أرشيف المقالات

ديوان الينبوع

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 للدكتور احمد زكي أبو شادي راقني ما دبجته براعة الأديب الحلبي الفاضل (المرتيني) نقداً لديوان (الينبوع) فقد استهله بمقدمة بديعة عن ماهية الفن، هي من صفوة ما كتب في هذا الموضوع، وهي وحدها كافية لاحترام بيانه وللصفح عن زلات نقده. وكان أول ما أخذه على، إشارتي إلى أن الشاعر الألماني العظيم هنريش هيني جمع في شعره بين نفحات القديم وبين النزعة الرومانطيقية التي كان آخر شعرائها في قومه، وبين نزعة التحرر العصري التي ساعد على تكوينها، وقد أصبحت الصورة الغالبة على الشعر العصري في الغرب صورة الرومانطيقية الواقعة أتعرف بماذا علق الأديب المرتيني على ملاحظاتي هذه؟ إنه لم يتعرض لها ولو بكلمة نقدية واحدة وإنما اتخذها تكأة ليقول هذا القول الغريب الذي لا صلة له بموضوعها إذ يعلن: (إننا لا نجاريه في قوله ولا نجاريه في استشهاده بالشاعر الألماني العظيم، فبينما يشرح ذلك الألماني النبيل عواطفه المتدفقة في نفسه أو يشرح نفسه الواسعة الفياضة بأنواع من النظم نرى الدكتور لا يرتفع في شعره عن أن ينظم في بعض مناسبات خاصة.
وفرق كبير جداً بين هذا الشعر الذي يكاد يكون شعراً صحفياً وبين شعر هيني المختلف المتناسق الذي نرى اختلافه في أغراضه وسعتها، والذي نراه يتناسق في الصفات الأولى التي تتصف بها نفس ذلك الشاعر العبقري) وكل هذا لا شأن له بتعرضي لشعر هيني ولا محل له من النقد المتزن إن ناقدي الفاضل يشير في مقدمته إلى أن الفن يرسم الشعور الإنساني في ظروفه العاطفية المختلفة، وهذه سطور مقدمته بين أيدي القراء ناطقة بذلك، فكيف يأتي بعد هذا مصغراً فينعت شعري بشعر المناسبات وبالشعر الصحفي؟ إن جميع الشعر يا مولانا في أصله شعر مناسبات وبواعث لأنه لا يفتعل افتعالا، وإنما سمينا الشعر السطحي الذي لا ينتظر له الخلود بشعر المناسبات من باب التجوز إشارة إلى أنه يعيش في حيز مناسبته الوقتية، ولأنه ليس بالشعر الإنساني العميق، وشتان بين التعبيرين.

. فهل صحيح أن شعري من هذا الضرب الأخير، لا لسبب إلا لأنه مناسبات بعضه عامة؟ وهل هذا عذر ينهض للأصغار من روائع الشعر العربي والأوروبي التي خلقت في مناسبات عامة لا تعني الشاعر وحده؟! أن مثل هذا النقد لن يقبله أي أديب مستقل، خصوصاً وهو نقد مبهم لا تعززه الشواهد، ولا أعرف شيئاً يسيء إلى النقد أكثر من هذه البراعة في الإبهام، ومن هذه الأحكام التي لا (حيثيات) لها.

. إني لم أقطع على ناقدي الطريق حين أشرت إلى ضرورة التجاوب بين الناقد والشاعر حتى يجيء النقد تفسيراً أدبياً صادقاً للشعر، لأني لا أفهم من النقد أن يكون لوناً من ألوان النفور أو التحامل.
وقد آخذني على إشارتي إلى أنه ليس محتوماً على غير مريدي أن يطلعوا على شعري حتى أكون معرضاً لمؤاخذتهم اياي، متوهماً أني بذلك أصد الناقدين عن شعري أو أنعالي عليهم.
والواقع انه لا يوجد أديب معاصر شجع النقد الأدبي واحترمه أكثر مما شجعته، ولدى صديقي الألمعي صاحب مجلة (الرسالة) آخر مثل يعرفه عن ذلك، فليطمئن بال الأديب المرتيني، وليثق بأن كلمتي هذه ليست موجهة إلى أمثاله من أفاضل النقاد، وإنما وجهتها إلى جيش من المتطفلين على الأدب الذين ينالون ما ينالون من تشجيع في الصحف العامة ولا يتورعون عن أن يقولوا مثل هذا القول: (إن شعر فلان يحصب وجوهنا) فليت القدر يخرسه مادمنا عاجزين عن ذلك، وهذا بلا نزاع إسفاف في النقد) ولكن له سوقه النافقة، فكلمتي المنطقية الهادئة الموجهة إلى هؤلاء الكرام لا غبار عليها. وتحدث ناقدي الفاضل عن ميولي المتباينة، ولست أرى تبايناً بينها، مادامت نفسي تؤلف منها وحدة فنية، ولكل نفس طبيعتها واستعدادها، كما أني لست فذاً في هذا: فهناك شواهد كثيرة على تنوع الميول عند أعلام الفكر والأدب في الشرق والغرب، ولم يكن هذا التنوع مؤدياً إلى العجز أو التقصير الفني، بل كان شاحذ للمواهب الفنية، دافعاً إلى الإنتاج الناضج الوفير. وادعى سامحه الله أني مجدد ملتوي التجديد، وأني قد وقفت نفسي على أدب الغرب، وأني أحاول في عمري أن أضع لنفسي مزاجاً خاصاً، وأني أتمثل لقارئي فيكاد ينفر مني لضعفي في التعبير وتقصيري في التصوير وفقري في التفكير.
ومثل هذا الانتقاص الذي يقال جزافاً أمره سهل لدى كل من يطاوعه قلمه على تحبيره، ولكن الناقد المنصف المدقق يقر بشغفي العظيم بالأدب العربي وخدمتي إياه، وأن عنايتي بالأدب الأوربي هي عناية الراغب في إعزاز أدبنا العربي وتبديل فقره غنى، وسد ما في مناحيه من فجوات يشعر بها كل مطلع على الآداب العالمية.
وليس لمثلي أن يزكي أدبه وإن دافع عنه، ولكني أزكي مدرسة أدبية أنا أحد أفرادها، وقد كتبت من قبل ما يغني عن الإفاضة في (الرسالة)، كما يغنيني ما ظهر حديثاً في مجلة (الإمام) للشاعر الياس قنصل، وفي صحيفة (الأهرام) للشاعر سيد قطب، عن الرد على ذلك الانتقاص المبهم الذي لن تطاوعه الشواهد مهما تلمسها ناقدي الفاضل. ولكن قد جاء بما يحسبه شاهداً مفحماً في تعليقه العجيب على صورة (الينبوع) (ص 17 من الديوان).

.
ان ذلك التعليق وتلك الخطرات هي نظراتك أنت يا ناقدي العزيز، وأما أنا فلا أعرفها بل اشمئز من تعابيرك كل الاشمئزاز.
أما نظراتي أنا فنظرات الفطرة السليمة المتسامية التي تأبى التصنع والشذوذ والتدلي، وتقول في صراحة: يا جمال النور في الظل الحبيب ...
يا جمال الروح في الجسم الرطيب هذه الدنيا لأحلام الأديب ...
هذه غايات آمال الأريب أيها الينبوع كم ساع إليك ...
يدعى بغضاً لما أهوى لديك كل ما يرجوه موقوف عليك ...
فإذا الإنعام منك واليك! أنت سحر غامض للعالم ...
أنت ينبوع الرجاء الدائم أنت موسيقى الخلود الباسم ...
أنت ومض للشريد الهائم! أيها الينبوع يا رمز الأبد ...
يا شعاع الله في طيف الجسد كم معان فيك كادت لا تحد ...
وعزاء عن حياة تفتقد! إنما أرنو إليك في خشوعي ...
ما ابتسامي غير لون من دموعي أنا لحن بين أطياف الربيع ...
من طيور وغدير وزروع أنا أحيا حينما أجني رضاك ...
حينما جسمي وروحي عانقاك حينما لبيت مسحورا نداك ...
فإذا بي لا أرى العيش سواك كل همي في حياتي يستحيل ...
حينما أخشع للفن الأصيل حينما أروي من النبع النبيل ...
ذاك نبع الحب في الجسم النبيل! فإذا كان الأديب المرتيني لا يرى في هذا الشعر الطبيعة الصافية المتسامية فالذنب ليس ذنبي، وما أراه منصفاً مهاجمة الذوق الفني لمصور (سكس ابيل) وهو من أعلام فنه، إني مصدق صاحبي في تأكيده أنه قرأ الديوان من الجلد إلى الجلد، ومع ذلك أومن بأنه لم يقرأه، وأومن كذلك بأنه في ذهنيته ونفسيته الحاضرة لا يحمل ذرة من التجارب مع شاعريتي، وإنما يؤدي به مزاجه الخاص إلى النفور منها ومن كل ما يمت إليها بصلة، ناظراً من وراء منظار أسود شاقه أن يلبسه، وإلا فبماذا يفسر تصويره لاحترامي النقد الأدبي وتشجيعي رجاله، ذلك التصوير الغريب الذي ابتدعه في قوله؛ وما عرفته (يعني كاتب هذه للسطور) وغيره من إخواننا المصريين إلا أباة على النقد يثيرون من أجله المعارك ويتسارعون بسببه إلى الخصام والنزاع.

.؟! لقد ظهرت في الأعداد الثلاثة الأخيرة من مجلة (أبولو) تعليقاتي على نقد ديوان (الينبوع) فهل يستطيع حضرة الناقد الفاضل إذا التزم الإنصاف أن يحد فيها دليلاً واحداً يعزز دعواه هذه التي أنكرها كل الانكار؟ أما عن لغتي فمن أحسب صاحبنا في المكانة التي تسمح له بذلك النقد، وقد نقد (الينبوع) فعلا رجال ذوو بصر فني باللغة، ومنهم من تخصص فيها كالسيد مصطفى جواد، فما قالوا إلا عكس ما ذهب إليه صاحبنا. وقد تصدى لنقد بيتين من قصيدة (دانيال في جب أسود) - ص 50 من الديوان - وهي من الإسرائيليات المشهورة التي راقى تسجيلها شعراً، فجاء نقده معلنا جهله أو تجاهله لهذه القصة الدينية، وراح يلوم على ما يستحق الثناء من إيجاز أو تركيز في محله أو بساطة يدعو إليها سياق القصة، وكأنه أراد بالأقصوصة الشعرية الوجيزة أن تكون تفضيلاً خبرياً عن الحوادث لا لمحة شعرية من روح الموضوع.

وإذا كان شعري في حكم العدم كما يريد الأديب المرتيني أن يقول، فلماذا يشغل نفسه وقراء (الرسالة) بأكثر من ثلاث صفحات نقدية وهو يعلم أن هذا الضرب من الشعر لا تعني به إلا أقلية من الأدباء.
فهل صحيح أنه في حكم العدم؟! إن الشواهد التي يسوقها النقاد هي دائما كافية لتعزيزهم أو لخذلانهم، ولذلك يتهارب النقاد العاثرون من الإتيان بالشواهد، والأديب المرتيني كان بعيداً جداً عن التوفيق فيما ذكره من شواهد من غير تفتيش أو تنقيب على ما يقول.

وحسب القارئ أن ينظر في هذه الأبيات من قصيدة (العودة) (ص 30 من ديوان الينبوع) وقد وجهتها إلى الدكتور زكي مبارك الذي كان بصحبتي في قطار البحر عائدين من الإسكندرية: وداعا للرمال وللمغاني ...
وداعاً للملاحة يا صديقي أتذكر كيف كان الموج يجري ...
كما يجري الشقيق إلى الشقيق؟ وقفنا في جوار اليم سكرى ...
ككر الناظرين إلى الرحيق نرى في البر ألوان التناجي ...
وفي البحر المشارف والعميق كأن الحسن ذاب بكل لون ...
نراه، وفي المياه وفي الطريق! سكرناه سكرة الحمرمان حتى ...
كلانا كالأسير وكالطليق وهذا الجو يملؤه حنان ...
ولو أن الغروب من الحريق وأبنا أوبة المهزوم، لكن ...
بنا طرب من الأدب الحقيقي! فهذه القصيدة التي أعجب بها أستاذنا مطران إعجاباً عظيماً لم تستحق من ناقدنا الفاضل غير السخرية المبهمة التي إن لم تكن سخرية المغرض فهي سخرية المتسرع الذي يهرع إلى قلمه قبل أن يتمثل الموضوع الشعري ويستوعبه الاستيعاب الواجب. بيد أني مستعد للإيمان بحسن طوية الكاتب الفاضل، وأؤكد له أن نصائحه هي في صميم نفسي، ومع ذلك فمرحباً بنصائحه وبغيرته على اللغة! فهل له بعد هذا أن يأخذ نصيحة متواضعة مني مشفوعة برجاء: تلك أن يدرس الطاقة الشعرية عند الشعراء المختلفين فسوف يجدها متباينة، وأن طبيعة الإجادة الفنية لا شأن لها بإنتاج، بل ربما رهفتها كثرته، وأن الشاعر الملتوي الأسلوب الضعيف البيان السقيم الذوق لا يجديه إكثار ولا إقلال.

وهو وغيره أحرار بعد ذلك في وضعي في المكان الذي يرضي نفوسهم، وأما رجائي فمحصور في مبدأ أدبي عام يؤمن معه العثار النقدي ويمثله هذا البيت: كن أنت نفسي واقترن بعواطفي ...
تجد المعيب لدى غير معيب احمد زكي أبو شادي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١