أرشيف المقالات

رد على مقال:

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 الرحلات العربية للأستاذ محمد محمود رضوان قرأت المقال الممتع الذي كتبه الأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن بالعدد 410 من الرسالة وأتى فيه على تاريخ الرحلات العربية.
ولعل الأستاذ يفسح لنا صدره فنأخذ عليه بعض مآخذ لا تغض من مقاله القيم. حاول الأستاذ أن يستقصي في مقاله جميع أنواع الرحلات التي نعرفها للعرب فوُفق حيث ذكر الرحلات الاضطرارية كرحلة القحطانيين، والتجارية كرحلة الشتاء والصيف لقريش، والدينية كهجرة المسلمين إلى الحبشة والى المدينة، والسياسية كرحلات المسلمين إلى المدن المفتوحة، ورحلات الاستجداء كرحلة جرير وأبي نواس، وأخيراً (الرحلات لذاتها ولم تبدأ إلا في القرن الرابع الهجري) كرحلة المسعودي والبيروني والقدسي وابن جبير والمغربي وياقوت الخ. وعجبي للأستاذ محمد عبد الغني أن ينسى ضرباً من الرحلات هو في نظري أهم ضروبها، وأجدرها بالدراسة لأنه أجملها أثراً وأجلها خطراً في العلم والأدب، وأعني به (الرحلة في طلب العلم). وأعجب من هذا أن ينسى الأستاذ الكاتب نفسه وهو قد رحل في طلب العلم.
وليته قرأ ابن خلدون يقول: (إن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم). ولقد عرف العرب لرحلات العلم قيمتها فكانوا ينتقلون في مشارق الأرض ومغاربها للقاء الشيوخ، ويرحلون إلى البادية لتَضْرَى مقاولهم بالفصاحة، ويتحملون في سبيل العلم من بعد الشقة وقلة الزاد ووحشة الطريق ورهق السفر ما الله به عليم. ذكر ابن خلكان أن الخطيب أبا زكريا التبريزي شارح ديوان الحماسة، والقصائد العشر (421 - 502) وقعتْ له نسخةٌ من كتاب التهذيب للأزهري في عدة مجلدات يُعوزُ بعض مسائلها شيء من التحرير، فسأل عمن يقوم بذلك فدلوه على أبي العلاء.

فماذا يصنع الرجل والشقة بعيدة وهو فقير لا يملك أجرة دابة تحمله؟ لقد وضع الكتاب في حقيبةٍ وحملها على ظهره وسافر من تبريز إلى المعرة مشياً على قدميه حتى بلغها وقد قطع نحو سبعمائة ميل ثم أخرج الكتاب فوجد العرق قد نفذ إليه فأفسد منه ما أفسد. والأندلس العربية، لقد كانت كعبة القاصدين من أهل المشرق كما كان نجمة الرائدين من أهلها طالبين للعلم، والعلامة المقري صاحب كتاب (نفح الطيب) يسهب في كتابه إسهاباً، ويُطنب إطناباً، حين يتعرض لذكر الذين رحلوا من الأندلس إلى المشرق يطلبون العلم وينافسون فيه المشارقة. وكتب التراجم كوفيات الأعيان ومعجم الأدباء وطبقات الأطباء وتاريخ الحكماء تؤرخ لألوف من العرب رحلوا يطلبون العلم (ولو في الصين)، لا يعوقَّهم الإملاق عن شهود محافِلِه، ولا تحلِّئهم المشاق عن ورود مناهله. ولقد كتبتُ فصلاً مسهباً عن (رحلات العرب في طلب العلم) من فصول كتاب أشتغلُ جاداً بوضعه عن (المسلمون والتربية) عسى أن يكون الفراغ منه قريباً. وللأستاذ شرف الدين خطاب المفتش بوزارة المعارف فصل موجز في هذا الموضوع في كتابه (التربية في العصور الوسطى) الذي يدرس في دار العلوم، فراجعه إن شئت. نعود لناحية أخرى نعتقد أن الأستاذ عبد الغني تجنى فيها على شعراء العربية، وذلك حيث قال عنهم: (ولكن واحداً منهم لم يفكر في تدوين رحلة أو تسجيل مشاهدة)، وحيث قال: (وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب إلا أنها لم تكن منتجة بالنسبة للرحلات والاسفار، فهي عقيمٌ كل العقم من هذه الناحية). فلقد عرفنا لكثير من شعراء العربية الرحالين شعراً رائعاً يصفون فيه رحلاتهم ليس هذا موضع الإفاضة فيه، ولكني أمثل بالبحتري وقصيدته في وصف إيوان كسرى التي ضمنها وصف رحلته ومشاهداته، وأمثِّل بأبي الطيب المتنبي الذي تقلب ما بين دمشق وحلب ولبنان وفارس ومصر وشهد غزوات سيف الدولة فضمَّن شعره الكثير مما شاهده، فوصف بحيرة طبرية وشعب بوان وحِمص وتُفاح لبنان، ووصف نساء الروم في وقعة نهر (أَرْسَناس)، وليس في إغفاله وصف آثار مصر ونيلها دليل على قصوره أو تقصيره فإن لذلك أسباباً لا نتعرض لها في هذه العُجلة، بل لقد كان لرحلته إلى مصر آثار كثيرة في شعره.

أقلها أنه هجا المصريين. وابن هانئ الذي قال عنه الأستاذ (يخرج من الأندلس إلى شمال أفريقية فيمدح الخليفة المعز ويرحل معه إلى مصر ويصف هذه الرحلة في بعض شعره) لقد ظلمه وتجنى عليه، فالرجل لم يرحل مع المعز إلى مصر ولكنه رحل من الأندلس إلى عدوة المغرب فلقى جوهرا القائد، ثم علم به المعز فقربه وأجرى عليه العطايا؛ ثم رحل المعز إلى مصر فشيعه ابن هانئ ورجع إلى المغرب لأخذ عياله، ثم مات قبل أن يلحق بالمعز.
ولما بلغه خبر موته أسف وقال: (كنا نريد أن نفاخر به شعراء الشرق فبل يقدر لنا ذلك). ومع هذا فقد كان لرحلة ابن هانئ إلى المغرب أثرها في شعره، وقد وصف أسطول المعز وصفاً رائعاً بقصيدته المشهورة: أما والجواري المنشآت التي سَرَتْ ...
لقد ظاهرتْها عدةٌ وعديدُ وبعد ففي مقال الأستاذ محمد عبد الغني بعض هنات في التعبير واللغة نرى لزاماً علينا أن نشير إليها، ولاسيما أنه من المولعين بتعقب أمثالها. فهو أولاً، يقول عن الرحالين من قريش إلى اليمن والشام: (وسنسميهم رحالين تجاوزاً)، مع أن الله تعالى يقول: (رحلة الشتاء والصيف) فهل سماهم القرآن رحالين تجاوزاً؟ وهو ثانياً يروي بيت الأعشى هكذا: وشاهدنا الجُلّ والياسمين والمسمعات بأقصابها وأظن الرواية الصحيحة للبيت (بقصابها) لا (بأقصابها)، وقد جاء في الأساس: (ونفخ في القصابة: في المزمار، ورأيت القُصاب ينفخون في القُصاب: أي الزمارين ينفخون في المزامير، جمع قاصب الخ).
أما الأقصاب فهي الأمعاء. وقد روي البيت كما ذكرت العالم التونسي الجليل الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام المالكي في تونس، في بحثه النفيس (المترادف في اللغة العربية) المنشور بالجزء الرابع من مجلة المجمع اللغوي. وهو ثالثاً.

استعمل في مقاله (ساهم) بمعنى (شارك) أو (كان له نصيب)، والمساهمة هي المقارعة من (القرعة) كما في قوله تعالى في قصة يونس (فساهم فكان من المدحضين) وكان يصيب لو قال: (أسهم) أو (سَهّم). وقد نبه على هذا الخطأ أستاذنا الجليل العوامري بك.
ولا حجة للدكتور زكي مبارك في رده لأنه يستشهد بكلام المتأخرين، ويرضى بأن يخطئ مع الشريف الرضي. وهو رابعاً يقول: (ويعد كتابه الثاني أوفى مرجع عن بلاد الهند، وأملأ كتب الأسفار تعريفاً بها). والشذوذ كل الشذوذ في (أملأ)، لأن أفعل التفضيل - كفعل التعجب - لا يصاغ من الخماسي (امتلأ) على وزن أفعل.
ولا يُقال إنه مصوغ من مَلأ، لأنه كان عليه حينئذ أن يقول: (ويُعَد المؤلف أملأ المؤلفين لكتابه تعريفاً بالأسفار) لا أن يسند الملء للكتاب. نعم، إن الأشموني في شرحه على الألفية وابن هشام في أوضح المسالك ذكرا من الشذوذ قولهم: (ما أملأه للقربة) مصوغاً من امتلأ؛ وهذا وهمٌ منهما لأنه لا شذوذ حينئذ في العبارة، إذ هو مصوغ من ملأ.

والمعنى جيد. وقد اعتذر لهما الصبان بأن الشذوذ يكون حين يقال: (ما أملأ القربة)، كعبارة الأستاذ عبد الغني فهل يقوم هذا اعتذاراً له؟ وهو خامساً يقول: (وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب، إلا أنها لم تكن منتجة.

الخ)
. وأنا لا أعلق على هذه العبارة إلا بأن أتحدى الأستاذ بأن يُعربها ويبين لنا جواب إذاً ويخرِّج هذا الاستثناء. ومني إليه التحية. (حدائق القبة) محمد محمود رضوان المدرس بالمدرسة النموذجية

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣