانظر جواب السؤال رقم : ( 9603 ) ففيه زيادة بيان مهمة .
ثانياً:
مما لا شك فيه : أن الله سبحانه وتعالى علِم ما يكون من الخلق ، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ , فعلمه تعالى سابق على كتابته ، وقد ذكر العلماء أن القدر له أربع مراتب : العلم ، ثم الكتابة ، ثم المشيئة ، ثم الخلق – وانظر جواب السؤال رقم : ( 49004 ) - .
فالمرتبة الثانية من مراتب القدَر : كتابة مقادير كل شيء ، فالمخلوقات مهما عظم شأنها ، أو دق : قد كتب الله ما يخصها في اللوح المحفوظ ، من خلق وإيجاد ونشأة وإعداد وإمداد ، إلى غير ذلك ، كما قال تعالى : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) الحج/ 70 ، وقال : ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) النمل/ 75 ، وقال تعالى : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) فاطر/ 11 ، والآيات في ذلك كثيرة .
وقد يقال في حكمة ذلك أمور ، منها :
1. إثبات علم الله السابق على تلك الكتابة ، وأنه علم لا يتبدل ، ولا يتغير ، وهو جواب موسى عليه السلام في حواره مع فرعون حيث سأل فرعون عن القرون السابقة ما حالهم هل هم في النار أم لا ، فأجابه موسى أن علم حالهم عند الله ، وهو في اللوح المحفوظ ، وأعلمه أن وجود ذلك العلم في اللوح هو مع اتصاف ربه تعالى بالاستغناء عنه ، وأنه سبحانه لا يتصف بالنسيان ، ولا بالخطأ ، كما هو حال البشر ، قال تعالى : ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى . قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) طـه/ 51 ، 52 .
2. تطمين العبد المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، ففيه التسليم لقضاء الله ، والرضى بقدره . قال الله تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحديد/22.
قال أبو حيان رحمه الله :
" ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك ، وسبق قضائه به فقال : لكيلا تأسوا : أي تحزنوا ، على ما فاتكم ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم ، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، فلذلك لا يحزن على فائت ، لأنه ليس بصدد ألا يفوته ، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك ، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة " انتهى من "البحر المحيط" (10/238) .
وقد أشار صحابي جليل إلى هذه الحكمة ، فعَنْ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ : قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي ) .
رواه أبو داود ( 4700 ) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
3. وفيه بيان لمشيئة الله النافذة التي لا راد لها ، ولا معقب لحكمه . وإليه الإشارة في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ ) .
رواه الترمذي ( 2516 ) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
4. إثبات عظيم قدرة الله ، وكماله ، وإقامة الحجة على الخلق .
ومما لا شك فيه أن كتابة مقادير الخلائق ، وصفاتها ، وأحوالها ، صغيرها وكبيرها ، رطبها ويابسها : أمر عظيم ، وقد بيَّن الله تعالى أنه عليه يسير ؛ إثباتاً لعظيم صفاته ، وكمال جلاله ، قال تعالى : ( أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ ) الحج/ 70 ، وقال الله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) الأنعام/59 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
" هذه الآية العظيمة من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه المحيط ، وأنه شامل للغيوب كلها التي يطلع منها ما شاء من خلقه ، وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين ، فضلا عن غيرهم من العالمين ، وأنه يعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار ، والرمال والحصى والتراب ، وما في البحار من حيواناتها ومعادنها وصيدها ، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها ، ويشتمل عليه ماؤها.
وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ من حبوب الثمار والزروع ، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق ؛ وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات .
وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ هذا عموم بعد خصوص .
إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وهو اللوح المحفوظ ، قد حواها واشتمل عليها ، وبعض هذا المذكور، يبهر عقول العقلاء ، ويذهل أفئدة النبلاء ، فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته في أوصافه كلها ، وأن الخلق -من أولهم إلى آخرهم- لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك ، فتبارك الرب العظيم ، الواسع العليم ، الحميد المجيد ، الشهيد المحيط ، وجل مِنْ إله، لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده . فهذه الآية دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء ، وكتابه المحيط بجميع الحوادث " . انتهى . "تفسير السعدي" (259) .
5. ومن حكَم الكتابة في اللوح المحفوظ : تعليم الخلق الكتابة ، والتدوين ، وأنه إذا كان الخالق المتصف بصفات الجلال ، والكمال ، والمنزه عن الخطأ والنسيان قد كتب علمه ودوَّنه : فالإنسان صاحب النسيان والخطأ أولى بالكتابة .
قال القرطبي – رحمه الله – في تفسير آية سورة " طه " ( قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) - :
هذه الآية ونظائرها - مما تقدم ، ويأتي - تدل على تدوين العلوم ، وكتْبها ؛ لئلا تُنسى ، فإنَّ الحفظ قد تعتريه الآفات ، من الغلط ، والنسيان ، وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع ، فيقيده ؛ لئلا يذهب عنه ، وروِّينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له : أنكتب ما نسمع منك ؟ قال : وما يمنعك أن تكتب ، وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب ، فقال : ( عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ... .
" تفسير القرطبي " ( 11 / 205 ، 206 ) .
وبعد ، فلتعلمي – أيتها الأخت السائلة – أنه لا ينبغي لك أن تشتغلي بالشبهات ، والانسياق وراءها ، ودين الله تعالى فيه من الآيات البينات ما لا يخفى على عاقل ، فانشغلي بطلب العلم ، وقراءة القرآن ، وتدبر آياته ، واقرئي كتب أهل العلم الراسخين ، ولا تنشغلي بالوساوس ، والشبهات ؛ فإنها مهلكات ، فإذا قوي إيمانكِ ، ورسخ علمكِ : صار قلبك أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا ، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ !!
واحمدي الله تعالى أن نجاك من الإلحاد ، واستعيني بالله ربك على ثبات دينكِ ، والفوز بمرضاته تعالى .
والله أعلم