أرشيف المقالات

وادي حلفا

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 بقلم عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب وادي حلفا عاصمة إحدى مديريات السودان الكبرى، وهي مديرية حلفا، وهو ميناء نيلي تسير السفن البخارية الصغيرة بينه وبين الشلال تنقل المسافرين والبريد من مصر إلى السودان ومنه إليها، ويشعر الزائر المصري للسودان عندما تطأ قدمه ارض حلفا كأنه في إحدى مستعمرات التاج البريطاني، ولا عجب فمنذ جلاء الجيش المصري عام 1924 تعمل السياسة البريطانية على ان تجعل من السودان منطقة انكليزية بحتة.
وقد تلاشت المصرية أو كادت تتلاشى بعد ان كانت ظاهرة قوية فيه. ووادي حلفا له مكانته لانه كما قلت ميناء نيلي كبير ومركز تجارة لا بأس به، وهو فوق ذلك مدخل جمركي يفتش المسافرون وامتعتهم فيه حتى لا تهرب بضائع معينة من السودان إلى مصر.
ثم هو الحد الذي يشعر عنده المصري بشعور مؤلم هو شعور الفصل اللاطبيعي بين القطرين التوأمين. وينقسم هذا البلد قسمين رئيسين أحدهما (حلفا توفيق) نسبة إلى مسجد كبير شيده الخديوي توفيق في ميدان فسيح يتوسطه.
والثاني (حلفا معسكر) نسبة إلى معسكر الجيش المصري الذي كان يعسكر فيه حتى سنة 1924. وحلفا توفيق هو روح البلد، ففيه الميناء المشغول بالحركة الدائمة ولا سيما عند وصول البريد إليه من الشلال وعند قيامه منه إليه ويحصل ذلك اربع مرات في كل أسبوع، وفيه محطة السكة الحديدية ومكتب البريد والبرق وبناء المديرية والمستشفى ودار الشرطة والمحكمة ومكتب الجمرك والري المصري، وفيه المحال التجارية والمقاهي والفندق وتوكيل لبعض الشركات كشركة كوك وسنجر.
والدور فيه ذات طابق وأحد وفناءات فسيحة إلا بعض الدور القلائل ذات الطابقين على ضفة النيل يؤجرها ملاكها الوطنيون إلى بعض الموظفين المصريين والسوريين. وحلفا معسكر، قسم صاخب بالنهار في ناحية من نواحيه حيث توجد (الورشة) ففيه تسمع صوت المطرقة وآلات التصليح والنجارة والحدادة وغيرها.
أما منذ الاصيل فهو هادئ، وهو بخلاف القسم الاول ملآن بالدور الفخمة، وافخم هذه الدور هي التي يسكنه البريطانيون، فهي مزدانة بالشجر والزهر والثمر، تطل نوافذها على النيل، ومنها تستطيع ان تمتع الطرف بمياهه الجارية، كأنها السلسبيل، وبالشجيرات على ضفتيه نضراء وقد تجمعت في مكان وتفرقت في اخر، فكأنها الزبرجد مسكوبان وكأنك تستمد الحياة من منبع الحياة. ويتوسط القسمين منتزه جميل فرشت ارضه بالبرسيم المورق قامت عليه الشجيرات النضراء المختلفة كأنها الحراس إلا انها تغفل دائما عن المنجل يحصده غالبا.
وزين بالزهور المختلفة الألوان والانواع تحملها جذور وسيقان، ويدار الحاكي فيه مرة في مساء كل جمعة.
ولعل (الراديو) حل محله اليوم. ويؤلف البريطانيون فيه كتلة متحدة غير مختلطة بغيرها من الاجناس الأخرى، اللهم إلا الاختلاط الذي يوجبه العمل، وهو مخالطة الرؤساء لمرؤوسيهم، يلمحون بالطلب فيلبى، ويعطون الاشارة فتنفذ، ويلقون الأمر فيطاع.
أما في أوقات فراغهم فهم يريضون اجسادهم بركوب الخيل ولعب (التنس) و (الجولف) وغير ذلك، والمساء يقضرنه في المسامرة والمنادمة بين الكأس الرحيق والرقص الرشيق. والمصريون في وادي حلفا الان كما هم في غيره من بلدان السودان: اقلية ينظر إليها اولو الأمر فيه نظرة حذر، ويكادون يكونون تحت مراقبة دقيقة لانهم متهمون ببث روح التمرد وما هم كذلك، وما الحركة التي قامت في سنة 1934 في السودان إلا فورة وطنية قام بها الوطنيون وغيرهم كما تقوم اية جماعة في أي بلد بحركة يرجون بها غرضا معينا، وما ظن الاتهام الذي يوجهه اولو الأمر في السودان إلى المصريين في هذا الشأن إلا ستارا لسياسة موضوعة لقصد معين. ولكن الروح التي تربط المصري والسوداني لا تزال قائمة ولن تزول - وهي روح وطنية -، لأنهما يريان النيل ابا مشتركا بينهما، وهي روح جنسية، لان المصري والسوداني هم مزيج من جنس البحر الابيض والجنس الحامي، ثم هي روح لغوية لأنهما يتكلمان العربية، وهي روح دينية لأنهما أما مسلم وأما قبطي، وهي اخيرا روح لا يمكن نزعها من جسم أحدهما دون ان يموت الاخر. والوطنيون هم البربريون الحلفاويون، لهم رطانة يتكلمون بها فيما بينهم، إلا انهم جميعا يعرفون العربية، وكثير منهم ملمون باللغة الانكليزية، ويمتازون من السودانيين بالذكاء والنشاط، عرف منهم قاضيا في إحدى محاكم مصر الأهلية، وعالما دينيا، وموظفين اكفاء، وتجارا قديرين. والمولودون وهم مزيج من المصري والتركي ومن السوداني، ثم السودانيون والعبيد. ويشتغل الوطنيون بالزراعة فوق اشتغالهم بالتجارة، زراعة مساحات ضئيلة بالخضر والنخيل، والبلح اهم الحاصلات. أما العبيد فمنهم عمال يحملون طرود البريد وامتعة المسافرين، ومنهم مكاريون ينقلون الاثقال على حميرهم، ومنهم السقاءون يحملون الماء إلى الدور بصفائحهم وقربهم. تتألف الحكومة في مديرية حلفا كما هو الحال في أي مديرية اخرى من مديريات السودان: من المدير وينوب عن الحاكم للسودان في مديريته، وهو بريطاني له سلطة شبه مطلقة، ويعاونه المفتش وهو أيضاً انجليزي يحل محله في غيابه، وتنظر دار المديرية في احوال الناس القضائية: الأهلية منها والشرعية، وفي جباية الأموال والمحافظة على الصحة. ويسهر على الامن رجال الشرطة ومقرهم (الضابطية) أو دار الشرطة، وهم رجال اشداء يلبسون عمامة كاكية أو بيضاء كبيرة وقميصا من الصوف الاصفر وسروالا ونعالا، يشبهون في ذلك رجال الهجانة في مصر ويعاونهم حراس نظاميون في الليل. وعلى رأس دار الشرطة المأمور وله نائب، وكلاهما سوداني، ولكل قرية عمدتها وشيوخها، تؤلف منهم محكمة قروية تعدل بين الناس. وقد حل الوطنيون محل معظم المصريين في كافة اقسام المصالح، وهم خريجو كلية غوردن بالخرطوم يلتحق بها التلميذ بعد ان يتم العلوم الابتدائية ويقضي بها ثلاثة اعوام يتخصص خلالها في أحد اقسامها، أذكر منها قسم المعلمين والترجمة والهندسة ويشترط في طالب الكلية ان يكون سودانيا. ويفضل اولو الأمر ان يلبس الموظفون الزي الوطني اثناء العمل، وهو رداء من نسيج ابيض وعمامة بيضاء ومركوب احمر، ويحثونهم على ان يفضلوه على اللباس المصري. وتقام حفلات رسمية في كل عام: اهمها عيد الميلاد السنوي، والعيد النبوي الكريم، وعيد ملك الانكليز، وعيدا الفطر والاضحى، وتدعو الحكومة كبار الموظفين والتجار والوطنيين إلى عيد رأس السنة، وعيد ميلاد ملك الانكليز في حفل رسمي وتتولى لجنة من الوطنين دعوة الموظفين البريطانيين وعقيلاتهم إلى الاحتفال بالاعياد الأخرى، وابهجها الاحتفال بالمولد النبوي، إذ تقام سرادقات مختلفة عديدة على ميدان فسيح يضاء بمصابيح الكهرباء القوية الملونة، ويحي ليالي هذا المولد شيوخ يستأجرون من إحدى مديريات الوجه القبلي وتدار على المدعوين المرطبات ولفائف الطباق. وبعد ان يستمع المدير ورفاقه قليلا من المديح النبوي ينهضون إلى أنحاء السردقات متنقلين بين اقسامها متفرجين على حلقات الذكر والرقص الوطني، وفي كل حلقة توزع الدراهم على بعض الذاكرين والراقصين.
والنقود المتداولة في السودان هي النقود المصرية باقسامها والاسترليني والشلن والشلنين من النقود الانجليزية. وكان وادي حلفا منفى للزعماء السودانيين المرغوب عنهم من الحكومة امثال عثمان دقنه وقد مات بها.
وما زال منفيا بها زعيم آخر ولد عبد الكريم ينتمي إلى المهدي بصلة القرابة وقد زرته منذ خمس سنوات فوجدته هرماً ولكنه قوي. وبالوادي مكان معد لنزول لطيارات التي تطير بين أوربا وافريقية عن طريق مصر والسودان. عبد الرحمن فهمي

شارك الخبر

المرئيات-١