أرشيف المقالات

يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 الشرقيين للأستاذ عباس محمود العقاد جرت في هذا المعنى وضده مناظرة في كلية الآداب بين الأستاذ العقاد وفريق آخر من جهة، وبين الأستاذ الرافعي وفريق آخر من جهة أُخرى.
وقد نشرنا في العدد الماضي رأى الأستاذ الرافعي، وفي هذا العدد ننشر رأى الأستاذ العقاد. حضرات الإخوان والأبناء كان من نصيبي في مناظرة هذه الليلة أن أؤيد الرأي القائل بأن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية عند الشرقيين. وقيل أن أدخل في تفصيلات هذا الرأي أسال سؤالاً لا أنتظر عليه جواباً لأن جوابه معروف.
وهذا السؤال هو: هل يستطيع أحد أن يقول بأن الشرق خلا من العقول الناضجة في العصور القديمة؟ هل خلا الشرق من الحياة العقلية الناضجة يوم أن كان التراث الشرقي هو التراث الذي لا تراث غيره؟ فإذا كنا لا نرى أحداً يستطيع أن يزعم ذلك فقد حكمنا بأن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية، لأننا إذا أنكرنا هذه الحقيقة وجب أن نقول إن الشرق خلا من العقول الناضجة قديماً وحديثاً؛ وهذا ما لم يقل به أحد من الشرقيين ولا من الغربيين.
وأحسب أن مناظري الفاضلين أول من يشتد في نفي هذا الزعم لو جرى به لسان في هذا المكان أو في غير هذا المكان. وبعد فمن الواجب أولاً أن نعرف ما هو التراث الشرقي؟ ثم نعرف ما هو النضج العقلي؟ ثم نصل إلى النتيجة التي تؤدي إليها معرفتنا بهذا وذاك على وجه الدقة كما يقول الأدباء مقترحو المناظرة.
فإذا تكلمنا عن التراث الشرقي أو التراث الغربي خرجت من حسابنا العلوم الطب التجريبية أو العلوم التي اصطلحنا على تسميتها بالعلوم الحديثة؛ لأن الحقيقة من حقائق الحرارة أو الضوء أو قوانين الحركة أو خصائص الأجسام - هي حقيقة ثابتة في جميع الجهات الأصلية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بلا اختلاف.
أو هي حقيقة إنسانية عالمية تتقرر في لندن كما تتقرر في القاهرة وبغداد، ولا يكشفها الإنسان حين يكشفها باعتباره شرقياً أو غربياً، أو باعتباره مولوداً في الشمال أو الجنوب، ولكنه يخترعها باعتباره إنساناً مدركاً لما حوله حيث كان.
وإذا اتفق أن كثيراً من هذه الحقائق العالمية قد كشفها أناس من الغرب فليس معنى ذلك أنها خاصة بالغرب وأهله؛ إذ هي تتمة للحقائق الطبيعية التي سبقتها منذ بداية عهد الإنسان بالمعرفة، فهي جزء من التراث الإنساني لا مراء. ويخلص لنا من ذلك أن التراث الشرقي هو التراث الذي عليه صبغة الشرق وينتمي إليه ولا يمكن أن ينتمي إلى غيره، وإن التراث الغربي هو التراث الذي عليه صبغة الغرب وينتمي إليه ولا يمكن كذلك أن ينتمي إلى غيره.
أما العلوم الطبيعية فليست عليها صبغة شرقية ولا غربية، ولا مانع من أن يكون الإنسان شرقي التراث وإن يكون ملماً بالعلوم الطبيعية في وقت واحد.
وعلى هذا كيف يتطرق إلينا الشك في أن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية عند ذويه؟ بل إذا كان التراث الشرقي وحده قد أخرج عقولاً ناضجة في جميع العصور، فكيف لا يخرج هذه العقول إذا جاز أن يقترب بالعلم الطبيعي وما إليه من تراث الإنسان؟ شيء آخر يجب أن يخرج من حسابنا إذا تكلمنا عن تراث الشرقيين وتراث الغربيين، ونعني هنا المعارف الرياضية من هندسة وحساب وما هو من قبيل هندسة والحساب، فإن الحقيقة الرياضية لا تتغير بتغير الزمان والمكان ولا بتغير الأمم والأفراد.
وليس من شأنها أن تصطبغ بالصبغة الشخصية أو بالصبغة القومية حيث كانت، بل هي لا تتوقف على المشاهدات والمحسوسات بمقدار ما تتوقف على قوانين العقل المجرد المعزول عن خصائص الأوطان والأزمان.

وأين هي الحقيقة الرياضية التي يصح على أي وجه من الوجوه أن تسمى حقيقة يونانية أو مصرية أو صينية؟ وأين هي الرياضة الشرقية أو الرياضة الغربية؟ إذا قيل أن هذا قانون رياضي فقد قيل هذا قانون إنساني يمسكه الشرقيون والغربيون على السواء، وامتنع أن يتعارض هذا وما يسمى تراثاً للشرقيين أو للغربيين. ومما تقدم يتبين لنا أن التراث الشرقي يجتمع مع العلم الطبيعي والعلم الرياضي في بيئة واحدة.
ونعود فنقول مرة أُخرى: إن أحداً لم ينكر أن العقول نضجت في الشرق على تراثه دون غيره، فكيف ينكر أحد أنها قابلة للنضج إذا جاز أن تضم إليه العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية؟ ونصل بعد هذا إلى النضج العقلي لنقول في التعريف به كلمة وجيزة تؤكد معنى ما قدمناه. فالعقل الناضج كجميع الملكات الناضجة والحواس الصحيحة إنما يتم له النضج بالمرانة والمزاولة أيا كان الشيء الذي تقع فيه المرانة والمزاولة. فحاسة البصر مثلاً تستوفي حظها من القوة بالنظر إلى الأشجار كما تستوفي حظها من القوة بالنظر إلى الصخور. وعضلات الجسم تقوى بحمل النحاس كما تقوى بحمل الحديد أو الفضة أو الذهب أو الجواهر الكريمة. والعقل يستوفي نضجه بأن يعمل ويفكر ويبحث فيما يراه ويحيط به، أيا كانت المسائل التي يتناولها بتفكيره وبحثه. فالمهم في تصحيح الملكات والقوى العقلية أو الجسدية إنما هو في العمل والمرانة، لا في الموضوعات والمواد التي يتناولها عمل العامل ومرانة المتمرن؛ إذ هي في المنزلة الثانية من الأهمية.
وقد يقوى النظر في الصحراء وهي خاوية أشد من قوته في المدن وهي آهلة حافلة، ما دام النظر في الصحراء عاملاً لا يكف عن الرؤية والانتباه. ومؤدى ذلك أن المهم في إنضاج العقل الشرقي أن يعمل ولا يكف عن العمل، سواء كان موضوعه تراث الشرقيين أو تراث الغربيين. فإذا عمل فهو ناضج، وإذا وجد مادة التفكير فهو مفكر، وإذا امتلأ بالإدراك فهو مدرك: أيا كان موضوع تفكيره وإدراكه والمثل المحسوس هنا أحق بالتقرير من الآراء العامة والأحكام المطلقة، فلنضرب الأمثلة بالأسماء المعروفة ولا نقصر القول على رأي مقنع أو حكم مسلم البرهان. فما القول في هارون الرشيد؟ وما القول في ابن خلدون؟ وما القول في جمال الدين الأفغاني؛ وما القول فيمن سبقهم أو لحق بهم من (الناضجين) الأفذاذ؟ أكان هارون الرشيد حاكماً ناضج العقل أو لم يكن كذلك؟ وابن خلدون - ألم يكن مفكراً تاريخياً للتفكير يقل نظيره في السابقين واللاحقين؟ وهكذا يقال في جمال الدين الأفغاني وكل دراسته شرقية، وكل ما استفاده من قليل الثقافة الإفرنجية لم يؤثر في تكوين عقله ولا في طبيعة التراث الشرقي الذي نشأ عليه.
فهم جميعاً أنضج عقلاً من التلميذ الحديث الذي يعلم من العلوم العصرية ما لم يكونوا يعلمون. هؤلاء ناضجون لا مراء، وكانت لهم ومن حولهم حياة عقلية ناضجة لا مراء، وكان التراث الشرقي هو التراث الذي عولوا عليه بغير التباس ولا مناقضة، إذا جاز الالتباس أو جازت المناقضة في شؤون الرجال النوابغ الذين يعيشون معنا الآن. والواقع - أيها الإخوان والأبناء الأعزاء - أن الشرقيين لا يمكن أن تنضج لهم حياة عقلية في غير تراثهم الذي ينتمي إليهم ويصطبغ بصبغتهم. فغير ممكن كما أسلفنا أن نجعل العلم الطبيعي تراثاً شرقياً أو غربياً بأية صفة من الصفات؛ وغير ممكن كذلك أن نجعل العلم الرياضي تراثاً ينسب إلى الشرقيين أو إلى الغربيين. فلم يبق إذن إلا التراث الخاص بالشرقيين الذي لا يشاركهم في خصائصه مشارك من العالمين، وهو التراث المشتمل على ما لهم من أشعار ومواعظ وأمثال وحكايات وآداب وقواعد سلوك، وفي طليعته روح العقائد الدينية والحكمة النفسية والفكرية، وما يصاحب ذلك من فقه شريعة ودين. وقد يسأل السائل في هذا المعرض: وما الرأي في الأشعار والأمثال والحكايات التي تنقل من الغربيين، وهي تراث غربي لا نزاع فيه؟ فجوابنا على هذا السؤال أن التراث الغربي الذي ينتقل إلى الشرقيين ينقسم إلى قسمين: القسم الذي يمكن أن يمتزج بحياتهم وهو من نوع تلك الحياة فلا يلبث أن يدخل في الشرق حتى يصطبغ بصبغته ويجري على سنته، ومثله في هذه الخصلة مثل التفاحة الأمريكية التي تجري في دم آكلها من المصريين: هي تفاحة أمريكية ما في ذلك خلاف؛ لكن الدم الذي يتولد منها في عروق آكلها دم مصري وليس بالدم الأمريكي أو الذي ينمى صاحبه إلى الديار الأمريكية. وفرق بين هذه الحالة وحالة النسب الذي يخلط الدماء بالدماء ويخرج لنا سلالة لا هي إلى هنا ولا إلى هناك. والقسم الآخر من التراث الغربي الذي ينتقل إلى الشرق هو القسم الذي لا يمتزج بحياة الشرقيين ولا يدخل لهم في عقل ولا روح.
وهذا غريب عنهم وهم غريبون عنه.
وحكمهم فيه حكم المتفرج العابر الذي يمر به وكلاهما باق حيث كان: هؤلاء شرقيون وذلك تراث غربي لا يدخل في عوامل النضج العقلي أو في عوامل التكوين، سواء رجعنا فيها إلى الأفراد أو إلى الشعوب. ومعنى هذا أن الحياة العقلية إذا نضجت بين الشرقيين فهي شرقية لاحقة بالتراث الشرقي، أيا كان المصدر الذي جاءت منه أو حملت عنوانه، ولا يصح أن تنسب إلى غير الشرق إلا كما يصح أن تنسب دماؤنا إلى استراليا وأمريكا لأننا نأكل القمح الأسترالي والفاكهة الأمريكية في بعض الأوقات. وعلى أية حال ليس لنا مناص من إحدى اثنتين: إما أن نقرر أن الشرق خلا من الحياة العقلية الناضجة في جميع العصور وهو مخالف للمعقول ومخالف لإجماع الآراء؛ وإما أن نقرر أن الشرق قد عرف الحياة العقلية الناضجة ولو في عصر واحد من عصوره، وهذا في لبابه مرادف لقولنا: إن التراث الشرقي كافٍ لنضج الحياة العقلية بين الشرقيين. عباس محمود العقاد

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن