عنوان الفتوى : هل يأثم من نسي ما حفظه من القرآن بسبب ضعف ذاكرته ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

ما حكم من حفِظ شيئاً من القرآن الكريم ، أو الأسماء الحسنى ، ثم نسيها ، أو نسي بعضاً منها بسبب ذاكرته الضعيفة ، هل سيعذبه الله على ذلك ؟ .

مدة قراءة الإجابة : 12 دقائق

الحمد لله

أولاً:

لا ينبغي للمسلم أن يقول " نسيتُ " فيما ضاع من ذاكرته في حفظه للقرآن ، بل " أُنسيتُ " أو " نُسِّيت " .

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسعود قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( بِئْسَمَا لأَحَدِهِمْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ ، فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا ) . رواه البخاري ( 4744) ومسلم ( 790 ) .

وفي لفظ لمسلم : ( لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ ) .

وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم .

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : ( رَحِمَهُ اللَّهُ ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا ) . رواه البخاري ( 4751) ومسلم ( 788 ) .

قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله - :

قوله في آخر الحديث : ( بل هو نُسِّي ) ، وهذا اللفظ رويناه مشدَّدًا مبنيًّا لما لم يسم فاعله ، وقد سمعناه من بعض من لقيناه بالتخفيف ، وبه ضُبِط عن أبي بحر ، والتشديد لغيره ، ولكل منهما وجهٌ صحيح ، فعلى التشديد يكون معناه : أنه عوقب بتكثير النسيان عليه ؛ لما تمادى في التفريط ، وعلى التخفيف يكون معناه : تُرِك غير مُلْتَفَتٍ إليه ، ولا مُعْتَنىً به ، ولا مرحوم ، كما قال الله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) ؛ أي : تركهم في العذاب ، أو تركهم من الرحمة  .

" المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " ( 2 / 419 ) .

ثانياً:

وقد اختلف العلماء في حكم نسيان القرآن ممن كان حفظه ، وقد ذهب طائفة من الشافعية إلى أنه من الكبائر ! وقال بعضهم إنه من الذنوب .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :

فإن نسيان القرآن من الذنوب .

" مجموع الفتاوى " ( 13 / 423 ) .

وقال الشيخ زكريا الأنصاري – رحمه الله - :

( ونسيانه كبيرة ) , وكذا نسيان شيء منه ؛ لخبر ( عُرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها ) ، وخبر ( من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله عز وجل يوم القيامة أجذم ) رواهما أبو داود ) ا.هـ .

وفي حاشية " الرملي " عليه :

قوله : ( ونسيانه كبيرة ) موضعه إذا كان نسيانه تهاوناً وتكاسلاً .

" أسنى المطالب " ( 1 / 64 ) .

والأظهر أن نسيان القرآن : ليس كبيرة ، بل ولا ذنبا، ولكنه مصيبة ، أو عقوبة ، والغالب أن يكون هذا بسبب إعراضه عن العمل به ، وعدم تعاهده ، وقد أمِر بكلا الأمرين ، فلما لم يستجب للأمر عوقب بما فيه سلب لخيرٍ عظيم ، وقد يكون نسيانه له بسبب معاصٍ وذنوب ، فيأثم عليها ، ويعاقب بسلب القرآن منه ، وأما إن كان نسيانه لما حفِظَ بسبب ضعفٍ في ذاكرته : فلا شيء عليه ، لكن عليه المداومة على تنشيطها بكثرة القراءة ، وبالقيام بما يحفظ ؛ فإنه من أعظم السبل للبقاء على ما يحفظ .

1. من قال إن نسيان القرآن مصيبة :

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :

وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفاً قال : " ما مِن أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه ؛ لأن الله يقول : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) ، ونسيان القرآن من أعظم المصائب .

" فتح الباري " ( 9 / 86 ) .

2. من قال إنه عقوبة :

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :

قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله - :

مَن جمع القرآن : فقد علت رتبته ، ومرتبته ، وشرف في نفسه ، وقومه شرفاً عظيماً ، وكيف لا يكون ذلك و " من حفظ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين كتفيه " [ قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ، وانظر " السلسلة الضعيفة " ( 5118 ) ]، وقد صار ممن يقال فيه : " هو مِن أهلِ الله تعالى وخاصته " [ رواه ابن ماجه ( 215) وهو صحيح ] ، وإذا كان كذلك : فمِن المناسب تغليظ العقوبة على من أخلَّ بمزيته الدينية ، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره ، كما قال تعالى : ( يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) ؛ لاسيما إذا كان ذلك الذنب مما يحط تلك المزية ويسقطها ؛ لترك معاهدة القرآن المؤدي به إلى الرجوع إلى الجهالة .

" المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " ( 2 / 419 ) .

وبكل حال : فهي مصيبة أو عقوبة ، لكن لا نجزم بالإثم لمجرد النسيان .

قال علماء اللجنة الدائمة :

فلا يليق بالحافظ له أن يغفل عن تلاوته ، ولا أن يفرط في تعاهده ، بل ينبغي أن يتخذ لنفسه منه ورداً يوميّاً يساعده على ضبطه ، ويحول دون نسيانه ؛ رجاء الأجر ، والاستفادة من أحكامه ، عقيدة ، وعملاً ، ولكن مَن حفظ شيئاً مِن القرآن ثم نسيه عن شغل ، أو غفلة : ليس بآثم ، وما ورد من الوعيد في نسيان ما قد حفظ : لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم .

الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .

" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 4 / 99 ) .

والظاهر أن من قال إن نسيان القرآن من الذنوب ، أو الكبائر : قد استدل بحديثين وردا في ذلك – كما نقلناه عن زكريا الأنصاري - ، لكن كلا الحديثين لا يصحان ، فلا يصلح الاستدلال بهما .

1. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا ) .

رواه الترمذي ( 2916 ) وضعفه ، ونقل عن البخاري استغرابه ، وأبو داود ( 461 ) ، وضعفه الألباني في " ضعيف الترمذي " .

2. عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ امْرِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ ) .

رواه أبو داود ( 1474 ) وضعفه الألباني في " ضعيف أبي داود " .

والظاهر أن من قال إن النسيان كبيرة ، أو أنه ذنب : لم يرِد ما يكون بسبب ضعف الذاكرة ، بل ما كان النسيان بسبب التهاون ، والكسل ، كما صرَّح به الرملي الشافعي .

سئل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - :

نحن طلاب العلم نحفظ الكثير من الآيات على سبيل الاستشهاد ، وفي نهاية العام نكون قد نسينا الكثير منها ، فهل ندخل في حكم من يعذبون بسبب نسيان ما حفظوه ؟ .

فأجاب :

نسيان القرآن له سببان :

الأول : ما تقتضيه الطبيعة .

والثاني : الإعراض عن القرآن ، وعدم المبالاة به .

فالأول : لا يأثم به الإنسان ، ولا يعاقب عليه ، فقد وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى بالناس ، ونسي آية ، فلما انصرف ذكَّره بها أبيّ بن كعب ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( هلا كنت ذكرتنيها ) ، وسمع رسول الله قارئاً يقرأ ، فقال : ( يرحم الله فلاناً فقد ذكرني آية كنت أنسيتها ) .

وهذا يدل على أن النسيان الذي يكون بمقتضى الطبيعة : ليس فيه لوم على الإنسان .

أما ما سببه الإعراض ، وعدم المبالاة : فهذا قد يأثم به ، وبعض الناس يكيد له الشيطان ، ويوسوس له أن لا يحفظ القرآن لئلا ينساه ويقع في الإثم ! والله سبحانه وتعالى يقول : ( فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) النساء/ 76 ، فليحفظ الإنسان القرآن ؛ لأنه خير ، وليؤمل عدم النسيان ، والله سبحانه عند ظن عبده به .

" كتاب العلم " ( 96 ، 97 ) .

وما سبق من الجواب هو في " نسيان القرآن " ، ولم نجد شيئاً من كلام العلماء في " نسيان أسماء الله الحسنى " ، وليسا سواءً .

وانظر أجوبة الأسئلة : ( 3704 ) و ( 83287 ) و ( 121246 ) .

والله أعلم