عنوان الفتوى : حد الإسراع بالجنازة
بسم الله.. أسرعت جماعة تحمل جنازة إلى المقبرة سرعة جعلت المشيعين يجرون جريا للحاق بالنعش المحمول.. وشق الأمر عليهم وخاصة الشيوخ منهم، بل اشتكى الشباب عن مجاراة سرعة حاملي النعش.. والاستياء والتذمر.. فلما سئلوا قالوا (نحي السنة النبوية)، فسؤالنا هو: هل السنة النبوية في الجنازة هو الإسراع بها، وما هو حد السرعة هذه، حتى لا يشق على المشيعين اتباع الجنازات وتحصيل أجر ذلك إن شاء الله؟ ورمضانكم مبارك.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن من السنة تعجيل دفن الميت لما روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها عليه، وإن يكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
وقال صلى الله عليه وسلم: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أخرجه الطبراني بإسناد حسن.
ويسرع بالميت وقت المشي بلا خبب، وحده أن يسرع به بحيث لا يضطرب الميت على الجنازة ولا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها، ويكره بخبب لقوله صلى الله عليه وسلم: أسرعوا بالجنازة. أي ما دون الخبب، كما في رواية ابن مسعود: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة، فقال: ما دون الخبب. رواه أحمد وأبو داود وقد ضعف هذا الحديث البخاري والترمذي وابن عدي والنسائي والبيهقي وغيرهم كما قال الشوكاني.
قال ابن قدامة في المغني: والمشي بالجنازة الإسراع (لا خلاف بين الأئمة رحمهم الله في استحباب الإسراع بالجنازة وبه ورد النص، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم. متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبع الجنازة قال: انبسطوا بها، ولا تدبوا دبيب اليهود بجنائزها. رواه أحمد في المسند. واختلفوا في الإسراع المستحب، فقال القاضي: المستحب إسراع لا يخرج عن المشي المعتاد، وهو قول الشافعي. وقال أصحاب الرأي: يخب، ويرمل، لما روى أبو داود عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: كنا في جنازة عثمان بن أبي العاص فكنا نمشي مشياً خفيفاً، فلحقنا أبو بكر فرفع سوطه فقال: لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نرمل رملاً. ولنا ما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مر عليه بجنازة تمخض مخضاً، فقال عليه السلام: عليكم بالقصد في جنائزكم. من المسند. وعن ابن مسعود قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي بالجنازة فقال: ما دون الخبب. رواه أبو داود والترمذي، وقال: يرويه أبو ماجد، وهو مجهول. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: انبسطوا بها، ولا تدبوا دبيب اليهود. يدل على أن المراد إسراع يخرج به عن شبه مشي اليهود بجنائزهم، ولأن الإسراف في الإسراع يمخضها، ويؤذي حامليها ومتبعيها ولا يؤمن على الميت. وقد قال ابن عباس في جنازة ميمونة: لا تزلزلوا وارفقوا فإنها أمكم. انتهى.
وقال الزرقاني في شرح الموطأ: أسرعوا بجنائزكم أي بحملها إلى قبرها إسراعاً خفيفاً فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه، وقيل المراد شدة المشي، وهو قول الحنفية وبعض السلف، ومال عياض إلى نفي الخلاف، فقال: من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل، والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم.
قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال، قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال: إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديوناً فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه، قال: ويؤيده أن الكل لا يحملونه.. قال الحافظ: ويؤيده حديث ابن عمر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره. أخرجه الطبراني بإسناد حسن... انتهى.
وقد دلت هذه النصوص من كلام الأئمة على أن المراد هو الإسراع الذي لا يشق على المشيعين ولا تحصل به مفسدة للجنازة، وراجع للبسط في الموضوع شرح معاني الآثار للطحاوي والمجموع للنووي ونيل الأوطار للشوكاني وطرح التثريب للعراقي.
والله أعلم.