أرشيف المقالات

الوسطية والاعتدال في الشريعة الإسلامية

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .
الوسطية والاعتدال في الشريعة الإسلامية
 
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده: الوسطية والاعتدال سمةٌ ثابتة بارزةٌ في كلِّ بابٍ من أبواب الإسلام: في الاعتقاد، والتشريع، والتكليف، والعبادة، والشهادة والحكم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والأخلاق والمعاملة، وكسب المال وإنفاقه، ومطالب النفس وشهواتها، وفي هذا البحث ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الوسطية في الاعتقاد.
المسألة الثانية: الوسطية في العبادات.
المسألة الثالثة: الوسطية في المعاملات.
 
المسألة الأولى: الوسطية في الاعتقاد:
الوسطية من أبرز ملامح العقيدة الإسلامية؛ إذْ هي موافِقةٌ للحق، ومؤيَّدةٌ بالحقِّ، وهي مناسِبةٌ للفطرة، لا إفراط فيها ولا تفريط، فالعقيدة الإسلامية متوسطة بين إفراط النصارى وتفريط اليهود، وبين غلوِّ النصارى في المسيح وتطرفِّ اليهود في عصيان أنبيائهم، وتنطعِهم في السؤال والجدال؛ وتتجلَّى وسطية الأمة المحمدية في نواحٍ شتى من مسائل الاعتقاد[1]، وقد رَكَّزْتُ على عنصرين فقط من عناصرها، وهما:
الأوَّل: الوسطية في الإيمان: فالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنون يؤمنون بجميع الرسل والكتب المنزلة؛ كما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].
وكما بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حدِّ الإيمان الواجب على الأمة: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)[2].
 
قال الطبري رحمه الله: (والمؤمنون كلُّهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يُفرِّق الكلُّ منهم بين أحدٍ من رسله، فيؤمن ببعض، ويكفر ببعض، ولكنهم يُصدِّقون بجميعهم، ويُقِرُّون أنَّ ما جاؤوا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله، وإلى طاعته، ويُخالفون في فِعلهم ذلك اليهود؛ الذين أقرُّوا بموسى، وكذَّبوا عيسى، والنصارى؛ الذين أقرُّوا بموسى وعيسى، وكذَّبوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وجحدوا نبوَّته، ومَنْ أشبههم من الأمم؛ الذين كذَّبوا بعضَ رسلِ الله، وأقرُّوا ببعضهم)[3].
وهذا الموقف الوَسَطيُّ من الأنبياء ليس ردَّ فعلٍ لموقفِ كلٍّ من اليهود أو النصارى، وإنما هو مَوقِفٌ مُستقِلٌ ابتداءً يتناسب مع الحقِّ المطلق الذي آمن به المؤمنون بصرف النظر عمَّن اعتنقه أو مَنْ لم يعتنقْه.
 
الثَّاني: الوسطية في النبوة: المؤمنون المنتسبون لهذه الأمة المحمدية يؤمنون برسل الله جميعِهم، ويُعزِّرونهم ويُوقِّرونهم، ويُحبُّونهم ويُوالونهم، ولم يعبدوهم من دون الله، ولم يتَّخذوهم أرباباً من دون الله تعالى، فهم بذلك وسط في جانب النبوة بين إفراط اليهود وتفريط النصارى، وفيه عدَّة أحاديث:
أ- عن ابنٍ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أنه سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنه يقولُ - على الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[4].
قال ابن الجوزي رحمه الله: (الإطراء: الإفراط في المدح.
والمراد به ها هنا: المدح الباطل.
والذين أطروا عيسى عليه السلام ادَّعوا أنه ولدُ اللهِ، تعالى اللهُ عن ذلك، واتَّخذوه إلهاً، ولذلك قال: "فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ".
فإنْ قال قائل: وما عَلِمْنا أنَّ أحداً ادَّعى في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما ادُّعِي في عيسى عليه السلام! فالجواب: أنهم بالغوا في تعظيمه، حتى قال معاذُ بنُ جبلٍ رضي الله عنه: يا رَسُولَ اللَّهِ! رَأَيْتُ رِجَالاً بِالْيَمَنِ يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِهِم، أَفَلاَ نَسْجُدُ لَكَ؟! قال: «لَوْ كُنْتُ آمِراً بَشَراً يَسْجُدُ لِبَشَرٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»[5]، فنهاهم عمَّا عَسَاه يبلغ بهم العبادة)
[6].
 
ب- عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلاً قال: يَا مُحَمَّدُ! يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا! وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا! فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ، وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي التِّي أَنْزَلَنِي اللهُ عز وجل»[7].
ومِثلُ هذه الأحاديث النبوية تؤكِّد بأنَّ (دينَ الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه؛ فإنَّ النصارى: عظَّموا الأنبياء حتى عبدوهم، وعبدوا تماثيلهم، واليهود: استخفُّوا بهم حتى قتلوهم، والأُمَّة الوسط عرفوا مقاديرهم، فلم يغلوا فيهم غُلُوَّ النصارى، ولم يجفوا عنهم جفاءَ اليهود)[8].
 
ج- عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ»[9].
والعدول، مفردها عدل، ومن معاني العدل في اللغة: الوسط والتوسط، و(أعدل الشيء: أوسطه ووسطه)[10].
ومن هنا جاء مدح النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأهل العلم العدول؛ أصحاب المنهج الوسط، الذي لا إفراط في منهجهم ولا تفريط.
يقول ابن القيم رحمه الله - في تعليقه على الحديث: (فأخبر أنَّ الغالين يُحرفون ما جاء به، والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه، والجاهلون يتأولونه على غير تأويله، وفسادُ الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة؛ فلولا أنَّ الله تعالى يُقيم لدينه مَنْ ينفي عنه ذلك، لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء)[11].
 
وأخطر ما يكون الغلو والتأويل والانتحال في العقائد والتصورات؛ لأنَّ فساد العقيدة يؤدي إلى فساد التفكير، ومنه فساد العمل، وقد ظهرت - داخل الأمة الإسلامية بعض الفرق انحرفت عن جادة الصواب، وانحرف بها المسار من الطريق الوسط والعدل إلى ذات اليمين وذات الشمال؛ فغلت في الأسماء والصفات بين التعطيل والتمثيل، وبعضها غلت في الصحابة ففضَّلوا البعض، وكفَّروا آخرين، وبعضها تركت العمل واعتمدت على التوكل، وبعضها فعل العكس، وبعضها فصلت الدِّين عن الحياة[12].
 
(وقد جعل اللهُ هذه الأُمَّةَ هي الأُمة الوسط في جميع أبواب الدِّين، فإذا انحرف غيرُها من الأمم إلى أحد الطرفين كانت هي في الوسط، كما كانت وسطاً في باب أسماء الربِّ تعالى وصفاته بين الجهمية والمُعطلة والمُشبهة المُمثلة، وكانت وسطاً في باب الإيمان بالرُّسل بين مَنْ عَبَدَهم، وأشْرَكهم بالله؛ كالنصارى، وبين مَنْ قَتَلَهم، وكذَّبهم، فآمَنوا بهم وصَدَّقوهم وتركوهم من العبودية، وكانت وسطاً في القدر بين الجبرية...
وبين القدرية...
وكذلك هم وسطٌ في المطاعم والمشارب بين اليهود؛ الذين حُرِّمَت عليهم الطيبات عقوبةً لهم، وبين النصارى؛ الذين يستحِلُّون الخبائث...
فأحل الله لهذه الأمة الوسط الطيبات وحرم عليهم الخبائث.
وكذلك لا تجدُ أهلَ الحقِّ دائماً إلاَّ وسطاً بين طَرَفي الباطل، وأهلُ السُّنة وسطٌ في النِّحل، كما أنَّ المسلمين وسطٌ في الملل)
[13].
 
المسألة الثانية: الوسطية في العبادات:
من أبرز سمات الشريعة الإسلامية الوسطية في العبادات والطاعات، فالمتأمل في النصوص - قوليةً وفعلية - يلحظ أنها مليئة بالمنهج الوسط وذلك في نواحٍ شتَّى، ومن أهمها:
أوَّلاً: الوسطية والاعتدال في أداء العبادات: فعن أَنَسَ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: جاء ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قال أَحَدُهُمْ: أَمَّا أنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وقال آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أُفْطِرُ.
وقال آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا واللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[14].
 
إنَّ الذي دعا هؤلاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلى الاستكثار من العمل الصالح هو ظنُّهم أنَّ الله تعالى غفر لنبيه الكريم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفي مقابل ذلك ليس عندهم كثير عمل، فشدَّدوا على أنفسهم في العبادة؛ متأوِّلين بأنهم سَيُدركون السُّنة، فإذا بهم يجانبون سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويخرجون عن الوسطية والتوازن في حياتهم.
ولذا جاءهم التوجيه الكريم: «أَمَا واللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ».
قال ابن حجر رحمه الله: (فيه إشارةٌ إلى ردِّ ما بَنَوا عليه أمرَهم من أنَّ المغفور له لا يحتاج إلى مزيدٍ في العبادة، بخلاف غيره، فأعْلَمَهم أنه مع كونه يُبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله، وأتقى من الذين يُشَدِّدون، وإنما كان كذلك؛ لأنَّ المُشدِّد لا يأمن من المَلَل، بخلاف المُقتصد، فإنه أمكن لاستمراره، وخيرُ العملِ ما داوم عليه صاحبُه)[15].
 
وقال ابن تيمية رحمه الله: (والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة، في بيان أنَّ سُنَّته؛ التي هي الاقتصاد في العبادة، وفي ترك الشهوات، خيرٌ من رهبانية النصارى؛ التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلوِ في العبادات صوماً وصلاةً، وقد خالف هذا؛ بالتأويل، ولعدمِ العلم طائفةٌ من الفقهاء والعُبَّاد)[16].
 
ثانياً: الوسطية في تطبيق العبادات، والتحذير من الغلو في الدِّين: وفي ذلك عدة أحاديث، منها:
أ- عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وهو على نَاقَتِهِ: (الْقُطْ لِي حَصًى).
فَلَقَطْتُ له سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ في كَفِّهِ وَيَقُولُ: (أَمْثَالَ هَؤُلاءِ فَارْمُوا)، ثُمَّ قال: (يا أَيُّهَا الناسُ! إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَاَن قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)[17].
 
قال ابن تيمية رحمه الله: (قوله: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ» عامٌّ في جميع أنواع الغلو؛ في الاعتقادات والأعمال.
والغلوُّ: هو مجاوزة الحدِّ، بأنْ يُزاد في حَمْدِ الشيءِ أو ذمِّه على ما يستحق ونحو ذلك...
وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخلٌ فيه، فالغلو فيه؛ مثل رمي الحجارة الكبار، ونحو ذلك، بناءً على أنه قد بالَغَ في الحصى الصِّغار، ثم علَّلَ ذلك بأنَّ ما أهلك مَنْ كان قبلنا إلاَّ الغلوُّ في الدِّين كما تراه في النصارى، وذلك يقتضي أنَّ مُجانبة هديهم مطلقاً أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأنَّ المُشارِك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه أنْ يكون هالكاً)
[18].
 
ب- عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: دَخَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فإذا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بين السَّارِيَتَيْنِ فقال: (مَا هذا الْحَبْلُ؟)، قالوا: هذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فإذا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فإذا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)[19].
قال النووي رحمه الله: (فيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التَّعمُّق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وأنه إذا فَتَر فليقعد حتى يذهب الفتور)[20].
 
ثالثاً: الوسطية في أماكن العبادات: كانت الأمم المُتقدِّمة لا يصلون إلاَّ في كنائسهم وبِيَعِهم[21]؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسَاجِدَ وَطَهُوراً، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلاَةُ تَمَسَّحْتُ[22] وَصَلَّيْتُ، وكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إنَّما كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ)[23].
 
وعن جَابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنه؛ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي) وذَكَرَ منها: (وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ)[24].
 
وهذه الوسطية في العبادة في كلِّ جوانبها ممَّا رغَّب المسلمين في إسلامهم؛ إذ دَفَع عنهم المللَ، ووافق الفطرةَ والطَّبعَ السهل المُيسَّر، والنَّفسُ تهوى ما كان سهلاً مُيسَّراً، وتمقتُ ما كان صعباً مُتكلَّفاً، وهذا وجهٌ من وجوه عظمةِ السنة، وهو موافقتُها الفطرةَ، ومراعاتها الطَّبعَ والجبلَّة، فأين لها ذلك، والنبيُّ أُمِّي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يطَّلع على علم النفس؟! لا سبيلَ إلاَّ أن ذلك كلَّه من لدن حكيم خبير، وهو ربُّ العالمين.
 
المسألة الثالثة: الوسطية في المعاملات:
توسطت الشريعة الإسلامية في شأن المعاملات؛ سواء كانت عقوداً مالية أو أنكحة، أو أحكاماً وأقضية، أو غيرها مما يتعامل فيه الناس مع بعضهم البعض، وسوف نقتصر هنا على بعض أحكام العلاقات الأُسرية بإيجازٍ شديد؛ للتدليل على هذه الوسطية، ومن أمثلة ذلك:
1- الوسطية في التعامل مع الحائض: جاءت الشريعة الإسلامية بالوسطية في التعامل مع الحائض بين إفراط اليهود؛ الذين يحرِّمون السكن مع الحائض والتعامل معها، وبين تفريطِ النصارى؛ الذين يُبيحون وَطْأَها في تلك الحال، عن أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إذا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لم يُؤَاكِلُوهَا، ولم يُجَامِعُوهُنَّ في الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ ﴾ إلى آخِرِ الآيَة [البقرة: 222].
فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ)، فَبَلَغَ ذلك الْيَهُودَ، فَقَالُوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئاً إِلاَّ خَالَفَنَا فِيهِ[25].
 
قال القرطبي رحمه الله: (قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يُجامعون الحُيَّض، فأمر اللهُ بالقصد بين هذين)[26].
والقصد: هو التَّوسُّطُ بين الإفراط والتفريط، الموافِقُ للحقِّ، والبعيدُ عن التَّأثُّر بموقف هؤلاء أو هؤلاء، إذْ لا اعتبار لموقفهم في التشريع؛ لأنَّ التشريع الإسلامي لا يأتي ردَّةً لفعلٍ معاكسٍ أو مُغاير، وإنما هو الحكمةُ بعينِها، فمَوقِفُه ابتداءً في كلِّ أحواله وتشريعاته.
 
وقال ابن تيمية رحمه الله: (وقال أولئك - أي: اليهود- النجاسات مُغَلَّظة؛ حتى أنَّ الحائض لا يُقعد معها ولا يؤكل معها، وهؤلاء - أي: النصارى - يقولون: ما عليك شيء نجس، ولا يأمرون بختان، ولا غسل من جنابة، ولا إزالة نجاسة، مع أنَّ المسيح والحواريين كانوا على شريعةِ التوراة)[27].
 
2- الوسطية في الزواج: الشريعة الإسلامية جاءت بالوسطية في شأن الزواج؛ بمراعاتها مصالح العباد في تشريعه، والفطرة البشرية، والتوازن النفسي والاجتماعي، والزواج ميثاق غليظ، مؤكَّد عليه في الشريعة، وتترتب عليه حقوق وواجبات وشروط وأحكام؛ من مرحلة الخِطبة ومروراً بالعقد إلى العشرة الزوجية، وأحكام الزواج وشروطه وأركانه وواجباته وآدابه فيها من الاعتدال والوسطية الشيء الكثير؛ لذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم من سُنَّته المباركة، وأنكر على الرجل الذي لا يُريد الزواج بحجَّة العبادة، قائلاً له: (واللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)[28].
ويكفي أنْ نعلم أنَّ العزوف عن الزواج هو من فعل بعض رهبان النصارى وبعض طوائفهم الغلاة الذين يُفضِّلون التَّبتُّل على الزواج، ويُحرِّمون الطلاق بعد الزواج، فيضيِّقوا على الناس بذلك، ويُوقعوهم في الحرج[29].
 
3- الوسطية في الطلاق: جاءت الشريعة الإسلامية بالوسطية في تشريع الطلاق والذي يُعتبر أكثر واقعية واستيعاباً لمشاكل المرأة والرجل على حدٍّ سواء، و(لو جوَّز الشرعُ الطلاقَ من غير حصرٍ لعظم الإضرار بالنساء، ولو قصر على مرة واحدة، لتضرَّر الرجال، فإنَّ الندم يلحق المُطلِّق بعد انقضاء العدة في كثير من الأحوال)[30]؛ كما شُرِعت الرَّجعة أثناء العدة، أو بعدها، من طلقةٍ واحدة، أو طلقتين، لما في ذلك من الحِفاظ على مصلحة الأسرة، ورفعِ الحرج بهذه الوسطية الواقعية المُراعيةِ لمصالح الأنام.
 
وهذه الوسطية في التشريعات وكافَّة المعاملات كانت من أهمِّ أسباب التيسير والتسهيل على الناس أمورَ حياتهم ومعيشتِهم بما يُحقِّق لهم استقراراً نفسيًّا وتوازناً روحيًّا، جعل المسلمين أكثر تمسُّكاً بدينهم وعقيدتهم من غيرهم، والواقعُ يشهد بذلك، والفرق واضحاً؛ بين تمسُّك المسلمين بدينهم؛ عقيدةً وعبادةً ومعاملةً وبين غيرهم الذين فرَّطوا في عقيدتهم، وتركوا عباداتهم، وتخلَّوا عن التعامل بمقتضى دينهم، وليس مَرْجِعُ ذلك إلاَّ إلى تلك الوسطية التي اتَّسمت بها الشريعة الإسلامية.
 

[1] انظر: الوسطية من أبرز خصائص الأمة، عبد الحكيم بن محمد بلال، مجلة البيان، (عدد: 114)، (صفر 1418هـ)، (ص84).

[2] جزء من حديث "جبريل الطويل": رواه مسلم، (1/ 37)، (ح8).

[3] تفسير الطبري، (3/ 152).

[4] رواه البخاري، (3/ 1271)، (ح3261).

[5] رواه أحمد في (المسند)، (5/ 227)، (ح22037).
وصححه الألباني في (صحيح الجامع)،
(1/ 937)، (ح5294).

[6] كشف المشكل من حديث الصحيحين، (1/ 65).

[7] رواه أحمد في (المسند)، (3/ 153)، (ح12573)؛ وقال محققو المسند، (20/ 23)، (ح12551): (إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن
سلمة، فمن رجال مسلم)
.
وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (3/ 88)، (ح1097).

[8] اقتضاء الصراط المستقيم، (1/ 335).

[9] رواه البيهقي في (الكبرى)، (10/ 209)، (ح21439).
وصححه الألباني في (مشكاة المصابيح)، (1/ 53)، (ح248).

[10] معجم مقاييس اللغة، (6/ 108).

[11] إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، (1/ 159).

[12] انظر: الوسطية في السنة النبوية، د.
عقيلة حسين (ص208).

[13] مفتاح دار السعادة، (2/ 242).

[14] رواه البخاري، (5/ 1949)، (ح4776).

[15] فتح الباري، (9/ 105).

[16] اقتضاء الصراط المستقيم، (ص105).

[17] رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه)، (3/ 248)، (ح13909)؛ وأحمد في (المسند)، (1/ 347)، (ح3248)؛ وابن ماجه، (2/ 1008)، (ح3029).
وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (3/ 49)، (ح2473).

[18] اقتضاء الصراط المستقيم، (ص106).

[19] رواه البخاري، (1/ 386)، (ح1099)؛ ومسلم، (1/ 541)، (ح784).

[20] شرح النووي على صحيح مسلم، (6/ 73).

[21] انظر: شرح السنة، (2/ 412).

[22] (تَمَسَّحْتُ): أي: تيمَّمت.
انظر: الفتح الرباني، (2/ 188).

[23] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 222)، (ح7068).
وحسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب)، (3/ 237)، (ح3634).

[24] رواه البخاري، (1/ 128)، (ح328).

[25] رواه مسلم، (1/ 246)، (ح302).

[26] تفسير القرطبي، (3/ 81).

[27] مجموع الفتاوى، (28/ 610، 611).

[28] رواه البخاري، (5/ 1949)، (ح4776).

[29] انظر: الوسطية في السنة النبوية، (ص222).

[30] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (1/ 210).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣