أرشيف المقالات

اصبري ولك الجنة - عبد الرحمن ضاحي

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
عن عطاء بن أبى رباح قال:  «قال بن عباس رضي الله عنهما أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بلى، قال: هذه المرأة ُ السَّوْداءُ، أتَتِ النبي َّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالتْ: إني أُصْرَعُ، وإني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي، قال: (إن شِئتِ صبرتِ ولك الجن َّةُ، وإن شِئتِ دعَوتُ اللهَ أن يُعافيَكِ).
فقالتْ: أصبِرُ، فقالتْ: إني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أنْ لا أتَكَشَّفَ، فدَعا لها»

تأملت في لفظة النبي (إن شِئتِ صبرتِ ولك الجنَّةُ، وإن شِئتِ دعَوتُ اللهَ أن يُعافيَكِ)، ما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يخيرها بين كلا الخيارين ولم يدعو لها مباشرة بالمعافاة من ألم الصرع؟ ما الحكمة من وراء تقديم النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة خيار الصبر وربطه بالجنة الذي جعله خيار صعب الرفض؟

لقد حرص النبي عليه الصلاة والسلام على ربط أصحابه بالمكافأة الأخروية التي لا يعدلها مكافأة، فكان يطرحها كحل في كثير من حلوله سواء للبلاء الذي يتعرضون له أو المعاصي التي يشتكي منها البعض، يذكرهم ويربطهم بها ويخيرهم بين الصبر والجنة، الجنة وفقط! 
وقد «مر مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي.
قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ.
فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَتَتْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ.
فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»
، تأمل نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابية المكلومة (اتق الله واصبري) وعدم عرض بدائل دنيوية عليها. 
حتى الذين ابتلوا بالشهوات والمعاصي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على طرح البدائل لهم أكثر من ربطهم بالجنة وتذكيرهم بالحلال والحرام، فحين جاءه الشاب الذي استأذنه في الزنا حاوره بالمنطق وذكره بالحلال والحرام ثم دعا له، ولم يقترح عليه بدائل بل اكتفى بتذكيره بالله وفقط.
على هذا ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الأصل هو الجنة وأن المكافأة الأخروية لا يعدلها مكافأة، وأن البديل الأخروي لا ينال إلا بالصبر على الترك ومجاهدة النفس ، حتى وإن لم يكن هناك بديلا أو مقابلا دنيويا.
على الداعية ألا يربي المدعو على لزوم توفر (البديل) لكل معصية أو لزوم وجود مقابل دنيوي لكل طاعة، فيضع له الأناشيد مقابل الأغاني والمسلسلات الدينية مقابل الأفلام والدراما وكل هذا ليس فيه حرج شرعا، ولكنه يحدث خللا في إيمان المدعو حينما تقابله معاصي بلا بديل وطاعات بلا مقابل دنيوي، فماذا لو اضطرته الظروف للهجرة إلى مكان ليس به بديلا عن شهوة دنيوية ارتبط قلبه بها؟! بلا شك أن الانتكاسة ستكون أقرب ما يكون بسبب أنه تربى على وجود البديل لكل شي! ولم يرتبط بآية ( {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ) وفي تفسيرها يقول صاحب الظلال: (الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه; ويتصلوا به.
الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا.
الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس.
الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب..
أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم، ولن ينسى جهادهم.
إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم.
وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم.
وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم.
وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء)

الدعوة منهج عقدي ليس نمط استهلاكي: 
ربط المدعو دوما على المدى الطويل ببدائل المعاصي والابتلاءات يصنع فردا براجماتيا لا يتحرك إلا بوجود المصلحة والمنفعة، فإن لم يجدها لا يتمكن من التكيف والصبر الغير مُجدي له جدوى دنيوية، وذلك عكس مراد الفكرة المركزية لعقيدة الدعوة وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة وربطهم دوما بما عند الله من جزاء أخروي. 
كما أن محاولة توفير البدائل تدخل المدعو في محاولة لأسلمة كل شيء، حتى ولو لم يكن قابلا للأسلمة، وهذا ما تكلم عنه (باتريك هايني) في كتابه الشهير (إسلام السوق) وتأثرها بنمط الاستهلاك الرأسمالي الذي لا يتحرك إلا بمنفعة أو مقابل مادي، وهذا يظهر في محاولة أسلمة الموضة والأزياء وأسلمة الأغاني وفوبيا أسلمة كل شيء حتى تجد وأنه قد صار فرضا على الدعاة إيجاد بدائل لكل ما هو محرم. 
أثر ذلك على منهج الدعوة بشكل كبير في عرض الشرائع فصار الداعية يحاول تجميل الأوامر الشرعية بكلام يشبه الأنماط الاستهلاكية وكأنه يروج لسلعة من السلع، فتجد الداعية يدعو للحجاب ويحاول جاهدا إثبات أن المرأة بالحجاب أجمل من المتبرجة، وفي الحقيقة أن المتبرجة في ميزان الدنيا هي أجمل وأكثر إغراء، وهذا المنطق الذي يستخدمه الداعية يتصادم في كثير من الأحيان مع المنطق، وعلى نفس النهج يحاول الداعية المتأثر بذلك المنهج إقناع المدعوين أن الأناشيد أفضل من الأغاني في حين أن الأغاني بالميزان الدنيوي هي أقرب للنفس ومحببة لها، والخلاص من ذلك كله هو عرض الأمور الشرعية كما هي كمنهج عقدي قائم على التسليم لله سواء جاء من الأمر منفعة أو لم يأت، وأن الطاعات كثير منها ثقيل على القلب كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بالـ (مكاره) فقال (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) والمكاره هنا المقصود بها الطاعات التي تحتاج جهاد للنفس وترويض لها كالصدقة وصلة الأرحام وبر الوالدين والانتظام في الصلوات وا لانتهاء عن المحرمات. 
فالواجب أن يبعد المُربي والداعية عن استخدام ذلك النمط الدنيوي النفعي في الترويج لدعوته وشرائع الدين، وبدلا من ذلك يسعى في ترسيخ معنى (التسليم) لأوامر الله ويغرس في نفوس المدعوين قوة اليقين التي تثمر بعد ذلك (كمال الرضا بأمر الله).
 
 

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير