أرشيف المقالات

شذرات (2)

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
2شذرات (2)
 
بين الإنسان والحيوان مفارقات، قد يخجل الناس من الاعتراف بتفوقها عليهم؛ كالجمل الذي لا يضاجع أنثاه إلا في خفاء وسرية، فإن لمحته عين، توقف على الفور ورأسه مخفوض نحو الأسفل.
 
الحيوانات بغريزتها فقط، لا تتجه نحو شذوذ الجنس، وإن انعدمت الإناث.
 
أنا على علم موثق بخبرة منذ الطفولة، وبدراسة معمقة، بأن الخوف من الجبان ضرورة من ضرورات الحياة والشخصية الواعية، فالعدو الشجاع يملك طاقة القوة والجرأة في المواجهة، قد يتصل بها شيء من رحمة، أو بتعبير أدق من شفقة، حتى لو كانت نابعة عن لجم التغول والشذوذ؛ خوفًا من فضيحة أو تهمة جبن وخسة، أما الجبان، فهو لا يملك سوى سلطة الخوف والقهر والنذالة والضعف، كلها تجتمع فيه وتجُرُّه نحو الخزي من ذاته وتكوينه، تسحبه نحو الهزيمة التي تحيطه بالرعب والهول والارتياع من همهمة أو نظرة، فيغوص بداخله، يتكوَّم فيها وهي ترتجف وتقشعر، تصطك وترتعد، لتصبح جاهزة بكل ما فيها للتمطي أمام دودة أو خنزير.
 
لكنها لحظة امتلاك القوة والسطوة، تبدأ زوابعها وعواصفها، زلازلها وبراكينها، تخسفها وكسوفها، باستخراج الذل والهوان والدناءة والخساسة، فتحولها لقوى تحاول التعويض عن الأصل بتوحُّش وبشاعة متعطشة لخنق تدفُّقات الخوف والجبن في عقله وهي ترسم ضعفه المعجون بالوهن والعجز.
 
لهذا لم أكن يومًا أحمل همَّ العداء مع شجاع، ولم أكن للحظة واحدة أفكِّر بنتائج العداء معه؛ لكنني منذ الطفولة حسبت حسابات كبيرة لمعاداة الجبان الذي يستطيع النزول عند الذل، فالجبن والغدر من نفس التكوين والطينة، وهما سلاحانِ لا حدود لهما إن تمكَّنا من امتلاك ما يؤهلهما للسيطرة والنفوذ والفتك، فالجبان كالبخيل، لا يمكن الركون إليهما أو الثقة بهما وإن ظلَّا يتلوانِ الكتابَ ويصومانِ الدهرَ ويُصلِّيانِ الليلَ.
 
من طَوايا اللئيم، أنه شديد الغباء، والتوهم بأنه صاحب اعتداد بالنفس؛ لذلك تراه يحسن الظن بما يفرز اللؤم فيه من بيوض تجعله يتمادى في بغيه وبهتانه وغلوائه، فإذا أضفت الحقد الموروث من الجهل المطبق، والبلاهة المتناهية مع العُتْه المُسيطر عليه من السخف والتفاهة جراء تربية عاقرة وعقيمة، موبوءة بالتصون والتحجُّر، فإنك تقف على حقيقة ذات يتملَّكها الغضب والحساسية المفرطة، التي تقود بدورها إلى تمكين شعور التميز والعظمة الخاوي والخالي من التبصُّر؛ لكن الذات اللئيمة لا تعترف بضعتها وهوانها وخستها؛ لذلك تناضل بكل ما فيها من انحطاط يفتت الحياء ويفتك بالخجل، كي تتشبَّث بما فيها من وقاحة وصلافة وفجور، لتسلم طواعية مفاتيح ضعفها وخورها ومقتلها، بل ومقتل كل من تظن أنه قريب منها، أو يمُتُّ لها بصِلَة، دون أن تدرك تلك الذات المتخمة بالهزيمة الذاتية والدناءة المتمكنة بأن الناس لها أيضًا سورات غضب؛ لذود عن كرامة، وثورات حق؛ لمقابلة اللؤم بما يليق به، بل وبما يفوقه بالقوة والصدمة والتدمير والنسف والاجتثاث من الجذور.
 
والتجربة تقول: إن اللئيم يبني لؤمه على تسامُح الكريم والحليم، فيغرق باعتقاد يغذيه العمى بأن الكريم حين يحاول إصلاح اللؤم بالترفُّع والتنزُّه عن الخِسَّة، وَبَذْل النقاء والصفاء، فإنه يقف في نواة الضعف وعدم القدرة على الرد.
 
والتجربة تقول: إن ردة فعل الكريم تأتي بعد صبر وكَظْمٍ؛ لكنها حين تتكوَّن وتتكوَّر فإنها تنفجر كبركانٍ عارمٍ يمحو وجودًا ليظهر وجودًا، ولا تكون هناك روادع، أو موانع، أو حواجز لقريب، أو بعيد، حبيب أو صديق؛ لأن من يستغرق في التفكير في إيذاء الآخرين؛ فقط لأنه لئيم الأصل والمنبت والتكوين والتفرع، عليه أن يستعد ليتحمل هو وكل من حوله نتائج البركان الذي سيفضح الحقائق والنفوس والسلوكيات التي كانت تتخفَّى وتختفي في عمق الكريم؛ حفظًا، وسترًا، وكرمًا وعِزَّةً.
 
السفهاء نوعانِ:
الأول: فيه ميزة الغفلة والجهل عما يتَّصِف به من صفات تقوده نحو مدارك سفلى من السلوكيات التي تؤدي لوضعه في إطار التجاهل والنَّبْذ والترك؛ بل والتعفُّف عن رؤيته أو مجالسته، لكن حسنته التي تشفع عنه أنه غير مدرك لحقيقة سفهه وحُمْقه وقحته.
 
الثاني: طامته فيما تحمل أعطافه من خمج وقيح وصديد، تفوح منها روائح العفن والكدر والرجس والنجاسة، فهو يدرك عمق ما فيه من سفه ولؤم وحقد وضغينة؛ بسبب قصور عقلي وعاطفي وتربوي وثقافي يحيط به من كل جانب؛ لكنه رغم ذلك يتمادى في خراقته وغبائه، ليزيد ذاته ومن مثله انحطاطًا فوق الانحطاط، وسفولًا فوق السفول، وهوانًا فوق الهوان.
 
فهو يتحدَّث بما يجهل، يدَّعي ما لا يستطيع، يصبح العالم بكل علم ومعرفة تطرح في أي مجلس من المجالس، نحن في بلادنا نطلق عليه في المثل الشعبي "أبو العريف"؛ تحقيرًا وتصغيرًا، فإن اختبرته بقراءة صفحة غير مشكلة، قلب المعنى والمؤدَّى، ولا أقصد الرفع والنصب والجر، فغياب الهمزة في كلمة يضعه في مصيبة تحويل الكلمة من أصلها الذي بهمزة إلى كلمة متشابكة النطق لا علاقة لها بالمفردة أو اللغة، وإن طلبت منه أن يكتب ما يُمْلَى عليه، فلن يتمكَّن من كتابة كلمة واحدة صحيحة غير الحروف والكلمات التي من حرفين أو ثلاثة، وحين تخبره بأنه أخطأ بالقراءة فإنه يرد ذلك إلى الهمزة، ويرد عن خطئه بالإملاء بأنه كتب ما أمليته عليه تمامًا.
 
والروعة هنا تكمن في ثقته بما قال وما فعل، وبعدم إحساسه بأنه مكشوف لطفل في السنة الابتدائية الأولى، ومنتهى الروعة حين يتمادى في ثقته ليصبح شخصه وخلقه نادرة يَتَنَدَّر بها الأغبياء والسفهاء قبل العقلاء والحكماء، والأروع من كل ما سبق أنه يعود ليضع نفسه في ذات الموقف ليكشف عن خلوِّه من الحياء والخجل مما ورث من تربية فاسدة أفسدته حد التباهي بسخرية الناس منه.
 
هناك أشياء على الإنسان أن يدركها من أعماقه، من عاطفته، وليس من الأفواه الناطقة؛ لأن ما يُقال لحظة الصمت، لحظة حديث العيون، وتفاعل الأحاسيس، أكثرُ بلاغةً وقوَّةً وصِدْقًا ممَّا تنقل الأفواه.
 
لم أحتقر بحياتي شيئًا، أو أحدًا، بقدر احتقاري لشخص يختار طوعًا، وجشعًا، وطمعًا، وخساسةً، وضعةً أن يعيش على نفقة زوجته، وهو قادر على الإنفاق مما يدَّخِر في البنوك، وما يملك من عقار.
 
وفوق ذلك يدَّعي بكل الخمج والزنخ الذي أفرزته تربيته بأنه ذكر، مع أنه لحظة الادِّعاء لم يجانف الحقيقة بكونه ذكرًا؛ لكنني أربأ بذكر الخنزير والكلب أن يقبلا أن يشبه مثله بمثلهما؛ لأنه سيضفي عليهما من رائحته وأصله وتربيته ما ينقص من قيمتهما ورفعتهما باتصالهما بالغريزة.
 
لكنه رغم ما فيه من دناءة وذُلٍّ وهوانٍ، أتقن وصف نفسه بالذكورة، ولم يتجرَّأ على الرجولة، فما يصدر عن اللسان في لحظة الغرور المشحون بالانحطاط، يصور الحقيقة الكامنة بالأعماق.
 
لم أولد من أجل إرضاء أحد غير الله سبحانه وتعالى، ثم والِدَيَّ، أما بقية الناس، فبيني وبينهم كرامتي وعِزَّتي واحترامي لذاتي.
 
هناك أناس يملكون المال، وهناك مال يملك الناس.
 
الساعة الصدئة المغطاة بالعفن والطحالب، لا تخلو من الصواب الكامل مرتين في كل يوم.
 
لا يمكننا وصف حيوان في البر والبحر والجو بالقاتل، مهما بلغت فرائسه مكانها في التعداد، فقط الإنسان هو من يستحق هذا الوصف، وما يتفرع عنه من مسميات للصفات التي ترافق نفسه وروحه.
 
الملك لا يقبل شريكًا في ملكه، ومن أجل التفرُّد تطير رؤوس، تسيل دماء، وتُبادُ شعوب؛ لكن الناس بما يملكون من غباء منقوع بالغباء يستبسلون بكل ما فيهم لتنصيب شريك لله في كل صفاته وأسمائه.
 
أتعلم ما هو الفرق بين الإنسان والحيوان؟ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يَقتُل عن بُعْد؛ لما فيه من جبن ودناءة تعجزه عن المواجهة كي يكون القتال عادلًا.
 
الحكمة لا تتعلق بالعلم والنجاح، كم من العلماء والمفكرين والفلاسفة، أحناهم الذل إلى حد التنازل عن الكرامة، كرامة العلم، وكرامة الحق، وأصبحوا أحذية على أبواب التوسل، يلبسهم الطغاة والعبيد ويخلعونهم وقتما شاءوا وكيفما شاءوا!
 
لو قُدِّر للإنسان أن يقف أمام ذاته، لِيَنْبشَها من أصولها، دون تعمية أو انتقاء أو إخفاء؛ لفاض الصديد والقيح وجرى كبحار توزع النتانة والخَمَّ والصُّنَان والزنخ، لتزكم الأنوف، وتحطم المناعة، وتفتح أبواب الضَّوَى والهُمُود والردى.
 
الوحدة هي الصديق الوحيد الذي يُكِنُّ لك كل الوفاء مهما قسوت عليه.
 
لولا ستر الله علينا، لتحوَّلت الأرض بكل ما فيها لمعركة فناء لا يقف عند حد من الحدود.
 
الصمت أقوى سلاح في كل ساحات التناقض والتضاد والاختلاف، فيه قوة ومتانة، رفعة وتسامٍ، والأهم أنه يضع صاحبه في منطقة الهيبة النابعة من المجهول، ليكون التحسب والتردد السد بين التفاهة وبين التطاول.
 
لم أندم في حياتي على شيء مثل ندمي على إفشاء سِرٍّ لكائن مهما بلغت ثقتي به وإخلاصه لي.
 
حب الذات ليس من الأنانية، فليس هناك من لا يحب ذاته سِرًّا أو علنًا، قمة الأنانية أن يطلب منك التخلي عن حبك لذاتك بدعوى التفاني والزهد، مع أن كل أعمالنا الخالصة لله سبحانه وتعالى تعبير واضح لحُبِّ الذَّات التي تنشد الرحمة خوفًا وطمعًا من غضب لا نستطيع احتماله.
 
الحرية هي الجمال، والجمال هو الحرية، وما بينهما يقع النور الذي يُفكِّك ظلمة الرؤى والبصائر.
 
عليك أن تتعلَّم تبديل بعض الناس تمامًا كما تُبدِّل الأحذية.
 
الموت أسبق من الحياة؛ لكننا لحظة الولادة نخلع الذاكرة التي تصل الميلاد بالنهاية، لننخرط بالفرح والسعادة التي تحمل بين طيَّاتها الدموع والجزع والفزع، حين يعود من جاء من الغيب، إلى غيب أشد هولًا وقسوةً، ليُصبِح كل شيء يخصه يخضع لصيغة الماضي، ثم ينسى وكأنه لم يكن يومًا جزءًا من الوجود.
 
اجعل من الذاكرة المتوثِّبة فراسة لا تخدع، تذكر رواية الشخص بين اليوم واليوم الذي يليه، وفعله بين الحدث والحدث، عدد اختلاف الروايات في الرواية ذاتها، وتباين الحدث في الحدث ذاته، ستدرك لحظتها كيف تقرأ النفوس دون مشقَّة أو عُسْر.
 
قال: أنا أشبعتك محبَّةً ووفاءً.
 
قلت: أنا لا أنكر ذلك؛ لكنك بالمقابل أردتني كما تريد أنت، أن أعيش تقلُّباتك وقناعاتك، عواطفك وانفعالاتك، دون تدقيق أو تمحيص، كإناء تفرغ فيه كل ما فيك، دون أن يضيق أو يمتلئ، أردت أن تكون صاحب الحق والحقيقة، وأن أكون صاحب السمع والطاعة، فهل تسمي هذا حبًّا ووفاءً؟
 
لم أشاهد ضعيفًا يبلغ مبلغًا من الانهيار، كمن يعيش دور الضحية المضحية، ويريد من الجميع تصديق تقمُّصه لدور خلقته أنانية مُفرِطة لحُبِّ الذات التي تلغي مَنْ حولها وما حولها.
 
أنت لم تتصل بي منذ زمن بعيد! قلت: وأنت لم تتصل بي منذ ذات الزمن.
 
بين الحق والباطل لا توجد منطقة وُسْطَى، في الحق لا شيء من الباطل، وفي الباطل لا شيء من الحق، فهما لا يلتقيان أو يتمازجان أو يندمجان، كل منهما له كُنْهه وصفته وجوهره، فإن قيل لك: إن أحدهما يشبه الآخر بشيء، فتبسَّم بسخرية مفرطة بالسخرية، وترفَّع عن الإجابة ترفُّع العدل عن الظلم.
 
قال لي "صديق" ذات يوم: الناس لا تحترمك كما تظن، بعد سفرك تحدثوا عنك بغير الذي كانوا يتحدثون عنك أمامك، قلت: لم أسمعهم يتحدثون عني بما تحدثت أنت عني الآن على ألسنتهم، وكلكم تحدثتم من خلفي، هذا مكانكم الذي تستحقونه بما تملكون من غيرة وحسد وجبن، وبما فيَّ من رهبة ومهابة تسكنكم رغم أنوفكم.
 
لا تقلق بما لم تستطِع اختباره بالناس الذين حولك، الزمن كفيل بذلك.
 
ذروة العظمة والحكمة والمنعة أن تكتم ألمك عن الناس، وخاصة أقرب الأقرباء، فليس على الأرض من يستطيع عيش الألم بكل ما فيه من وجع وفجيعة سوى صاحبه فقط، بقية الناس تأتي بالمواساة التي ستكون فيما بعد، ومع أول خطأ معهم، بحثًا في دخائلك وطواياك بالطريقة التي يريدون ويشتهون، فكن عظيمًا بألمك وفرحك داخل ذاتك وأناك.
 
يمكنك التحكُّم في الناس بكل سهولة، إن كنت تتقن فن الخديعة والمراءاة، فقط حقِّق لهم المدح الذي يقودهم لتسليم رقابهم للرسن الذي بين الكذب والتدليس، وأكثِرْ من النفخ فيهم حتى يصلوا إلى حد الانفجار إعجابًا بأنفسهم، وهوسًا بقدراتك في اكتشاف أنانيتهم المسحوبة من الجهل والحمق.
 
استدرار العطف لا يختلف أبدًا عن تسوُّل ما يسد النقص الذي يجتاح الشخصية، وكلما تمادى الشخص بخلق الأسباب للاحترام الذي يستحقُّه، أصبح محطَّ الشفقة والتقزُّز للخواء الذي يعوي بحثًا عن ثقة تعلن تبرُّؤها من الاستدرار والتسوُّل.
 
الخلق لم يتفقوا على الخالق جل في علاه، فلِمَ تُصابُ بالقلق حين تكتشف حاسدًا أو كارهًا أو جاحدًا؟
 
مواقع التواصل الاجتماعي تمامًا كالجيف النافقة، تستدعي الطيور والحيوانات القمامة للتغذي على النتانة والتحلل؛ لكنها في عالم الطبيعة تنقذ النظام البيئي وتحفظ توازنه، في عالم البشر، يتسابق الغبي والمدعي والمتفيهق والمتشدِّق والجاهل لمساواة أنفسهم بالعلماء والحكماء؛ مما يفرز زبدًا هائلًا سامًّا يغطي على حكمة الحكيم وعلم العالم وثقافة المثقف.
 
أقسى وأعتى وأشرس أنواع الغباء والجهل، ادِّعاء الغبي للذكاء، ويقين الجاهل بعلمه، حتى يبلغ كل منهما مبلغًا يدفعهما للتباهي بما يملكان من غرور الغباء والجهل ما يوصلهما إلى حد التصون والتحجُّر والتصلب، حتى حين تتكشَّف طواياهما وخباياهما أمام مفردة واحدة من مفردات اللغة.
 
قضيت فترة طويلة من عمري وأنا أتنقَّل بين الفلسفة والفلاسفة، تدفعني رغبة عارمة في امتلاك مفاتيحها التي كانت تبدو وكأنها عصيَّة على العقل العادي، وحين كبرت عرَفتُ أنني كنت أطارد وَهْمًا وعبثًا وخواء، وحين تحدد الوعي والإدراك، رأيت أمي العاجزة عن فك مفردة، وأهل المخيم البسطاء إلى حد الأُميَّة يتفوقون على الفلاسفة ببدهية وسليقة تُعجِز الفلسفة وتحط من قيمة الفلاسفة الموزعين في زوايا العقم والإحباط والتشدق، نيتشه مجرد مجنون، حملنا جنونه على أنه كشف كوني؛ لكنه في الحقيقة لا يُساوي بكل ما فيه وما منه رؤيا من رؤى التجربة التي كانت تفيض من البسطاء حكمًا تدني الحقيقة نحو الحق.
 
وحين أعود بذاكرتي أقف مشدوهًا من العبث العالمي الذي منح أرسطو وأفلاطون مكانةً بين العقلاء والمثقفين، وأيقنت بأن البرج العاجي الذي تصنعه الدعاية أكبر قيمة عند الناس من الحق والحقيقة، وخبرت عن عمق موغل بالعمق بأن التلاعب بالألفاظ يجر الجهلة والأغبياء والمتشدِّقين نحو التسليم بما فيهم من تحطم وانهيار وجبن، فهم لا يملكون من قيمة العقل وقدره ما يمكنهم من تخطي الهوس والوسوسة؛ لأنهم فقط أصحاب تقليد وتسليم.
 
أشد الناس خطرًا على الأُمَّة، أن يقف من لم يمسك في حياته كتابًا ليتحدث في شؤون الخلق والخالق، حتى يصل به العمى إلى حد تقييم علماء وأئمة، والأشد خطرًا من هذا أن يقرأ الجاهل مجموعة من الكتب، فترجه صدمة الغباء، ليعتقد بأنه وصل إلى حد الثقافة التي يجب على الغير الاعتراف بها، واحترام صاحبها الذي يظن بفعل صدمة الغباء بأنه عالم العلوم وممحص الثقافات ومكتشف النفوس.
 
العظمة تكمن في اقتناص اللحظة المواتية للفصل بين زمنين، بين نهايتين، بإمكانهما أن يزحزحا التاريخ إلى زاوية تتوافق مع عمق الفهم والإدراك لتلك اللحظة التي من شأنها أن تُقتَنَص بفذاذة الرؤية، ونقاء الفطرة.
 
إن استطعت الوصول إلى عدم الثقة بأي كائن، ووضعت ثقتك كلها بالله فقط، تكون قد وصلت مرحلة الحكمة والوعي والإدراك والمعرفة، وتكون قد حصَّنْت نفسك من الأنفس التي تتناوشك، وأبعدت ذواتك كلها دفعةً واحدةً عن غدر الغادرين وكيد الكائدين.
 
كلما أفشيت سِرًّا من أسرارك بدافع ثقة، أو توهم صداقة، قدمت جزءًا من قوتك ومتانتك وصلابتك للطبيعة المتغيرة في النفوس البشرية من الضد إلى الضد، ومن النقيض إلى النقيض، لتكون في النهاية بين حسابات ردات الفعل ممن ملكتهم طوعًا واختيارًا منافذ الوصول للضغط عليك بالتحسب والتوقع، والندم لا يعالج شيئًا مما مضى.
 
كل شيء ما خلا الله باطل، حقيقة ستدركها إن كنت تملك فقط قطرة من قطرات الكياسة والفطنة، فالألفاظ والأسماء هي للوصف فقط، لا تحمل بتكوينها معاني مما تدل عليه، أو تشير إليه، الصديق، الأهل، الأقارب، الأخ، الأخت، هي أسماء لأشياء موجودة بفعل العمليات المادية التي نمارسها بفعل الغريزة، قد يكون هناك استثناء في كونها الواسع المتوسِّع؛ لكنه الشذوذ عن القاعدة.
 
الأب والأم هما الاستثناء الكامل، فهما بكل ما فيهما أوفى الأوفياء، وأكرم الكرماء، وكلما أمعنَّا بالانتماء لهما، وصلنا ذواتنا بالله جل في علاه.
 
هناك فرق بين ملكة الحفظ، وملكة الذكاء، حفظ القرآن، والأحاديث النبوية، والمسائل الفقهية ضرورةٌ لنقل المعلومة لمن يحتاج إليها ولا يعلمها، أما الذكاء فهو يجمع بين الحفظ، والقدرة على التحليل والتفكيك، رؤية ما خلف الثنايا والمنعطفات، وعدم التجمد عند المعلومة الملقنة، الذكي هو من يستطيع نقل القضايا من مكانها إلى الواقع العملي، أما الحافظ، فهو من يقف عند نقطة الحشو، مثل ذاكرة الحاسب التي لا تضيف لما بها من حشو شيئًا سوى التكرار.
 
حَدِّقْ، أو بتعبير أكثر دقة تَفَرَّسْ، وتفحَّصْ وجوهَ المثقفين ذوي الكروش المنتفخة، حين يتوسطون الطاولات على قناة من القنوات، حاول الدخول بملامحهم في عيونهم، في نبرات أصواتهم، في بسمتهم وهم يرتبون المفردات والأفكار ببرجوازية العقل، وثراء المنطق، وحين يتقيأون "الحقائق" من أفواه غارقة بطعم الشهد واللحم والطير، وحاول أن تجمع هذه التفاصيل المكررة، لتضعها بإطار مقابل لإطار مفردات الأبطال، ستجد أن مفردات الأبطال محدودة ومعدودة، لكن أفعالهم، وَقْعَ أصواتهم، له مذاق آخر، ونكهة أخرى، لا تلتقي ولا تتفق مع الكروش المُعبَّأة بمائدة القول وماء القلم، ولا تنتمي إلى ربطات العُنُق المزركشة والملونة بعرق الناس الذين يتمرَّغون بالعذاب والألم، حتى طعم دموعهم فيه من حَبَقِ الأرض وشهيق التراب كثير الكثير.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير