عنوان الفتوى : وقت الاختيار ووقت الضرورة، وما ينبني عليهما من أحكام
سؤالي هو: متى تعتبر الصلوات الخمس المفروضة قضاء و ليست أداء عند المذاهب الأربعة؟ وهل كل صلاة في الوقت الضروري لمن لا عذر له تعتبر صلاة قضاء؟ بحثت كثيراً في مواضيع مواقيت الصلاة و قضاء الفوائت حيث يشملها توضيح للوقت الاختياري والوقت الضروري، ولكن لا أزال في حيرة من أمري بخصوص الوقت المحدد الذي تعتبر فيه الصلوات قضاء. أعلم مدى الاختلاف بين جمهور العلماء في هذا الخصوص و التعقيد الذي يشوب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد اتفق الأئمة الأربعة على أن الصلاة المفعولة في وقتها أداء، وعلى أن الصلاة المفعولة بعد خروج وقتها قضاء، فإن كانت قد فاتت لعذر كنومٍ أو نسيان، فلا إثم على مفوتها، وإن كانت قد فاتت لغير عذر فعليه الإثم، والقضاءُ واجبٌ عليه، وكل هذا لا خلاف فيه عند الأئمة الأربعة، وإن كانوا قد اختلفوا في تحديد أوائل بعض أوقات الصلاة وأواخرها اختلافاً ليس هذا موضع بسطه.
واختلفوا كذلك فيما تُدرك به الصلاة، وتكونُ أداءً، فذهب الجمهور إلى أنه إن أدرك تكبيرة الإحرام في الوقت كانت الصلاة أداءً، وذهب مالك إلى أن الوقت لا يُدرك إلا بإدراك ركعة، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال ابن قدامة في المغني حاكياً هذا الخلاف: وهل يدرك الصلاة بإدراك ما دون ركعة؟ فيه روايتان : إحداهما لا يدركها بأقل من ذلك وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب مالك لظاهر الخبر الذي رويناه، فإن تخصيصه الإدراك بركعة يدل على أن الإدراك لا يحصل بأقل منها، ولأنه إدراك للصلاة فلا يحصل بأقل من ركعة كإدراك الجمعة، والثانية يدركها بإدراك جزء منها أي جزء كان. قال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه يكون مدركا لها بإدراكه، وقال أبو الخطاب : من أدرك من الصلاة مقدار تكبيرة الإحرام قبل أن يخرج فقد أدركها وهذا مذهب أبي حنيفة وللشافعي قولان كالمذهبين. انتهى.
ثم اعلم أن للعلماء اختلافاً في تحديد وقت الاختيار ووقت الضرورة، واختلافاً في أن من أخر الصلاة إلى وقت الضرورة لغير عُذر هل يأثمُ وتكون أداءً، أو يكونُ قد فعل مكروهاً؟
وحاصل مذهب المالكية، قد بينه الحطاب في مواهب الجليل بما عبارته : تقدم أن الوقت ينقسم إلى اختياري وضروري، ولما فرغ من بيان الوقت الاختياري شرع في بيان الوقت الضروري ومعنى كونه ضروريا أنه لا يجوز لغير أصحاب الضرورات تأخير الصلاة إليه ومن أخر إليه من غير عذر من الأعذار الآتية فهو آثم، ثم هذا هو الذي يأتي على ما مشى عليه المصنف وقيل: إن معنى كونه ضروريا أن الأداء فيه يختص بأصحاب الضرورات فمن صلى فيه من غير أهل الضرورات لا يكون مؤديا وهذا القول نقله ابن الحاجب وسيأتي في بيان ذلك، وذكر المصنف أن الضروري يدخل بعد خروج الوقت المختار المتقدم بيانه في جميع الصلوات فعلم من هذا أول الوقت الضروري، وذكر أن آخره يختلف بحسب الصلوات ففي الصبح بطلوع الشمس، وفي الظهرين لغروب الشمس، وفي العشاءين لطلوع الفجر، فعلى هذا يكون الوقت الضروري للصبح من الإسفار إلى طلوع الشمس، وللظهر من أول القامة الثانية أو بعد مضي أربع ركعات منها إلى الغروب، وللعصر من الاصفرار إلى الغروب، فما بعد الاصفرار ضروري للظهر والعصر وللمغرب من بعد مضي ما يسعها بعد تحصيل شروطها إلى طلوع الفجر، وللعشاء من بعد ثلث الليل الأول إلى طلوع الفجر، فما بعد الثلث الأول ضروري للمغرب والعشاء.انتهى.
وعند الحنابلة، أن الصلوات التي لها وقتٌ ضرورى هي: العصر، ووقت الضرورة فيها بعد الاصفرار، والعشاء، ووقت الضرورة فيها بعد ثلث الليل أو نصفه، فمن أخر الصلاة إلى وقت الضرورة من غير عذر، كان آثماً، وكانت صلاته أداءً، وأما المعذور فلا إثم عليه. قال المرداوي في الإنصاف: يحرم التأخير بلا عذر إلى وقت الضرورة على الصحيح من المذهب: وقاله أبو المعالي وغيره في العصر، وقيل لا يحرم مطلقا، قال في الفروع : ولعل مرادهم لا يكره أداؤها ويأتي في باب شروط الصلاة. انتهى.
وقال ابن قدامة : وجملة ذلك أن من أخر الصلاة ثم أدرك منها ركعة قبل غروب الشمس فهو مدرك لها ومؤد لها في وقتها سواء أخرها لعذر أو لغير عذر، إلا أنه يباح تأخيرها لعذر وضرورة كحائض تطهر أو كافر يسلم، أو صبي يبلغ، أو مجنون يفيق، أو نائم يستيقظ، أو مريض يبرأ وهذا معنى قوله مع الضرورة. انتهى.
وأما الشافعية فليس عندهم وقت ضرورة، فيجوزون صلاة العصر بعد الاصفرار مع الكراهة، ويجوزون صلاة العشاء بعد نصف الليل ما لم يطلع الفجر، وإنما تفوت الفضيلة عندهم بتأخيرها إلى هذا الوقت. قال النووي: قال القاضى حسين، والصيدلاني، وإمام الحرمين، والروياني وغيرهم للعصر خمسة أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت جواز بلا كراهة، ووقت جواز وكراهة، ووقت عذر. فالفضيلة من أول الوقت إلى أن يصير ظل الشخص مثله ونصف مثله، ووقت الاختيار إلى أن يصير مثلين، والجواز بلا كراهة إلى اصفرار الشمس، والجواز مع الكراهة حال الاصفرار حتى تغرب، والعذر وقت الظهر لمن جمع بسفر أو مطر. وقد نقل أبو عيسى الترمذي عن الشافعي وغيره من العلماء كراهة تأخير العصر ، ودليل الكراهة حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا. رواه مسلم. انتهى.
وقال أيضا في شأن صلاة العشاء: فإذا ذهب وقت الاختيار بقي وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني، هذا هو المذهب نص عليه الشافعي وقطع به جمهور أصحابنا المتقدمين والمتأخرين. انتهى.
وعند الحنفية أن فعل الصلاة قبل خروج وقتها جائزٌ لا إثم فيه، وإن كان يُكره تأخيرها إلى آخر الوقت في مواطن بينها صاحب الدر المختار بقوله : ( فإن أخرها -أي العشاء- إلى ما زاد على النصف ) كره لتقليل الجماعة أما إليه فمباح ( و ) أخر ( العصر إلى اصفرار ذكاء – أي الشمس- ) فلو شرع فيه قبل التغير فمده إليه لا يكره ( و ) أخر ( المغرب إلى اشتباك النجوم ) أي كثرتها ( كره ) أي التأخير لا الفعل لأنه مأمور به ( تحريما ) إلا بعذر كسفر وكونه على أكل. انتهى.
وبهذا تعلم أن فعل الصلاة في وقت الضرورة، يكونُ أداءً، ولا إثم فيه إن كان التأخير لعذر، ويلحق الإثم من أخرها إليه إن كان تأخيره لغير عُذر عند بعض العلماء، ويُكره له التأخير على التفصيل المتقدم.
والله أعلم.