أرشيف المقالات

نظام الصداقات في الإسلام

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للسيد علي حسين الوردي إن علم المالية العامة علم حديث، ولم يعر الناس التفاتهم إليه إلا في هذه العصور الأخيرة وذلك بعد أن تطورت الحكومات الحديثة وتشعبت وظائفها وانتشرت في الناس مبادئ الديمقراطية. لقد كانت الشعوب - فيما مضى - لا يعنون بالمالية الحكومة من حيث وارداتها أو مصروفاتها إذ كانوا يعتبرونها مما يخص الملك ومن يلوذ به من الوزراء والعمال.

وكانت الحكومات القديمة بدورها لا تهتم إلا بتوفير المال لخزينة الملك مستعملة في ذلك كل ما تستطيع من وسائل مشروعة أو غير مشروعة.
فلم يكن - كالحكومات الحديثة - توجه قسطاً كبيراً من عنايتها إلى العدل في فرض الضريبة، وفي توزيع عبئها توزيعاً مناسباً بين طبقات الأمة، وإلى إنفاق الواردات العامة فيما ينفع الناس ويزيد الرفاه في المجتمع. وقد كان الملك - الذي كانت الحكومة القديمة ممثّلة في شخصه - يتبع في إدارة ماليته العامة النظام الفردي إذ كان يعتبر المال المجموع ملكاً خاصاً له يتصرف به ولذا كان يسعى جهده لجباية أكبر كمية ممكنة من المال، وصرف أقل ما يمكن منها، ثم توفير المقادير المتبقّية استعداداً للطوارئ أو إشباعاً لرغباته الشخصية التي لها إذ ذاك المقام الأكبر في إعداد الميزانية العامة.
ولقد كان بعض الملوك يصرفون جزءاً مما يجمعون في الأعمال والمشروعات العامة، ولكنهم ما كانوا يعتبرون ذلك حقاً واجباً عليهم إنما هو فضل على الناس ومنه يتفضلون بها عليهم. ولم تكن الضرائب المباشرة معروفة حينذاك، فكانت الحكومة تعتمد غالباً على الجزية من القبائل المغلوبة أو على أملاك الدولة ومناجمها أو على ضرائب المكس والغرامات والمصادرة.
وقد لجاء الأثينيون والرومان أخيراً إلى الضرائب المباشرة وقت الحرب فقط.
وأن عبقرية الرومان الإدارية قد أدت بهم إلى ابتكار نظام بديع في جباية الضرائب، ولكن هذا النظام لم يكن يعني بشيء من التوزيع العادل في فرض الضرائب إنما كان موجهاً نحو الكفاءة جبايتها فقط. هذه صورة مختصرة وددنا أن نظهر بها للقارئ حالة الأمم قبيل ظهور الإسلام، من ناحية المالية العامة لكي تتضح له الخطوة الجبارة التي خطتها الدولة الإسلامية في هذا السبيل، ولكي يدرك أيضاً أهمية تلك الخطوة في إرشاد الناس إلى جلالة هذا الموضوع في توجيه العالم نحو هذا الوضع الذي تتمتع بع الأمم الحديثة اليوم في تنظيم ميزانياتها على أساس العدل والمنفعة العامة. أننا نجد - للمرة الأولى في التاريخ - وذلك على عهد الإسلام تلك العناية الكبرى التي توجه نحو أموال الأمة في جبايتها وصرفها وفي اعتبارها أنها لا تخص فرداً معيناً، إنما هي أموال الأمة جميعاً ويجب أن تنفق على مصالحها الحيوية بكل دقة. ولا حاجة بنا أن نذكر هنا ما كان الخلفاء يلزمون أنفسهم به - في العناية بأموال الأمة - من شدة وتقشف.
وإن ما يرويه التاريخ عن عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب أو غيرهما لدليل كاف على عظم تلك الخطوة التي خطاها المجتمع على عهد الإسلام في سبيل التمدن الحقيقي. لسنا نود التوسع في هذه الناحية فهي أوضح من أن تحتاج إلى توسع، ولكننا نريد أن نبحث في ناحية أخرى من هذا الموضوع، وهي ناحية العدل في توزيع عبء الضريبة على الأفراد إذ هي في الحقيقة من أعظم النواحي شأناً في علم المالية العامة. إن من الهيّن - نسبة - أن تعُد للضرائب إدارة كفؤة تستطيع بها أن تجهز للأمة ما تحتاج إليه من مال في سبيل مصالحها العامة، ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في فرض الضريبة العادلة التي تنتج خير ما يمكن من الآثار الاجتماعية والاقتصادية.
حقاً لقد شغلت هذه النقطة أقلام الباحثين في هذا الزمن أكثر مما شغلتهم أية ناحية أخرى من هذا العلم الواسع. لقد كان الرأي السائد منذ آدم سميث أن الفرد يجب أن يؤدي إلى الحكومة مبلغاً يتناسب مع جسامة موارده الخاصة. يظهر أن في هذا الرأي شيئاً من الحق، إذ من العدل أن يساهم الفرد في مالية الدولة بالنسبة إلى أرباحه أو ثروته التي يتمتع بها في ظل تلك الدولة. ولكن قد يعترضنا في ذلك رأي له وجاهته: فهل يجوز أن يؤخذ من أولى المكاسب الضئيلة عشر ما يكسبون مثلاً، ويؤخذ العشر كذلك من أولئك الأغنياء والموسرين الذين تأتيهم الأموال سيولاً كل حين.

أفي هذا عدل؟ وهل إن وطأة الضريبة التي يشعر بها أولئك الكاسبون الضعفاء تساوي أو تقارب ذلك الأثر الذي يكاد لا يحس به الأغنياء عند إعطاء عشر ما يحصلون عليه سنوياً من الأموال الطائلة.
اختلف الكتاب حول هذه النقطة الحساسة، ولا يزال حتى الآن ناشباً بعض النشوب، بيد أن معظم الكتاب المحدثين قد أجمعوا أخيراً على أن العدل ألا تكون نسبة الضريبة متساوية على جميع الأفراد، وهي ينبغي أن ترتفع شيئاً فشيئاً كلما زادت أرباح الفرد أو ثروته مائة بعد مائة، وهذا هو ما نجده اليوم مطبقاً في أغلب الأمم الراقية.
وقد وصلت النسبة في بعض الدول إلى 8 %. وإذا رجعنا إلى النظام الذي كان متبعاً على عهد الإسلام، نرى أن المشرع الإسلامي قد فطن إلى هذه النقطة، ونجد أن الدولة الإسلامية قد سارت حسب تلك الطريقة: يحدثنا أبو يوسف عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: (أن رسول الله ﷺ كتب كتاباً في الصدقة فقرنه بوصيته ولم يخرجه حتى مات، فعمل به أبو بكر ثم عمر من بعده، فكان فيه: في كل أربعين شاة شاة واحدة حتى تصل إلى مائة وعشرين، فإذا زادت فشاتان عن كل أربعين حتى تصل إلى مائتين، فإذا زادت فثلاث شياة حتى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة.
)
هذا مثل واحد نورده للقارئ يتضح له فيه أن هذا النوع من الضرائب قد طبَّق في الإسلام قبل ما يناهز الثلاثة عشر قرنا من تطبيقه أخيراً في الأمم الحديثة. ويجدر بنا انم نذكر أن النسبة المتصاعدة هذه في فرض الضريبة لم تستعمل إلا حديثاً جداً، وذلك تحت ضغط المبادئ الديمقراطية والاشتراكية التي تغلغلت أخيراً في صميم المجتمع. ولا تعجب - أيها القارئ - إذا علمت أن من كان يقول بها قبل جيل أو جيلين كان يعتبر من الشيوعيين أو الفوضويين وكان يتهم بأشنع التهم وأبشعها أجل، ولا يزال بعض الكتاب المشهورين حتى اليوم يؤمنون بوجوب تشجيع الإنتاج والجهود المربحة حيث ينبغي ألا يصادر قسم كبير من الأرباح بهذا النوع من الضرائب.
هذا ولكن الرأي الغالب اليوم والذي يحتمل أن يسود العالم غداً يؤيد تلك الضريبة ذات النسبة المتصاعدة، ويرى من الإنصاف أن تكون الوطأة التي يشعر بها دافعوا الضريبة، متساوية في الثقل لدى الجميع، أغنياء وفقراء، فكلما كان المشرع حريصاً على العدل في توزيع الضريبة، كانت النسبة ذات تصاعد أعظم.
ولا يعزب عن البال أن من أهم الضرائب الحديثة هو التقليل من ذلك الفرق الشاسع في توزيع الثروة بين الناس، حيث يموت البعض جوعاً بينما يلعب الآخرون بالمال لعباً. قد لا نخطئ الحق إذا قلنا إن الشرع الإسلامي كان يرمي إلى نفس الأهداف التي يرمي إليها اليوم المشرعون في هذا الموضوع.
ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إنه فاقهم في بعض النواحي. حقاً إن الدولة الإسلامية كانت أول دولة في التاريخ سنت نظاماً في الضرائب ابتغت فيه العدل وتوزيع الثروة العامة على أساس المساواة. ثم ينبغي إلا ننسى بأن معظم الضرائب كانت - في ذلك العهد - ضرائب مباشرة حيث لا يخفى ما لهذا من الأهمية في تاريخ الضرائب.
لقد كانت الضرائب المباشرة لم تفض في الأمم القديمة - كما قلنا آنفاً - إلا نادراً وذلك عند الحرب إذ لم يكن الإدراك السياسي قد وصل إلى تلك الدرجة التي يستسيغون بها فرض الضرائب مباشرة. والضرائب المباشرة بلا ريب هي المرحة التي توصل إليها المجتمع في تطوره السياسي والاجتماعي وهناك نواح أخرى في ضرائب الإسلام تتجه في مراميها إلى نفس الهدف الذي ذكرناه آنفاً ألا وهو العدل، وذلك مثل عدم استثناء النبلاء والطبقات الأرستقراطية من الضريبة، وهو ما كان شائعاً في العالم حتى القرون الأخيرة، ومثل التفريق في نسبة الضريبة على إنتاج المكابدة وإنتاج اليسر.

الخ.
وعسانا نستطيع أن نوفي ذلك حقه في فرصة أخرى. (بيروت - الجامعة الأمريكية) علي حسين الوردي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١