أرشيف المقالات

حديث وكلمة (2)

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
حديث وكلمة (2)
 
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه.
أمَّا بعد: فقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، من حديث تميم الداري رضِي الله عنه: ((الدِّينُ النصيحة...))؛ رواه الإمام مسلم.
فإسْداءُ النُّصْحِ للغير هو مِن أسمَى المعاني في دين الإسلام؛ إذ إنَّ المسلمين إخوانٌ في الله تعالى، وعلى هؤلاء الإخوان أن يتناصَحوا بما فيه فلاحُهم ورشدُهم، فعليهم التناصُح في أمور الدِّين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقواعد المعروفة، وعليهم التناصُح أيضًا في أمور الدنيا؛ ((لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِه))، كذا قال عليه الصلاة والسلام.
ولكنني عجِبتُ مِن حال الناس في إسْداء النصيحة وقبولها؛ فقد انقَسَم الناسُ إلى أقسام في ذاك الشأن وأكثرُهم مخطِئٌ.
أقسام الناس في إسداء النصيحة: فمنهم مَن يَنصَح بما لا يعرف وقد يَنصَح بمُنْكَر، فيأتيك وربما وضع يده على كتفك وهو يقول: إني لك من الناصحين، ويبدأ بإسداء النصح لك، وهو ما عرف أنه يدلُّ على منكَر وذنْب، وآخَرون قد يَعرفون أنه منكر ولكنهم لا يُلْقُون لذاك بالًا، فالله آخِرُ شيءٍ قد يجيء ببالهم، فترى ذاك يَنصَح أخاه بالتعرُّف على تلك الفتاة وإقامة علاقة غير شرعية معها؛ للخروج من حالة الكبت والاكتئاب التي هو فيها، وآخَر ينصح باقتراضِ قرضٍ رِبَوِيٍّ، وآخَر ينصح بالسفر إلى بلاد الكفر والرذيلة والإباحية للسياحة والتسكُّع و"تغيير الجوِّ"، وآخَر ينصح بأخذ الثأر حتى يزول العار، وذاك ينصح بحلْق اللحية للتلاؤم مع حال الناس، وتلك تنصح بلبس الكعب وإسفار الوجه والشعر ليرى الناس ذاك الجمال ولا يُحجَب عنهم، وأخرى تنصح بشدِّ الرِّحال إلى القبر الفلاني والطواف به؛ ليحصل الإنجاب ويكثر الأولاد كما زعموا، وآخر لا ينصح بالحديث مع فلان ابن فلان؛ لمجرَّد أنه لم يَقُمْ له في ذلك اليوم حين دخَل على ذلك المجلس الذي اجتمعوا فيه، أو لأنه أخطأ وتكلم عنه بسوء، وذاك ينهى عن الاستماع للشيخ العلَّامة الفلاني؛ لأنه في زعمه يُداهِن العوامَّ، وغيرها من صور التناصُح السقيمة، وما وَعَوْا حديثَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي قال فيه: ((مَن دعا إلى ضلالة، كان عليه مِن الإثم مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَه، لا ينقص ذلك مِن آثامهم شيئًا))؛ رواه مسلم، وما عَلِموا أنَّ كثيرًا منهم يُشبِه إبليس اللعينَ في ذلك حين أَقسَم لآدم وحواء عليهما السلام أنه مِن الناصحين لهما؛ قال تعالى: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 21]، وكذَب في دعواه؛ فقد كان لهما مِن المغوين.  ومنهم مَن يأتيك بالنصيحة على حدِّ سيفٍ مشهورٍ غيرِ مصفح، فيأمرك بشيء هو في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنه يأمرك به بكلِّ تعنُّتٍ وعصبيَّة، وترى نار الغضب تزفر مِن عينيه، وقد يكون الأمر لا يحتاج إلى هذا كله، وهذا قد يُضِلُّ كثيرًا مِن الناس، ويُنفِّرهم من الدين، ويجعلهم يسبُّون الملَّة التي يتبعها ذاك الناصح الغاضب الغيور كما يزعم، فضلاً عن أنهم لا يمتثِلون لنُصْحه.
ومنهم مَن لا يُسدِيها أبدًا، خصوصًا في أمور الدين، وقد يدعو إلى المنكرات ويُدلِّل عليها، وهو إنْ رأى ناصحًا إلى الله تعالى منَعَه مِن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فإن رآه مقْبِلًا على نُصْحِ غيره أوقَفَه وقال له: أنتَ لن تُغيِّر الكون، دع الناس وشأنهم، "كبِّر دماغك"، "وأنت مالك ومال الناس؟!"، لا شأن لنا بهم، أنتَ في حالك وهم في حالهم، وهؤلاء شأنهم في هذا كالكفار الذين يصدُّون عن سبيل الله تعالى، وكبني إسرائيل الذين قال الله فيهم: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 79].
أقسام الناس في تلقِّي النصيحة: ولقد عجبتُ لفئةٍ من الناس، وما أكثرَهم! يرون أنك إنْ نصحتهم وكأنك سَبَبْتَهم وشَتَمْتَ آباءهم وأجدادهم الأوَّلين، فتراهم لا يَقبَلون النصيحة أبدًا، عثا فيهم الكِبْرُ والغُرور، واستفحَل في قلوبهم مِن حيث لا يدرون؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((الكِبْرُ بَطَر الحقِّ وغَمْطُ الناس))؛ رواه مسلم، و((بَطَر الحقِّ))؛ أي: عدم قبول النصيحة، و((غَمْطُ الناس)): ازدراؤهم وانتقاصُهم، وهؤلاء ما أشبَهَهُم بالمراهق التائه الذي يرى كلَّ كلمة وُجِّهت له مِن أبيه أو أمه أو عمه أو أخيه الأكبر أو معلمه أو شيخ المسجد - انتقاصًا له وحطًّا مِن قدره، وانتقادًا لاذعًا حارقًا لِلُبِّه الذي امتلأ حنَقًا على هؤلاء العُقَّال الذين لا يَفهمونه كما يزعم! فإنك إنْ نصحتَهم بخيرٍ ولين لم يَسمعوا لك، وقد يُؤخذون كبرًا وأنَفَة ولا يَرجعون إلى الحق، وإنْ عرفوا في قرارة أنفسهم أنك مُحِقٌّ فيما أسديتَه وقُلْتَه، وقد ترى بعضَهم يَروح يمينًا ويسارًا، ويُراوِغ مراوغة الحيَّة ليتهرَّب مِن خطئه، ويبدأ في توجيه الأعذار البالية التي لا تمسَح الذنْب، ولا تستُر العيب، وقد يَهجُرك ويُعلنها مفارقةً لا عَوْدَ فيها.
ولا أدري ما فيها إنْ قال بكل شجاعة: نعم، أنا أخطأتُ، وجزاك الله خيرًا على نصحك إياي؟! بدلًا مِن التعنُّت والمكابرة والغضب، واتِّهامِ الناصح بالنقد والغموض وبأشياء ليست فيه، فكِبارُ الصحابة والسلف الصالح والأئمَّة الأعلام، وهم مَن هم كان أحدُهم إذا نُصِح في شيء، ورأى أنه قد أخطأ رجع إلى الحق، ودعا للناصح بخير، وما أعظمَ الكلمةَ المأثورة عن خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عمر بن الخطاب رضِي الله عنه حين قال: "رحِم اللهُ امرأً أهدَى إليَّ عُيُوبي"، وفي هذا فائدة للمنصوح؛ فهو يَعلم خطأه ويصحِّحه ويجمِّل حاله ولا يُعاود الكَرَّة، حتى ولو كان في كلام الناصح ما يشقُّ على نفسه، فقد قال الشاعر:

لَعَلَّ  عَتْبَكَ  مَحْمُودٌ   عَوَاقِبُهُ        فَرُبَّمَا صَحَّتِ الأّجْسَامُ بِالعِلَلِ

أمَّا إنْ خَفِيَ عليه غلَطُه فسيظلُّ ملازِمًا له عامِلًا به، وقد يراه جميلًا وهو أقبح القبائح، وما دريَ هؤلاء الناس أن هذا الفعل منهم هو مِن سمات الكفار والمنافقين، الذين إذا دُعُوا إلى خيرٍ أخذتْهم العزة بالإثم والكبر والغرور، وصُدُّوا عن السبيل؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 206]، وقال جل وعز: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 61]، وقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، وقال جل شأنه: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 35]، وقال تَقَدَّسَتْ أسماؤه: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المنافقون: 5].
ومنهم مَن لا تُجدِي معه النصيحة كما في القسم الأول تمامًا، فهو لا يَقْبَلها، ولكنه هنا يستمع لك ولا يجادل، تنصحه ويستمع، وتنصحه ويستمع، وتراه لا يعمل بالنصيحة أبدًا، يا سبحان الله! فهذا النوع إنما استمَع لك وهو يقول في قرارة نفسه: لِيَقُلْ ما يُريد، وأنا أفعل ما أريد، لا أريد مشاحَنَةً ولا جدالًا معه، وقد يرى نفسه عالمًا ويراك جاهلًا ويسخر منك، ومنهم مَن قد يستمع إليك فعلًا ويعزم على الأخذ بالنصيحة، ولكن نفسه الأمَّارة بالسوء تَحُول بينه وبين ذلك، وقد تدعوه إلى السخرية ممَّا عزم عليه آنفًا، فهو ضعيف النفس أمام الشهوات والشبهات، ما أن يرى محرِّكًا لشهواته ودافعًا لمعصية الله حتى يَنسَى ما قيل له قُبَيل ذلك مِن النصائح والمواعظ التي قد تتصدَّع لسماعها رؤوسُ الجبال الشامخات، ومثل هذا لا ينبغي لامرئ مسلم عاقل أبدًا؛ ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ﴾ [المؤمنون: 106].
سبيل المؤمنين الناصحين: أمَّا سبيل المؤمنين المتَّقين الناصحين الذين يحبُّون الخيرَ للناس، فهو سبيلُ خيرِ البشريةِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسبيل أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فهم ينصحون غيرهم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا كله في إطار القواعد المعروفة التي سَنَّها الشارعُ، فلا يأمرون بمعروفٍ إلا إذا كان فعلًا معروفًا، ولا ينهون عن منكرٍ إلا إذا كان فعلًا منكرًا عندهم فيه من الله برهان، ويفعلون ذلك بحكمة ورويَّة، فيضعون اللِّينَ في موضعه، والشدَّةَ في موضعها، والتناصُحَ سرًّا في موضعه، والتحذيرَ علنًا في موضعه، ولا يقولون إلا حُسنَى، وإن أرادوا النصيحة قصدوا أهل النصيحة فعلًا ممَّن هم ذوو حكمة ورأي وعِلم وحبٍّ للخير، لا يذهبون إلى جهَلَة القوم أو لِئامِهم يطلبون منهم النصح، وإن أُسدِي إليهم النصْح، ووُجِّه إليهم الكلام يستمعوه بكلِّ آذانٍ صاغيَة، وألباب واعيَة، فإنْ كان حقًّا قبِلوه وأخذوا به ووقفوا عند حدود الله تعالى لا يتَّعدونها أبدًا، وإنْ كان غير ذلك ردُّوه بحكمةٍ ورويَّة، فنفوسهم لا تَعْرِف الكِبْر أبدًا، وقلوبهم يتعاهدونها دائمًا لِتنقِيتِها من شوائب الكبائر الباطنية وعلائق الدنيا الدنية، وهذا هو سبيل الصالحين، وأسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢