أرشيف المقالات

البريد الأدبي

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 الأب أنستاس ماري في عيد ميلاده احتفل الشيخ الجليل الأب أنستاس ماري الكرملي في 5 آب بعيد ميلاده السادس والسبعين، منزوياً في صومعته الهادئة، منصوفاً إلى العمل الذي وقف عليه حياته إن سيرة الأب الكرملي مثال حي للفكرة التي تتسلط على ذهن الإنسان فتعلق بشغاف قلبه، وتغدو جزءاً من أجزاء نفسه؛ وأية فكرة هذه التي ملكت لب الأب وهيمنت على جوارحه منذ حداثة عهده؟ هي اللغة العربية، وأكبِرْ بها فكرةً ينزع إليها العقل، وتروَى عنها النفس، تراءت له وهو فتى لم يكد يبلغ أشده، فبهره منها الحسن والسناء، وقطع لها راضياً عهد المودة والوفاء.
وهاهو ذا بعد ستين سنة أو تزيد لا يزال وفيّاً بالعهد، متحمساً للغة الضاد حماسة الشباب الفوَّار، مخلصاً لها إخلاص الشيخوخة المحنكة الحكيمة كانت اللغة العربية مذ وجدت - ولن تزال - وسيلة للخطاب والتفاهم، تحمل الأفكار من ذهن إلى ذهن، وتنقل الأخبار من جيل إلى جيل، حتى قرَّبت بين الناس، ووصلت بين الأزمنة الغابرة والحاضرة.
وإذ أصبحت بعد تهذيب أطرافها وتنميق أسبابها أداة الآداب الرفيعة، لم تخرج عن كونها وسيلة لا غناءَ فيها إلا بما اتخذت له من غاية الإفصاح والتبيان.
لكن لكلماتها وتراكيبها - مع ذلك - جِرْساً في الأذن، ورسماً على القرطاس حبباها أحياناً إلى النفوس، وقرباها من الأذهان بصرف النظر عن مدلولها ومؤداها ولقد أشار إلى ذلك أناتول فرانس في كتابه: (الحياة الأدبية) عند الكلام على معجم جديد ظهر في اللغة الفرنسية، فقال إن بودلير كان يقرأ معجمات اللغة، ويبتهج بقراءتها، وأن تئوفيل غوتييه كان مولعاً بالكلمات يحبها حباً جماً، وأن جوزه ماريادي هريديا كان يجهر بان مطالعة المعجم تستشيره وتدخل على نفسه من اللذة والسرور ما لا تدخله قراءة رواية (الفرسان الثلاثة).
وأضاف أناتول فرانس قائلاً بأسلوبه الساحر: (أما أنا فلا أجد عادة للكلمات معنى يفوق المعنى الذي تجعله لها المصطلحات، فقد كنت في أغلب الأوقات أهيم في معاجم كبيرة، كأنها الرياض الملتفة.
وسبب ذلك أني أرى أن الألفاظ إنما هي صور، وما المعجم اللغوي سوى عالم قد رتب بحسب ترتيب حروف الهجاء.
وإذا نظرنا إلى الأمور نظرة صادقة فإننا نجد أن معجم اللغة إنما هو الكتاب الذي لا يفوقه كتاب، فإنه يشتمل على التصانيف بأجمعها، فما عليك إلا أن تستدرجها منه.

وإني لأشعر في قلبي بحنوّ عظيم إزاء كل كلمات اللغة.
إني اشعر برأفة كبيرة أمام طائفة التعابير البسيطة والفخمة.
إني أحبها كلها، فهي تستميلني وتستفزني، وإني لأمس الكتاب الذي يضمها مساً شديداً ينم على مبلغ تأثري وارتياحي) غير أن هذه الوسيلة التي يستعملها الناس في خطابهم، ويستعين بها الأدباء في أداء رسالتهم، قد أصبحت غاية في حد ذاتها للعلماء الذين انقطعوا إلى دراستها، ووقفوا حياتهم على استجلاء غوامضها. فلا عجب أن نهج لغوينا العربي نهج من سبقه من علماء اللغة الأعلام، من أبي منصور الأزهري صاحب التهذيب، وأبي نصر الجوهري صاحب الصحاح، ومجد الدين الفيروزابادي صاحب القاموس، إلى البستاني، والشدياق، والشرتوني، وسواهم من المحدثين، وأن ترسم خطى من سلف من أئمة التدقيق والتحقيق من أمثال جونسن ووبستر، وأميل لِتْره، فاتخذ من اللغة غاية ما بعدها غاية، يكب على نقد مفرداتها نقد الصيرفي وما أشبه لغوينا من بعض الوجوه بزميله الإنجليزي ضموئيل جونسن الذي سبقه بنيف وخمسين ومائة سنة! فغيرة الأب على اللغة العربية تشبه غيرة جونسن على لغته الإنجليزية، وأسلوب الأب المتين اللاذع يعدل أسلوب جونسن (وأن يكن هذا الإنجليزي الصميم لم يرض قط أن ينزل إلى ميدان المساجلات والمناظرات بالرغم عن الحملات التي كثيراً ما حملت عليه.) ومجلس الأب شبيه بالمنتدى الأدبي الذي أنشأه الدكتور جونسن وصحبه وحضره مؤرخه بُوزْوِل، فسجل مباحثاته ومداولاته. ومقام لغوينا العراقي بين أقطاب العربية معروف مرموق، وجهاده في سبيل الفصحى مرئي مسموع، ورأيه في التمسك بأهدابها مقبول متبوع.
ولنا عليه أن يكلل مساعيه الموفقة في خدمة اللغة الشريفة بإخراج معجمه الكبير الذي وسمه (بالمساعد)، فيتفرغ لإنجازه وتنقيحه وتبيضه، فهو عصارة سعيه وخلاصة جهده. (بغداد) مير بصري (سعد زغلول من أقضيته) لم يكن الأستاذ عبده حسن الزيات ينتظر أن أكتب كلمة عن كتابه الجديد (سعد زغلول من أقضيته)، لأنه يعرف أني فرطت في التنويه بمؤلفاته وأبحاثه التي ظهرت من قبل، وإن كان يعرف مع ذلك أن ثقتي بفضله وكفايته لا تحتاج إلى دليل الكتاب يُعرَف من عنوانه، كما يقال، وعنوان هذا الكتاب غاية في الدقة والتحديد؛ ومن غريب ما وقع لهذا العنوان أن الخطاط الذي كتبه - وهو حسني - قد استطاع أن يبرزه في أبهى حلة من حلل الجمال، مع أنه يقع في أربع كلمات يصعب الربط بينهما برباط الانسجام والاتساق؛ وما اذكر أني رأيت الكتاب معروضاً في أية مكتبة، إلا وقفت أمتع ذوقي بخط العنوان.
فإلى (حسني) الخطاط تحية خالصة لا يشوبها غير الحرص على إعزاز الفن الجميل ثم أتحدث عن الكتاب بإيجاز، فأذكر أنه من أقوى الشواهد على حصافة المؤلف، وعلى مبلغ فهمه للدراسات الجدية، وعلى أنه جدير بثقة الذين كرَّموه عند ظهور هذا الكتاب النفيس وأذكر أيضاً أنني ما تحدثت عن الأستاذ عبده حسن الزيات إلا وصفته بصدق الوطنية، فهو عندي من الشبان النوادر الذين يفهمون الوطنية على وجهها السليم، وقد جاء كتابه تأييداً لهذا الوصف: فهو خدمة صادقة لمصر، ممثلة في إبراز جوانب من الفقه والعدل عند أفراد من رجال القضاء، على رأسهم (سعد)، وهذه الخدمة تؤكد ما أشرنا إليه غير مرة من أن رجال القانون في مصر جعلوا لمصر المقام الأول بين الأمم الإسلامية في شرح القوانين باللغة العربية؛ ولو أن الأقدار كانت بخلت بأن يظفر (سعد زغلول) بذلك المجد الضخم، المجد الوطني والسياسي، ثم جاء كتاب الزيات يحدد نفسيته وعقليته من أقضيته، لكان كافياً في جعل (سعد) من أعاظم الرجال هذا الكتاب جيد جداً، فليس من الإسراف أن نرجو عميد كلية الحقوق أن يؤلف لجنة تنظر فيه، تمهيداً لمنح المؤلف درجة جامعية، وإغراءٍ لأمثاله من الشبان بالتعمق والاستقصاء وإذا كانت (ذكرى سعد) هي التي حدت المؤلف في بعض السنين الماضية على التفكير في موضوع كتابه الجليل، فأنا أرجو أن تكون كلمتي عن كتابه فنّاً من الاحتفال بذكرى (سعد)، سعد القاضي على أعدل ما تكون فكرة القضاء فإن لم يكن بدُّ من النص على السرّ في التوفيق الذي يحالف الأستاذ عبده حسن الزيات، فأنا أرجح أنه يرجع إلى البر بالوالدين، كتب الله له دوام التوفيق.

والسلام زكي مبارك تصحيح نشرت (الرسالة) في العدد (475) كلمة للأستاذ الفاضل حسين الظريفي عن بيت حافظ: كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ...
في حب مصر كثيرة العشاق جاء فيها (على أن في البيت غلطة نحوية باستعمال لفظة (كثيرة) فهي إن نصبت على الحالية لم يستقم المعنى، لأن كثرة عشاق مصر لا يكون حالاً من المكابدة، وإن جرت على الصفة احتاجت إلى التحلية بأل المعرفة، وبذلك ينكسر الوزن، وعليه يكون من الضرورة استبدال لفظة (الجملة) بلفظة (كثيرة) ليستقيم الوزن والمعنى معاً) ا.
هـ أقول: وهذه غفلة عجيبة فإن (كثيرة) تصلح أن تكون حالاً وأن تكون صفة، فإذا كانت حالاً فهي حال من مصر، والعامل فيها ليس يكابد كما توهم الكاتب؛ بل هو لفظ (حب) المضاف؛ والمعنى يكابد العشاق في حب مصر حال كونها كثيرة العشاق أي حبهم لها في هذه الحال وعلى أنها صفة تجري على الرأي القائل إن إضافة الصفة المشبهة محضة أي إضافة معرفة، وعلى ذلك فكثيرة معرفة علي محمد حسن في الشعر التمثيلي كتب الأستاذ البشبيشي في العدد 473 من الرسالة يقول: (فقد رأيت أن الشاعر البدوي الجليل عبد المطلب كان قد عالج لرواية الشعرية علاجاً استكمل شرائط الفن واستوفى أوصاف الحيوية التي طالعتنا من فنون أمير الشعراء.

فقد ألف عبد المطلب عدة روايات شعرية تمثيلية.

وبذلك ينفرد وحده بفضل السبق في هذه الناحية الخطيرة من الفن الأدبي، فقد افترع هذا اللون من الشعر الروائي افتراعاً) وكل ذلك لم يكن؛ فعبد المطلب وإن عالج الشعر التمثيلي ومشى فيه خطوات لا تحمد ولا تذم، لم يكن السابق ولا المفترع، وإن كان له فضل الاستجابة السريعة لتلك الموجة الجديدة بين شطآن أدبنا العربي الحديث؛ وإنما السابق إلى ذلك؛ الشاعر خليل اليازجي كما يحدثنا أستاذنا المرحوم محمود مصطفى في الجزء الثالث من أدبه العربي حيث يقول ص 413 (وعلى ذكر روايات شوقي التمثيلية نذكر أن أول من حاول جعل الرواية العربية كلها شعراً هو المرحوم الشيخ خليل اليازجي في رواية (المروءة والوفاء) وقد مثلت في الشام، ويذكر المرحوم جورجي زيدان أنه شاهدها في بيروت 1878م) ولا شك أن حادثة كهذه بلقاء في الأدب قد وصلت إلى سمع الشيخ عبد المطلب، وعلى فرض أنها لم تصل إلى سمعه فقد ملأ الشعر التمثيلي في القرن التاسع عشر أرجاء أوربا، هذه واحدة؛ أما الثانية فعبد المطلب على فضله لم يستكمل شرائط الحيوية التي طالعتنا من فنون أمير الشعراء.
فهذا القول أقرب إلى الغلو منه إلى شيء آخر؛ فشعر عبد المطلب في هذا الباب لا يصح أن يذكر بجانب شوقي وفحولته.
فهما وإن اشتركا في الجنس فقد اختلفا في النوع أيما اختلاف، وإنك لن تستطيع أن تتم قراءة تمثيلية لعبد المطلب إلا بعد حمل على النفس وإعنات لها وإجهاد.
حاشا شوقي فإنه يطير بك فلا تشعر أن لعقلك أو لقلبك منازعة معه، وإنما هي الفحولة الشعرية تفرض عليك أن تطير معها حيثما تطير عبد الرحمن عيسى خريج كلية اللغة العربية من نوادر الخواطر كتب (قاف) في العدد 188 من الثقافة تحت عنوان (شخصية العامل وعمله) ما يلي: تعودنا منذ قريب أن نقول كلما عرضنا للحديث عن شخص من رجالنا العامين، وحاولنا الموازنة بين عمله وبعض شئونه الخاصة - تعودنا أن نقول معتذرين من بعض سلوكه (هذه مسائل شخصية) وهو يضرب لذلك الأمثلة ثم يقول: (مستحيل أن يكون الرجل رجلين: رجلاً في الشارع والبيت، ورجلاً في الديوان.
إن الرجل الذي هنا هو الرجل الذي هناك وإن اختلف الزي والشارة. فهل يعلم (قاف) أن هذه الفكرة ذاتها قد وردت في مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف تحت عنوان (مقتول يبكي على قاتله) في العدد 371 من (الرسالة) الصادر في 12 أغسطس سنة 1940 حيث قال الأستاذ: إن هذا التفريق بين السلوك السياسي والسلوك الروحي قد صار أمره عجباً من أعاجيب الحياة الأوربية! وقد بات خطراً على الحياة الإنسانية الشخصية، لأنه تسرب إلى موازين الحكم على الأفراد، فهم يحترمون الذكي ويقدرونه ولو كان شيطاناً شريراً مفسداً ويقولون هناك حياة خاصة يحل للإنسان فيها ما يحرم عليه في الحياة العامة حتى تعددت الشخصيات.
ثم يقول بعد ذلك: هذا كذب وتدليس على الطبيعة كما أرادهما الله فاحذروه.
(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) لي آخر المقالة فهل يرى (قاف) أن هذا من توافق الخاطر؟ أحمد بدران

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن