عنوان الفتوى : ذكرى وبشرى لمن ابتلاهم الله تعالى بشيء من الإعاقة
أنا فتاة معاقة ، وعلاقتي الاجتماعية ضعيفة ، ودائماً ما تدور في ذهني أفكار الانتحار ، حتى إني أشك أن أحداً ما فعل لي سحراً ، كما أني أخاف من المستقبل ، وماذا سيحصل لي إذا مات والدي لأنه هو الشخص الوحيد الذي يعولني ، ويهتم بي ، هو ، ووالدتي ، لا أدري ما العمل على الرغم من أني أصلي الصلوات الخمس ، وأقرأ القرآن ، ما هي نصيحتكم ؟ وهل سيعاقبني الله على هذه الوساوس والأفكار ؟
الحمد لله
أولاً :
أختي الفاضلة
نستثير فيك الإيمان ، ومحبة الرحمن ، أيكون المؤمن ضعيفاً إلى درجة تمني الانتحار ، والهلاك ، الموجب لغضب الرحمن ؟! أمِن أجل فقدان لذة من لذات الدنيا يجرُّ الإنسان على نفسه خسران الدنيا ، والآخرة ؟! ألا يعلم المسلم أن هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار ؟! وكل ما في هذه الدنيا من نعَم ، ومتاع ، وزخارف ، وشهوات : لا شيء بالنسبة لنعيم الآخرة .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ) . رواه مسلم (2807) .
ثم إن عِظَم الجزاء والثواب مع عِظَم البلاء , ولو يعلم الإنسان ما له من ثواب وجزاء في حال صبره على البلاء : لم يجزع .
عن جابر رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ) رواه الترمذي (2402) ، وحسَّنه الألباني في"صحيح الترمذي" .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ) رواه الترمذي (2396) ، وابن ماجه (4031) وحسنه الألباني في "سنن الترمذي" .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه الترمذي (2399) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
والله تعالى يقدر الابتلاءات على المسلم لحكمٍ كثيرة ، ومصالح عظيمة ، ذكرنا بعضها في جواب السؤال رقم (21631) فراجعيه فإنه مهم .
والمسلم جنته في صدره ، بإيمانه ، وتقواه ، ويقينه بالله ، ويستطيع الإنسان أن يجد السعادة ولو كان مكبَّلاً بأمراض الدنيا كلها ، فلا نعيم يعدل نعيم الإيمان بالله ، والرضا بقضائه .
قال ابن القيم رحمه الله :
سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : "إنَّ في الدنيا جنَّة مَن لم يدخلها : لا يدخل جنة الآخرة " ، وقال لي مرة : " ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري ، إن رحتُ فهي معي لا تفارقني ، إنَّ حبْسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة" .
"الوابل الصيِّب" (ص 67) .
ويَقصد رحمه الله بجنة الدنيا : حلاوة الإيمان ، والتقوى ، ولذة الأعمال الصالحة .
ثانياً :
قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) إبراهيم/ 34 ، فنِعَمُ الله على الإنسان كثيرة ، فيتخيل المسلم أن لو كان سليماً معافى , وقد سلبه الله الإيمان بالله : فأي سعادة ، وأي لذة تكون في هذا الدنيا بغير الإيمان ، وطاعة الرحمن ؟! ، وليتخيل المسلم لو أن الدنيا بما عليها كانت في ملكه ، وتحت تصرفه , وقد منعه الله التوفيق للهداية : فأي حياة هذه التي سيعيشها ؟! ؛ فنِعمة الإيمان ، ونعمة الاستقامة : لا يعدلها نِعم الدنيا أجمع .
ولذلك فالمعوق على الحقيقة هو من لم ينتفع بنعم الله عليه في استعمالها بما أوجب الله عليه ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف/179 .
وقال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج/46 .
والمؤمن الحق صاحب عزيمة , ولا يستسلم للأمر الواقع الذي يُضعفه ، بل يسعى ، ويجد ، ويبذل ، ويقدم ما استطاع , حتى لو كان معاقاً .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَِزْ) رواه مسلم (2664) .
فأنت معك العقل لتفكري ، واللسان لتنطقي , واليد لتكتبي ؛ هذه الأدوات يستطيع بها المسلم - بعد عون الله وتوفيقه - أن يتحصل على المجد ، والرفعة ، والفضائل التي لا تحصى .
فهذا عطاء بن أبي رباح كانت فيه مجموعة من الإعاقات , ومع ذلك ساد أهل زمانه بالعلم , وكان ينادى في موسم الحج : " لا يُفتي الناسَ إلا عطاء بن أبي رباح " .
جاء في ترجمته في " سير أعلام النبلاء " ( 5 / 80 ) : أنه – رحمه الله - كان أعور ، أشل ، أفطس ، أعرج ، أسود ، وقطعت يده مع ابن الزبير ، وأصابه العمى بعد ذلك .
ومع ذلك ساد أهل العافية والسلامة في زمانه ، فكم من معاق في بدنه تحصَّل على ما لم يتحصل عليه الأصحاء الأقوياء ، وفي تاريخنا المعاصر أمثلة كثيرة لذلك ، فهذا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقد بصره في صغره , ولكنه ملأ الدنيا بعلمه ، وأخلاقه ، وبذله .
وهذا مثال آخر :
تمت مقابلةٌ من إحدى الصحف مع كفيف يُدعى : محمود بن محمدٍ المدنيّ ، درس كتب الأدبِ بعيونِ الآخرين ، وسمع كتب التاريخِ ، والمجلاتِ ، والدورياتِ ، والصحف ، وربما قرأ بالسماعِ على أحدِ أصدقائِه حتى الثالثةِ صباحاً ، حتى صار مرجعاً في الأدب ، والطُّرفِ ، والأخبار .
"لا تحزن" (ص 395) ترقيم الشاملة .
وهذا الشيخ أحمد ديدات رحمه الله ، لم تبلغ إعاقتك ما بلغت إعاقته ، فقد أصيب بجلطة في الدماغ ، فشُلَّ بدنه بالكامل ، لم يكن يتحرك منه إلا أجفان عينه ! واستمر ذلك معه قريباً من عشر سنوات ، ومع هذا فهل ترك الدعوة ؟ وهل قنط من رحمة الله ؟ وهل رغب بالانتحار ؟ كل ذلك لم يكن ، بل استمر في الدعوة إلى الله أجفان عينه ، حتى آخر رمق من حياته ، فكان يرد على الأسئلة ، ويكلم الزوار ، ويدعو إلى الله بجفني عينيه ! في لغة خاصة يحادث بها الناس ، حتى إنه أوصى بعض زواره بحركة جفونه بما ترجمته : "إحذروا أن تزهدوا في الدعوة ، أو تدَعوها ، مهما كانت الظروف صعبة ، فانظروا إليَّ ، انقطع عنِّي كل شيء ، حتى حركة اللسان ، ولم يبق إلا حركة العين ، وأنا أبلغ الدعوة ، وأكملها ، بحركة العين" .
فلا ييأس إلا ضعيف القلب والإيمان ؛ فالمؤمن قوته في إيمانه ويقينه ، وفي قلبه ورجاحة عقله .
فالنصيحة للأخت أن تستعين بالله , وأن تشمر عن ساعد الجد , وأن تبني مجداً وعزّاً ؛ وأن تقهر وساوس الشيطان ، وذلك بأن تجتهد على نفسها بتحصيل علم ديني ، أو دنيوي – مع ما يجب عليها من علوم الشرع - ، وأن تنظم وقتها لتحصيل ذلك ؛ وسترى النتيجة بنفسها بعد صبر ، وجد ، واجتهاد , إن شاء الله ، فالعزيمة الصادقة ، والرغبة المؤكدة ، يحقق بها الإنسان ما لا يحققه جماعة من الناس ، مع احتساب الأجر والثواب من الله على البلاء .
سادساً :
واحرصي أيتها الأخت السائلة على انتقاء صحبة صالحة من بنات جنسك ، وعلى انتقاء بعض قريبات لك ؛ لفك وحشتك ، والقضاء على وحدتك ، وإن للصحبة الصالحة أثرها الطيب عليك ، تعينك على طاعة الله ، وتقضي معها أوقاتًا في المفيد لك دنيا وأخرى ، تطالعون كتاباً ، وتسمعون شريطاً ، وتتحدثون في المباح من الأحاديث ، وبذا تتخلصين من ضعف علاقتك الاجتماعية التي تشكين منها .
وأما بخصوص العناية ، والنفقة ، من والديك ، وأنك تخشين فقدانها بموتهما : فلا تجعلي ذلك همّاً تعيشين معه ؛ فإن من شأن ذلك أن يصيبكِ بالإحباط ، وتذكري دوماً رحمة الله بعباده ، وعظيم فضله على خلقه ، وأنه تعالى يرزق الطير في السماء ، والسمك في البحار ، وأنه ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها ، فهو الكفيل سبحانه بكل جميل ، فوكلي أمرك لربك تعالى ، وسليه المزيد من فضله ، وسليه أن يرزقك الصبر على البلاء ، والأجر يوم اللقاء ، ولا يخيب الله دعوة عباده الصادقين ، وفي تقوية قلبك بهذا اليقين تقضين على وساوس الشيطان ، وتنطلقين في العمل المثمر الجاد .
نسأل الله تعالى أن يوفقك إلى ما يحب ويرضى .
والله أعلم
أسئلة متعلقة أخري |
---|
ذكرى وبشرى لمن ابتلاهم الله تعالى بشيء من الإعاقة |