أرشيف المقالات

التأمين على الحياة

مدة قراءة المادة : 48 دقائق .
التأمين على الحياة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فإن الكثير من الناس يسألون عن حكم التأمين على الحياة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
تعريف التأمين عند علماء الاقتصاد:
التأمين: عقْدٌ يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤديَ إلى المؤمَّن له أو إلى المستفيد، الذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا أو عوضًا ماليًّا، في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبيَّن بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَّن له للمؤمِّن؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للدكتور علي السالوس، ص: 365].
التأمين في العصور القديمة:
كان التأمين موجودًا منذ زمن بعيد، وإن لم يكن معروفًا بنظمه الحاضرة، وكان الإغريق عندهم مثل التأمين، فقد قامت جماعة من مُلَّاك العبيد بدفع أقساط معينة عن عبيدهم إلى الجمعيات التي كانت قد أُنشئتْ لهذا الغرض، في مقابل أن تدفع الجمعية ثمنَ العبد إذا هرَب من سيده.
 
ويقول رجال التأمين: إن التأمين البحريَّ هو أقدم أنواع التأمين ظهورًا عام 1185م.
 
ومن صور التأمين القديمة أن ربَّان السفينة إذا تعرض للخطر أثناء رحلتها، كان يملك الحق بإلقاء جزء من الحمولة، ويتحمَّل أصحاب البضائع الناجية قيمةَ ما ألقاه.
أما التأمين البري بمختلِف أنواعه، فلم يظهر إلا في القرن السابع عشر الميلادي، عندما تعرضت مدينة لندن لحريق استمر أربعة أيام وذلك عام 1666م، غير أنه في بعض البلدان الأخرى لم يظهر إلا في القرن الثامن عشر، ونتيجة لاختلاف ظروف الحياة بظهور كثير من الصناعات، واكتشاف كثير من الاختراعات، فقد ظهرت أنواع جديدة من التأمين، وهي كثيرة ومتنوعة تزيد على مائة نوع.
 
بداية ظهور التأمين في البلاد الإسلامية:
بدأ ظهور التأمين في البلاد العربية أواخر القرن التاسع عشر عن طريق الشركات الإيطالية والبريطانية، وأخذت كثير من الشركات في البلاد الإسلامية تسير حذْوَ هاتين الشركتين، وتكاثرت المؤسسات التأمينية تبعًا لذلك، بل إن بعضًا من الدول العربية قامت بتبنِّي التأمين والإشراف عليه مباشرة، وسنِّ قوانين وأنظمة له، ولم تقف عند هذا الحد، بل جعلته إجباريًّا في بعض أنواعه.
 
ولا يزال التأمين بصوره المختلفة ينمو ويزداد في كل مكان من العالم، وفي كل ناحية من نواحي حياة الشعوب الاقتصادية والاجتماعية؛ وذلك بفضل النمو الاقتصادي الذي يشهده العالم في شتى بقاعه الآن؛ [التأمين بين الحظر والإباحة لسعدي أبو جيب، ص: 11، ص: 12، التأمين في الشريعة والقانون للدكتور شوكت محمد عليان، ص: 13، ص: 16].
 
أركان عقد التأمين:
أركان عقد التأمين ثلاثة؛ وهي:
1- مبلغ التأمين.
2- الخطر.
3- قسط التأمين.
وسوف نتحدث عن أركان التأمين بشيء من الإيجاز.
 
أولًا: مبلغ التأمين:
قال الدكتور علي السالوس: "ذَكَرَ القانون ثلاثة أشياء يجوز أن تلتزم بأي منها شركة التأمين؛ وهي: مبلغ من المال أو إيراد مرتب أو أي عوض مالي آخر، الذي يمكن أن يكون معلومًا هو المبلغ من المال، أما العوض المالي الآخر، فقد يكون معلومًا، وقد يكون غير معلوم، والإيراد المرتب فيه غَرَرٌ فاحش (جهالة كبيرة) بل مقامرة، ومثل هذا ممنوع شرعًا، جائز قانونًا".
 
وجاء في المادة 742 من القانون المدني المصري: يجوز أن يكون المرتَّب مقررًا مدى حياة الملتزَم له أو مدى حياة الملتزِم أو مدى حياة شخص آخر.
 
والقِمار هنا واضح جليٌّ؛ حيث لا يدري أحدٌ من البشر متى تنتهي حياة أيٍّ من هؤلاء المُشار إليهم.
 
ومبلغ التأمين الذي تلتزم به الشركة يراعى فيه الأضرار الناجمة عن الخطر المؤمَّن عليه؛ فعقد التأمين عقد معاوضة مالية، فهو كالبيع، ومبلغ التأمين كالثمن، والمعلوم في عقود المعاوضات أنها لا تصح مع الغَرَر الفاحش، وهو واضح هنا تمامًا؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 365، ص: 367].
 
ثانيًا: الخطر:
إذا كان مبلغ التأمين يشبه الثمن، فإن الخطر هو ما يشبه المبيع؛ حيث إنه العِوَضُ عن مبلغ التأمين، فهل سلم العوض هنا – وهو الخطر – من القمار والغرر الفاحش؟ لا، بل الغرر هنا أشد فحشًا، والمقامرة أكثر وضوحًا.
 
فالخطر هو الركن الجوهري في عقد التأمين، وهو أمر غيبيٌّ، لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ويقول شراح القانون المدني: يشترط في الخطر أن يكون غيرَ محقَّق الوقوع، وفي صورة وحيدة لعقد التأمين يكون فيها الخطر محقق الوقوع، وهو التأمين على الحياة إذا بقيَ حيًّا بعد مدة معينة، وكما هو ظاهر، فإن ذلك غير محقق الوقوع، فمن يضمن لنفسه البقاء ساعة واحدة؟! [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 367].
 
ثالثًا: قسط التأمين:
هذا القسط هو المبلغ المالي الذي يدفعه المستأمَن للشركة مقابل التعويض عن الخطر، ومع أن المستأمن هو الذي يتحمل المبلغ، فلا دخلَ له في تقديره، ولا حقَّ له في الاعتراض على تحديده؛ حيث إن الشركة هي التي تقدِّر بحسب ما تراه تبعًا للخطر بحسب تقديرها هي أيضًا، فالعقد – إذًا - عقد إذعان، وإن كان من عقود التراضي؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 367].
 
خصائص عقد التأمين:
يمكن أن نجمل خصائص عقد التأمين فيما يلي:
1- عقد من عقود التراضي.
 
2- عقد ملزِم لطرفيه.
 
3- عقد من عقود المعاوضة، كالبيع والشراء.
 
4- عقد احتمالي؛ لأن ما يدفعه المؤمَّن له من بدل التأمين، وما يدفعه المؤمِّن من تعويض مجهول بالنسبة لكل منهما.
 
5- عقد مستمر، فلا بد من زمن ليتمَّ فيه تنفيذ التزامات الطرفين.
 
6- عقد من عقود الإذعان؛ إذ يخضع المؤمَّن له لشروط وقيود مطبوعة، مكتوبة بصورة مسبقة، تكاد تكون واحدة بين شركات التأمين في بلاد العالم؛ [التأمين بين الحظر والإباحة لسعدي أبو جيب، ص: 16، ص: 17، التأمين في الشريعة والقانون للدكتور شوكت محمد عليان، ص: 29، ص: 31].
 
أنواع التأمين:
التأمين نوعان:
الأول: التأمين الإسلامي (التأمين التعاوني):
هذا النوع من التأمين لا يهدِف إلى الربح، بل إلى التعاون في تحمُّل الأضرار، وفي هذا التأمين تشترك مجموعة من الأشخاص، فيدفع كل منهم مبلغًا معينًا، ومن هذه المبالغ يتم مساعدة من يصيبه ضرر، فكل واحد منهم يعتبر مؤمِّنًا ومؤمَّنًا عليه.
 
الثاني: التأمين التجاري (التأمين ذو القسط الثابت):
هذا النوع من التأمين يهدف إلى الربح أساسًا، وهو الذي يُراد من كلمة التأمين إذا أُطلقت، وفيه يدفع المؤمَّن له مبلغًا من المال للمؤمِّن (شركة التأمين) على أن يتحمل المؤمِّن تعويض الضرر الذي يصيب المؤمَّن له، فإن لم يتعرض للضرر المحدد بعقد التأمين أصبح المبلغ المدفوع حقًّا للمؤمِّن (شركة التأمين)، ولا شيء للمؤمَّن له؛ [التأمين لسعدي أبو جيب، ص: 18، موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 371].
 
أنواع التأمين التجاري:
ينقسم التأمين التجاري من حيث موضوعه إلى قسمين رئيسين:
أولًا: تأمين الأضرار:
هذا النوع من التأمين يكون في التأمين على بعض الممتلكات، كالتأمين ضد السرقة أو الحريق وغير ذلك مما شاع في عصرنا، فيعوض المستأمِنُ بالمبالغ المتفَق عليها في وثيقة التأمين عند حدوث الخطر المؤمَّنَ من أجل الوقاية من أضراره، ويُلاحَظ هنا أن شركة التأمين عند دفع التعويض تنظر إلى مبلغ التأمين المتفَق عليه، ونسبة الضرر.
 
مثال:
إذا كان تأمين الحريق على بيت قيمته 800000 جنيه، بمبلغ 400000، ثم شبَّ حريق التَهَمَ نصف البيت؛ أي: ما يساوي 400000، فإن الشركة لا تدفع المبلغ المتفق عليه كاملًا، وإنما تدفع نصفه فقط، وهو نسبة الضرر الذي أصاب البيت.
 
ويدخل تأمين الأضرار أيضًا في التأمين من المسؤولية، مثل مسؤولية المؤمَّن له عن حوادث السيارات أو العمل، أو أي ضرر يصيب أموال الغير، ويكون مسؤولًا عنه، فتقوم شركة التأمين بتعويض المؤمَّن له عند حدوث الحادث بأقل المبلغين: مبلغ التأمين المتفَق عليه، والمبلغ الذي التزم بدفعه لمن أصابه الضرر؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للدكتور علي السالوس، ص: 373].
 
ثانيًا: تأمين الأشخاص:
المقصود بالتأمين على الأشخاص هو التأمين من الأخطار التي تتصل بالإنسان نفسه من حيث حياته أو صحته أو سلامته.
 
ويشمل هذا النوع التأمينَ على الحياة، والتأمين ضد الحوادث الجسمانية.
 
التأمين على الحياة:
التأمين على الحياة عقد يلتزم بمقتضاه المؤمِّن مقابل أقساط بأن يدفع لطالب التأمين أو لشخص ثالث مبلغًا من المال، عند موت المؤمَّن على حياته، أو عند بقائه مدة معينة، وتسعى شركات التأمين لإغراء الناس، بل سلب أموالهم برضاهم، بإيجاد أنماط مختلفة وصور متعددة لهذا التأمين، وأشهرها التأمين لحالة الوفاة، والتأمين لحالة البقاء، والتأمين المختلط، وسوف نتحدث عنها بإيجاز.
 
الحالة الأولى: التأمين لحالة الوفاة:
وفي هذه الحالة يدفع مبلغ التأمين عند وفاة المؤمَّن على حياته، وله صور متعددة:
الصورة الأولى: التأمين مدى الحياة:
وفي هذه الصورة تدفع شركة التأمين مبلغ التأمين للمستفيد عند وفاة المؤمَّن على حياته.
 
مثال:
إذا كان التأمين لمدة معينة؛ عشرين سنة مثلًا، ومات المؤمَّن على حياته قبل هذه المدة، سقطت أقساط التأمين، واستحق المستفيد مبلغ التأمين كاملًا، وإن عاش المؤمَّن على حياته بعد المدة، توقف عن دفع الأقساط، ولكن لا يصرف مبلغ التأمين للمستفيد إلا بعد وفاة المؤمَّن عليه.
 
وفي هذه الحالة إذا نظرنا إلى المدة التي تبقى فيها أقساط التأمين في ملك الشركة والفوائد الربوية التي تحصل عليها، عرفنا المبالغ الطائلة التي تحصل عليها الشركة وقلة ما تدفعه من مبلغ التأمين، والذي أمَّن على نفسه لمدة عشرين سنة ومات بعد مدة قصيرة، قد تكون أيامًا، فإن الشركة تخسر مبلغ التأمين.
 
ويتضح جليًّا مما سبق اشتمال عقود التأمين التجاري على الربا والقمار والغرر الفاحش؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 374].
 
الصورة الثانية: التأمين المؤقت:
في هذه الصورة يقوم المؤمَّن على حياته بدفع قسط التأمين على أن تلتزم شركة التأمين بدفع مبلغ التأمين للمستفيد، إن مات المؤمَّن على حياته خلال مدة معينة، فإن لم يمُتْ ضاع ما دفعه، ولا تدفع له شركة التأمين شيئًا، وتأخذ المبالغ دون مقابل، والقمار في هذه الصورة واضح جَلِيٌّ.
 
الصورة الثالثة: تأمين البقاء:
المقصود بتأمين البقاء: هو بقاء المستفيد حيًّا بعد موت المؤمَّن عليه، وفي هذه الصورة تقوم شركة التأمين بدفع مبلغ التأمين للمستفيد إن بقي حيًّا بعد موت المؤمَّن على حياته، ولكن إذا مات المستفيد قبل المؤمَّن على حياته، انتهى التأمين وضاعت أموال المؤمَّن على حياته، والقمار في هذه الصورة واضح جَلِيٌّ.
 
الحالة الثانية: التأمين لحالة البقاء:
المقصود بالتأمين لحالة البقاء: هو بقاء المؤمَّن على حياته، وفي هذه الحالة يقوم المؤمَّن له بدفع مبلغ معين لشركة التأمين؛ حيث تلتزم الشركة بدفع مبلغ معين أيضًا للمؤمِّن عليه في وقت محدد إن ظل حيًّا إلى ذلك الوقت، فإن مات قبل الوقت المحدد، انتهى التأمين، وضاعت الأموال التي دفعها المؤمَّن عليه، ولا يستفيد منها ورثته.
 
الحالة الثالثة: التأمين المختلط:
وهذا النوع يجمع بين حالتي التأمين لحالة الوفاة والتأمين لحالة البقاء؛ ولذا سمي مختلطًا، في هذه الحالة تلتزم شركة التأمين بدفع مبلغ التأمين إلى المستفيد إذا مات المؤمَّن على حياته في خلال مدة معينة، أو تدفعه إلى المؤمَّن على حياته هو نفسه إذا ظل حيًّا عند انقضاء هذه المدة؛ ولذلك فإن أقساط التأمين أكبر من الحالتين الأوليين؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 374، ص: 375].
 
التأمين ضد الحوادث الجسمانية:
هذا هو النوع الثاني من نوعَيِ التأمين على الأشخاص، بعد التأمين على الحياة، وفي هذا النوع تلتزم شركة التأمين بدفع مبلغ من المال إلى المؤمَّن عليه في حالة إصابته بحادث جسماني خلال مدة التأمين، أو إلى المستفيد المعين إذا مات المشترِك في التأمين.
 
والتأمين الصحي لهذه الشركات يلحق بهذا النوع، وقد يشمل جميع الأمراض، وقد يقتصر على الأمراض الجسمية، أو على العمليات الجراحية، أو على بعض الأمراض، ووثيقة التأمين تحدد الخطر المؤمَّن منه، وهو ما تلتزم به شركة التأمين؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 375].
 
حقيقة عمل شركات التأمين الإسلامية:
إن شركة التأمين الإسلامية تأخذ الأقساط المالية التي يدفعها المشتركون في التأمين، وتستثمرها لهم بالطرق المشروعة تحت رقابة من علماء الشريعة والمتخصصين في مجالات الاستثمار المختلفة، وهذه الأموال تعتبر أمانة تحت يد شركة التأمين، ولا تنتقل ملكية هذه الأموال إلى الشركة أبدًا، ثم تأخذ الشركة - باعتبارها عاملَ مضاربة - نسبةً معلومة من الأرباح في مقابل عملها، وتبقى - إلا باقي الأرباح مع رأس المال - ملكًا للمشتركين في شركة التأمين، وتدفع الشركة من هذا المال مبالغ التأمين لمن يصيبهم ضرر، أو يَلْحَقُ بهم خطرٌ تبعًا لنصوص وثائق التأمين، وهذا هو عنصر التكافل، وما يبقى بعد ذلك لا يكون ملكًا للشركة، بل يُرَدُّ إلى المشتركين في التأمين بعد حجز الاحتياطيات المطلوبة، وهكذا يكون كل مشترك في شركة التأمين الإسلامية مؤمِّنًا ومؤمَّنًا عليه في وقت واحد.
 
مثال:
إذا افترضنا أن مجموع ما أخذته شركة التأمين الإسلامية مائة مليون جنيه، وأنها استثمرته فزاد عشرين مليونًا، أخذت الشركة من الربح عشرة ملايين، ويبقى للمشتركين في التأمين من تعويضات بلغ ستين مليونًا، فإذًا يبقى خمسون مليونًا، وهو يمثل نصف الأقساط المدفوعة، وعند إذ قل ما يبقى للمستأمنين، وكلما قلت التعويضات، زاد ما يبقى للمستأمنين، وفي كلتا الحالتين لا تَغْرَم شركة التأمين الإسلامية شيئًا، ولا تَغْنَم، وإنما تَرُدٌّ ما بقي للمشتركين في التأمين؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للدكتور علي السالوس، ص: 371، ص: 372، فقه البيع والاستيثاق للدكتور علي السالوس، ص: 1433، ص: 1434].
 
مقارنة بين شركات التأمين الإسلامية وشركات التأمين التجارية:
عندما تتسلم شركات التأمين التجارية قسط التأمين من المؤمَّن عليه، فإن هذا المبلغ من المال يصبح ملكًا لها؛ عوضًا عما تلتزم به الشركة من التعويض عند تحقق الخطر أو الضرر الذي بسببه تمَّ التأمين، فإن لم يحدُثْ خطر أو ضرر، كان القسط ملكًا للشركة بلا عوض، وإن كان مبلغ التأمين أكبر من قسط مبلغ التأمين الذي تمتلكه، فإنها تلتزم بدفعه؛ ومن هنا يظهر القمار والغرر الفاحش في عقود شركات التأمين التجارية.
 
وأما في شركات التأمين الإسلامية، فإن قسط مبلغ التأمين الذي يدفعه المؤمَّن عليه للشركة لا يدخل في ملكها، ومبلغ التأمين لا تدفعه الشركة من أموالها الخاصة، والعلاقة بين الشركة وبين المستأمنين ليست علاقة معاوضة كالبائع والمشتري؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 371].
 
شبهات الذين أباحوا التأمين التجاري والرد عليها:
إن الذين أباحوا التأمين التِّجاريَّ مطلقًا أو بعضًا من أنواعه، قد استدلوا ببعض الشبهات التي تؤيد رأيهم، وسوف نذكر بإيجاز شديد بعضًا من هذه الشبهات، وردَّ أهل العلم عليها.
 
الشبهة الأولى:
قال الذين أباحوا التأمين التجاري: إنه يحقق مصلحة عامة وهامة جدًّا، فيكون حكمه الجواز، ولا فرق في ذلك بين التأمين على الأشياء، والتأمين على الحياة.
 
الرد على هذه الشبهة:
إن الاستدلال بالاستصلاح غيرُ صحيح، فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع، فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار، فهو مصلحة مرسلة، وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربًا، فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه؛ لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.
 
الشبهة الثانية:
قال الذين أباحوا التأمين التجاري: إن الأصل في الأشياء الإباحة، وهذا يعنى أن معاملات الناس التي تعود عليهم بالنفع مباحة، إلا ما ورد فيها دليلٌ مخصوص يقتضي غيرَ ذلك، فمقتضى هذه القاعدة تكون عمليات التأمين بكل أنواعها مباحة؛ لأنها من معاملات الناس النافعة، ولم يَرِدْ بخصوصها نصٌّ يمنعها.
 
الرد على هذه الشبهة:
هذا الاستدلال مردود على أصحابه؛ لأن الإباحة الأصلية لا تصلح دليلًا هنا؛ لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم المناقَل عنها، وقد وُجد، فبَطَلَ الاستدلال بها.
 
الشبهة الثالثة:
قالوا: لقد أصبح التأمين في العصر الحاضر أمرًا ضروريًّا لا يمكن الاستغناء عنه، والضرورات تبيح المحظورات؛ ولذا فإن التأمين التجاري جائز شرعًا.
 
الرد على هذه الشبهة:
هذا الاستدلال مردود على أصحابه، صحيح أن الناس سيقعون في حرج لو منعنا عنهم عقد التأمين بالكلية، بعد أن ألِفوه، وتغلغل في جميع حياتهم، ومع ذلك لا يجوز أن نلجأ إلى استخدام الضرورة لإباحة التأمين التجاري؛ لأن هناك التأمين التعاوني الذي يمكننا أن نوسع حدوده؛ ليشمل النواحي التي يحتاجها الناس.
 
ومعلوم أنه لا يجوز اللجوء إلى استخدام الضرورة أو الحاجة، إلا إذا لم نجد سبيلًا غيرها.
 
الشبهة الرابعة:
قال الذين أباحوا التأمين التجاري: إن العُرْفَ مصدر شرعيٌّ للأحكام، وبما أن التأمين قد كثر تعامل الناس به وتعارفوا عليه، ولذا فهو جائز شرعًا.
 
الرد على هذه الشبهة:
لا يصح الاستدلال بالعرف، فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام، وإنما يُبنَى عليه تطبيق الأحكام، وفهم المراد من ألفاظ النصوص، ومن عبادات الناس في أيْمَانِهم، وسائر ما يُحتاج إلى تحديد المقصود من الأقوال والأفعال، فلا تأثير لعرف الناس فيما بيَّنت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة أمرَه، وحددت المقصود منه، وقد دلَّتِ النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على منع التأمين التجاري، فلا اعتبار للعرف مع هذه النصوص.
 
الشبهة الخامسة:
قالوا: إننا نقيس التأمين على المضاربة؛ فإن التأمين يشبه المضاربة وفيه يكون المال من جانب المشتركين الذين يدفعون الأقساط، ويكون العمل من جانب شركة التأمين التي تستغل هذه الأموال والربح للمشتركين وللشركة حسب التعاقد.
 
الرد على هذه الشبهة:
هذا القياس غير صحيح لأسباب؛ هي:
أولًا: رأس المال في المضاربة ملك لصاحبه، ولا يدخل في ملك العامل، أما في التامين، فالمال الذي يدفعه المؤمَّن له لشركة التامين يدخل في ملكها وتتصرف فيه كما تشاء.
 
ثانيًا: في حال موت صاحب المال في المضاربة يستحق ورثته ذلك المال، وأما في التامين، فقد يستحق الورثة مبلغ التامين كله، ولو لم يدفع مورِّثهم إلا قسطًا واحدًا، وقد لا يستحقون شيئًا إذا كان المورِّث قد حدد المستفيد من غير ورثته.
 
ثالثًا: الربح في المضاربة يكون بين الشريكين حسب الاتفاق، وأما في التامين، فربْحُ رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمَن إلا مبلغ التأمين، أو مبلغٌ غير محدود؛ [التأمين بين الحظر والإباحة لسعدي أبو جيب، ص: 43، ص: 70، ص: 77، ص: 83، موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للدكتور علي السالوس، ص: 388، ص: 392، التأمين في الشريعة والقانون للدكتور شوكت محمد عليان، ص: 43، ص: 151].
 
ربانية الشريعة الإسلامية:
يظن كثير من المسلمين أن التأمين بصورته الحالية يحقق لهم منافعَ لا نظير لها، ونسيَ هؤلاء أن الشريعة الإسلامية كفيلة بتحقيق مصالحَ أكبرَ من تلك المصالح التي يظنونها في شركات التأمين المعاصرة، فضلًا عن دَرْئِها للمفاسد، التي تزيد في تحقيق المصالح، إن الشريعة الإسلامية الغرَّاء لم تقف حائرة ولا جامدة أمام مشكلة أو حادثة، بل وجدت فيها الحلول العاجلة والعادلة لكل ما يستجدُّ من أحداث في كل مكان وزمان، فهي تفصل في كل دعوى، وتحكم في كل قضية، وتفتي في كل حادثة، وهي بذلك تستطيع أن تواجه كل مشكلة وتحل كل عقدة، فمهما تطورت العلوم، وتشعبت مذاهب الحياة، ومهما تجددت الحوادث وتعقدت مشاكل الحياة، فإن الشريعة الإسلامية قادرة على حل جميع مشاكل الحياة، كيف لا وهي شريعة رب العالمين التي أنزلها على خاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ إن الشريعة الإسلامية تؤمِّن رزق كل إنسان، فهي تحقق الأمان للمجتمع الإسلامي، على عكس المجتمعات غير الإسلامية التي احتاجت إلى قوانين تؤمن لهم حياتهم، لقد دعا الإسلام إلى التكافل؛ فدعا القادر لمساعدة العاجز، والغنيَّ لمساعدة الفقير، لقد بنى الإسلام شريعته وأقام نظامه على أساس قويٍّ من عزة النفس الإنسانية وكرامتها، فوضع من الأنظمة المالية والجزاءات التأديبية ما جعل الفقير وذوي الحاجة والعاجز عن الكسب يعيش في مأمَن من الخوف والضيق، ووَصَلَهُم بعون مادي لا ينقطع ما دامت روح الإسلام تملأ قلوبهم، وتسيطر على نفوسهم وتتغلغل في المجتمع، فكان التعاون الذي يشير إليه القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]؛ [التأمين في الشريعة والقانون للدكتور شوكت محمد عليان، ص: 179، ص: 181].
 
الإسلام دين التكافل:
إن الإسلام منهج حياة، فهو يحثنا دائمًا على التكافل والتراحم والمحبة؛ لتحقيق الخير والطمأنينة في المجتمع، وذلك من خلال آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ وسوف نذكر بعضًا منها:
أولًا: القرآن الكريم:
يقول الله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].
 
وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
 
وقال جل شأنه: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9].
 
وقال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36].
 
ثانيًا: التكافل في السنة:
روى مسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا))؛ [مسلم حديث: 2585].


روى مسلم عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى))؛ [مسلم حديث: 2586].

وروى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المسلم: ((أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلِمُه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً، فرَّج الله عنه كُرْبةً من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))؛ [البخاري حديث 2442، مسلم حديث 2580].

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: ((بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يَصْرِف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضلُ ظهرٍ، فلْيَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ من زاد، فلْيَعُدْ به على من لا زاد له))؛ [مسلم حديث: 1728].


وروى مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية))؛ [مسلم حديث: 2059].


وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرْمَلُوا في الغزو أو قلَّ طعامُ عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسَّوِيَّة، فهم مني وأنا منهم))؛ [البخاري حديث 2486، مسلم حديث 2500].

إن المسلمين الأوائل قد طبَّقوا شرائع الإسلام، فتغلَّبوا بفضل الله على ما قابلهم من أزمات، وحلَّ الرخاء محل الجَدْبِ، وأصبح كل مسلم آمنًا على نفسه ومأكله، ومسكنه وأولاده، وأمواله التي وضعها في التجارة؛ ثقةً برزق الله، الذي كفله لجميع الخلق.


قال سبحانه: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].

وسائل التكافل في الإسلام:
إن للتكافل في الإسلام وسائلَ كثيرة، وسوف نتحدث عنها بإيجاز شديد:
أولًا: التكافل في الأسرة:
فرض الإسلام النفقاتِ في محيط الأسرة، وجعل كل قادر فيها مسؤولًا عن العاجز والفقير فيها؛ ولذا فقد كان نظام العاقِلة، وأن الوصية في حدود الثلث، وأنها لا تجوز لوارث؛ تمكينًا لرابطة الأسرة الواحدة.


ثانيًا: التكافل بين الناس جميعًا:
إن التكافل في الإسلام متحقِّق بالنسبة للناس جميعًا، وذلك من خلال وسائلَ عديدة، يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1 – الزكاة المفروضة:
إن الزكاة هي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام، وهي الحق المعروف في أموال الأغنياء، وتعتبر الزكاة وقاية اجتماعية وضمانة للعاجز الذي يبذل جهده، ثم لا يجد ما يسد حاجته الضرورية من المسكن والمأكل والملبس، وما شابه ذلك.

إن للزكاة من الفوائد والمنافع ما به عمارةُ الكون ونظام الهيئة الاجتماعية؛ وذلك لأن الله لم يخلق الناس متساوين لحِكَمٍ جليلة، فجعل منهم الغنيَّ والفقير، وجعل لهذا الفقير حقًّا معلومًا في مال الغني يأخذه منه كل عام، فيسُدُّ به حاجته الضرورية، ويعم الأمن بين الناس، فالغني يتمتع بماله آمنًا، والفقير يُكفَى المؤونة والحاجة، فيكفي الناس شروره، فإن كثيرًا من أنواع الشر، كالسرقة والنصب والغش والخداع ينشأ من اضطرار الفقراء، وضيق يدهم، فإذا دفع الأغنياء زكاةَ أموالهم، كان ذلك سببًا في دفع الشرور، وتثبيتًا لدعائم الأمن في المجتمع المسلم، وفي إخراج الزكاة أيضًا إيجادُ رُوحِ الاتحاد بين المسلمين؛ لأن الله أراد أن يجمع العالم الإسلامي، ويربط قلوب المسلمين بعضهم ببعض بحيث يصبح الجميع كعائلة واحدة، ويكون الأغنياء منهم بمثابة آباء ورؤوسٍ لتلك العائلة، فيُحسنون على فقرائهم، ويوسِّعون على من ضاقت به الحياة منهم، ويحمونهم من ذلِّ السؤال، والزكاة بهذا المعنى تعتبر ركنًا من أركان المدنية، وفضيلة من أكمل الفضائل الإنسانية، التي تدعو إلى الارتباط والاتحاد والتعاون، ولو أخرج جميع أغنياء المسلمين زكاة أموالهم، ما وجدنا فقيرًا يئِنُّ من ألم الفقر، ولا جائعًا يشكو من الجوع، ولَقَامَ الفقراء بخدمة الأغنياء بصدق وإخلاص؛ [التأمين في الشريعة والقانون للدكتور كنعان محمد عليان، ص: 181، ص: 186].


وقد حدَّد الله ثمانية أصناف من الناس تُصرَف لهم زكاة الأموال.


قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].


الصدقات الاختيارية:
لقد حثَّنا الإسلام على الصدقات من أجل سدِّ حاجة الفقراء والمساكين، وتدعيمًا لأواصر الأخوة بين المسلمين، وتحقيقًا للتكافل بينهم في داخل المجتمع الواحد.


قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274].

وقال سبحانه: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

وقد اعتبر القرآن الكريم الصدقةَ قرضًا لله مضمونَ الوفاء.


قال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].

وقال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39].

الصدقات الواجبة:
ومن صور التكافل في الإسلام أن الشريعة الإسلامية قد أمرت بأنواع من الصدقات الواجبة، التي يجب على المسلم الذي تنطبق عليه شروط إخراجها؛ ومن هذه الصدقات الواجبة: صدقة الفطر والكفارات، وهي عقوبات قدَّرها الشرع الشريف عند ارتكاب أمر فيه مخالفةٌ لأوامر الله تعالى؛ ومن ذلك:
1- كفارة القتل الخطأ.

2- كفارة اليمين المنعقدة.

3- كفارة الظِّهار.

4- كفارة الأذى للمُحْرِم بالعمرة أو الحج.

5- كفارة من جامع زوجته قبل التحلُل.

6- كفارة من أفسد صومه بالجماع في نهار رمضان عمدًا.

7- كفارة من انصرف من عرفةَ قبل غروب الشمس.

8- كفارة من لم يبِتْ بمزدلفة.

9- كفارة المُحصَر إذا لم يشترط.

10- كفارة من ترك الميقات من غير إحرام.

11- كفارة صيد البَرِّ للمحرم.

12- كفارة لُبس المخيط.

13- كفارة قطع شجر الحرم ونباته الأخضر إلا الإذخر.

14- كفارة العاجز دائمًا عن صوم رمضان.

15- كفارة العجز عن الوفاء بالنذر.


ومن الصدقات الواجبة أيضًا: الهدْيُ بالنسبة للقارن والمتمتع بالحج والعمرة، ومنها أيضًا: النذور، وهناك صدقات واجبة غير ذلك، والهدف من هذا كله هو طاعة الله تعالى، والتوسعة على الفقراء والمحتاجين.


إن تعاليم الشريعة الإسلامية تهدف إلى تحقيق التكافل بين الأفراد في جميع نواحي الحياة.


والفرد في المجتمع المسلم جزء من كلٍّ، الفرد مسؤول عن الجماعة، والجماعة مسؤولة عنه.


فهل بعد هذه الكفالات والضمانات الموجودة في الشريعة الإسلامية الغراء، نحتاج إلى البحث عن ضمانات أخرى أو قوانينَ بشرية تنظم لنا أمور حياتنا، وتؤمن لنا مستقبل حياتنا؟! [التأمين في الشريعة والقانون للدكتور كنعان محمد عليان، ص: 186، ص: 190].


فتاوى العلماء في المعاشات والتأمينات الاجتماعية:
سوف نذكر بعض فتاوى العلماء في حكم المعاشات والتأمينات الاجتماعية:
1- فتوى مجمع البحوث الإسلامية:
1- قرر علماء المسلمين في مؤتمرهم الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1385 هـ، والخاص بالتأمين ما يلي:
أ‌- التأمينات التي تقوم به جمعيات تعاونية، يشترك فيها جميع المستأمنين، لتؤدي لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات وخدمات - أمر مشروع، وهو من التعاون على البر.


ب‌- نظام المعاشات الحكومي، وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتَّبَع في بعض الدول، ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى، كل هذا من الأعمال الجائزة.


2- فتوى المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية:
قرَّر علماء المسلمين في مؤتمرهم الثالث لمجمع البحوث الإسلامية ما يلي:
التأمين التعاوني والاجتماعي، وما يندرج تحتهما من التأمين الصحي ضد العجز والبطالة والشيخوخة، وإصابة العمل، وما إليها – جائز؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للدكتور علي السالوس، ص: 379].

3- فتوى مجمع البحوث الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي:
قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي بالإجماع، في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة:
جواز التأمين التعاوني بدلًا من التأمين التجاري المحرَّم؛ للأدلة الآتية:
1- أن التأمين التعاوني من عقود التبرع، التي يُقْصَد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية، تُخصَّص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحًا من أموال غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم، والتعاون على تحمل الضرر.


2- خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه: ربا الفضل، وربا النَّساء، فليست عقود المساهمين ربوية، ولا يستغلون ما جُمع من الأقساط في معاملات ربوية.


3- أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع؛ لأنهم متبرعون، فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة، بخلاف التأمين التجاري، فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.


4- قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جُمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أُنشئ هذا التعاون، سواء كان القيام بذلك تبرعًا أو مقابلَ أجر معين؛ [التأمين لسعدي أبو جيب، ص: 83، ص: 84، موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للسالوس، ص: 392، ص: 393].

فتاوى العلماء في التأمين التجاري:
سوف نذكر بعض فتاوى أهل العلم في التأمين التجاري:
1- فتوى ابن عابدين في التأمين:
سئل الفقيه الحنفي ابن عابدين (وُلد عام 1198 هـ/ 1784 م، ومات عام 1252 هـ / 1836 م) عما جرت به العادة من أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربيٍّ، يدفعون له أجرته ويدفعون أيضًا مالًا معلومًا لرجل حربي مقيم في بلاده، يُسمَّى ذلك المال: سَوْكَرَةً (تأمين)، على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان، يقبض من التجار مال السوكرة، وإذا هلك من مالهم في البحر شيء، يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تمامًا.

فأجاب رحمه الله:
الذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذُ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لا يلزم، فإن قلت: إن المودِع إذا أخذ أجرةً على الوديعة يضمنها إذا هلكت، قلت: ليست مسألتنا من هذا القبيل؛ لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة، بل في يد صاحب المركب، وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيرًا مشتركًا قد أخذ أجرةً على الحفظ وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه؛ كالموت والغرق ونحو ذلك؛ [رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج: 3، ص: 249، ص: 250].


وهكذا ذهب ابن عابدين إلى أن التأمين غير مشروع.


2- فتوى دار الإفتاء المصرية:
1- التأمين على الحياة غير جائز شرعًا، ومن ثَمَّ فلا تعتبر قيمة التأمين تركة تقسم بين الورثة.


2- ما دفعه الميت في حياته لشركة التأمين، يُستَرَدُّ منها بدون زيادة، ويعتبر تركة تقسم بين الورثة حسب الفريضة الشرعية.


3- التأمين ضد الحريق غير جائز شرعًا؛ لِما فيه من غَبْنٍ وضرر؛ [فتاوى دار الإفتاء المصرية، ج: 4، رقم 667، ص: 1401، ج: 10، رقم 1278، ص: 3445، ص: 3449].


4- ضمان الأموال في الشريعة الإسلامية، إما يكون بطريق الكفالة، أو بطريق التعدي، أو الإتلاف، وليس عقد التأمين شيئًا من ذلك؛ [فتاوى دار الإفتاء المصرية، ج: 4، رقم 667، ص: 1401، ص: 1402].


5- عقد التأمين ليس عقدَ مضاربة؛ لأن عقد المضاربة يلزم فيه أن يكون المال من جانب صاحب المال، والعمل من جانب المضارِب، والربح على ما شرطا، وأما أصحاب شركة التأمين، فإنهم يأخذون المبالغ التي يأخذونها في نظير ما عساه أن يلحق الملك المؤمَّن عليه من أضرار، لأنفسهم، ويعملون في تلك المبالغ لأنفسهم، لأصحاب الأموال؛ [فتاوى دار الإفتاء المصرية، ج: 4، رقم 667، ص: 1401، ص: 1403].

3- فتاوى اللجنة الدائمة:
التأمين على السيارات حرام، وكذا التأمين على الحياة وعلى الأعضاء، وعلى البضاعة، وسائر أنواع التأمين التجاري؛ لِما في ذلك من الغرر والمقامرة وأكل الأموال بالباطل؛ [فتاوى اللجنة الدائمة، ج: 13، فتوى رقم 4910، ص: 156، ص: 157].


4- فتوى ابن عثيمين:
سُئل ابن عثيمين عن حكم التأمين على الممتلكات.


فأجاب رحمه الله:
التأمين معناه أن الشخص يدفع إلى الشركة شيئًا معلومًا شهريًّا أو سنويًّا، من أجل ضمان الشركة للحادث الذي يكون على الشيء المؤمَّن، ومن المعلوم أن الدافع للتأمين غارم بكل حال، أما الشركة فقد تكون غانمة، وقد تكون غارمة، بمعنى أن الحادث إذا كان كبيرًا أكثر مما دفعه المؤمن، صارت الشركة غارمة، وإذا كان صغيرًا أقل مما دفعه المؤمن، أو لم يكن حادث أصلًا، صارت الشركة غانمة، والمؤمن غارم، وهذا النوع من العقود – أعني: العقدَ الذي يكون الإنسان فيه دائرًا بين الغُنْمِ والغُرْمِ – يعتبر من المَيْسِرِ الذي حرمه الله تعالى عز وجل في كتابه، وقرنه بالخمر وعبادة الأصنام.


وعلى هذا؛ فهذا النوع من التأمين محرم، ولا أعلم شيئًا عن التأمين المبنيِّ على الغرر يكون جائزًا، بل كله حرام؛ لحديث أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر))؛ [مسلم حديث: 1513]؛ [فتاوى علماء البلد الحرام، ص: 418].


5- فتوى ابن جبرين:
سُئل فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين عن حكم التأمين على السيارات.


فأجاب فضيلته:
التأمين في نظري نوع من الضرر؛ حيث إن الشركة قد تأخذ من بعض المؤمِّنين أموالًا كل سنة، ولا تعمل معهم شيئًا، ولا يحتاجون إليها في إصلاح ولا غيره، وقد تأخذ من البعض الآخر مالًا قليلًا، وتخسر عليه الشيء الكثير، وهناك قسم من أصحاب السيارات قليلٌ إيمانهم وخوفهم من الله تعالى، فمتى أمَّن أحدهم على سياراته، فإنه لا يبالي بما حصل، فيتعرض للأخطار ويتهور في سيره، فيسبب حوادثَ، ويقتل أنفسًا مؤمنة، ويُتْلِف أموالًا محترمة، ولا يهمه ذلك؛ حيث عَرَفَ أن الشركة سوف تتحمل عنه ما ينتج من آثار ذلك، فأنا أقول: إن هذا التأمين لا يجوز بحال لهذه الأسباب وغيرها، سواء على السيارات أو الأنفس أو الأموال أو غيرها؛ [فتاوى علماء البلد الحرام، ص: 405].

6- فتوى المؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي:
في عام 1396 هـ/ 1976 م عُقد المؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة، اشترك فيه أكثر من مائتي عالم، وأستاذ في الشريعة والاقتصاد، كان عقد التأمين من الموضوعات التي بحثوها، وانتهوا إلى ما يلي:
يرى المؤتمر أن التأمين التجاري الذي تمارسه شركات التأمين التجارية في هذا العصر لا يحقق الصيغة الشرعية للتعاون والتضامن؛ لأنه لم تتوافر فيه الشروط الشرعية التي تقتضي حِلَّه.


ويقترح المؤتمر تأليفَ لجنة من ذوي الاختصاص من علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد المسلمين؛ لاقتراح صيغة خالية من الربا والغرر، يحقق التعاون المنشود بالطرق الشرعية بدلًا من التأمين التجاري؛ [فقه البيع والاستيثاق للدكتور علي السالوس، ص: 1433].

7- فتوى مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي:
إن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي، نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة، وبعدما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعد الدراسة الوافية وتداوُلِ الرأي في ذلك، قرر بالإجماع، عدا فضيلة الشيخ/ مصطفى الزرقا: تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه، سواء أكان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك؛ للأدلة الآتية:
الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش؛ لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطًا أو قسطين ثم تقع الكارثة، فيستحق ما التزم به المؤمِّن (شركة التأمين)، وقد لا تقع الكارثة أصلًا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا، كذلك المؤمِّن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي، ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده؛ وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلمالنهي عن بيع الغرر.

الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة؛ لِما فيه من المخاطرة في المعاوضات المالية، ومن الغُرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغُنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين ثم يقع الحادث، فيغرم المؤمِّن (شركة التأمين) كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر، ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة، كان قمارًا، ودخل في عموم النهي عن الميسر؛ في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91].

الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنَّساء، فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد، أكثر مما دفعه من النقود لها، فهو ربا فضل، والمؤمِّن (شركة التأمين) يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نَساء، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثلما دفعه لها يكون ربا نساء فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع.


الرابع: عقد التأمين التجاري من الرِّهان المحرم؛ لأن كلًّا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يُبِحْ الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام، وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلمرخصته للرهان بعِوضٍ في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم:((لا سبق إلا خف أو حافر أو نصل))، وليس التأمين من ذلك ولا شبيهًا به؛ فكان حرامًا.


الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذُ مالِ الغير بلا مقابل، وأخذٌ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرَّم؛ لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29].


السادس: في عقد التأمين التجاري إلزام بما لا يلزم شرعًا، فإن المؤمِّن (شركة التأمين) لم يحدث الخطر منه، ولم يتسبب في حدوثه، إنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه، مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، والمؤمِّن (شركة التأمين) لم يبذل عملًا للمستأمن فكان حرامًا؛ [التأمين بين الحظر والإباحة لسعدي أبو جيب، ص: 77، ص: 79، موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للدكتور علي السالوس، ص: 388، ص: 390].


8- فتوى مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي:
إن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظم المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10: 16 ربيع الثاني 1405 هـ/ 22: 28 ديسمبر 1985 م، بعد أن تابع العروض المقدَّمة من العلماء المشاركين في الدورة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين، وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة، وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه، والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي تهدف إليها، وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن قرر:
1- أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت، الذي يتعامل به شركات التأمين التجاري، عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد؛ ولذا فهو حرام شرعًا.


2- أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.


3- دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات للتأمين التعاوني، وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين؛ حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال، ومن مخالفة النظام الذي لا يرضاه الله لهذه الأمة، والله أعلم؛ [موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة للدكتور علي السالوس، ص: 395].

وختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢