أرشيف المقالات

أخوك أم الذئب. . .؟

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ محمود محمد شاكر أجل!! هذا هو العالم المغرور الذي ظن خير الظن بمدنيته، وأثنى عليها ثناء الأم على عذرائها، ونفض عليها من تحاسين الخيال فنوناً كذُنابَي الطاووس، وأدار عليها مجامر الندِّ والمندل والعود من عطر الشهوات واللذات، وأحاطها بالعبقرية العلمية التي توجد في كل شيء شيئاً جديداً يدخل على العقل إبليساً صغيراً ليُضل عن سبيل الحق، ويضع في الثمرة حلاوة تلذ ونشوة تسكر، ثم زاد فأعطى المادة المتبدلة الفانية تدليساً يجعلها في فتنة الرأي ثابتة خالدة ثم غلا فجعل النفس تطلق أهواءها جميعاً لتحرز من لذات الحياة كفايتها، إن كان لأهواء النفس كفاية هذا العالم المغرور يقف اليوم في فئتين التقتا للقتال في سبيل الأهواء الغالبة والشهوات المستحكمة.
وفي هذا القتال تنكشف لمن أبصر حقيقة هذه المدنية، وحقيقة أغراضها التي عملت لها وعمدت إليها، وحقيقة الروح التي يتعامل بها الاجتماع الإنساني الذي تعيش به هذه المدنية الأوربية التي تنكر من الحياة وتعرف وتدعي لنفسها إسقاط ما أنكرت وإقرار ما عرفت وفي كل يوم تتجدد أحداث الحرب، فتتجدد معها أساليب الغرائز الوحشية المصبوغة رحمتها بأصباغ الافتراس، وفي كل يوم يخلع الوحش عن مخالبه ذلك المخمل الناعم الذي دسها فيه، ويهجم بطبائعه على فريسته ليعين بذلك أنه هو الوحش: قانونه المنفعة، وشرفه المنفعة، وصداقته المنفعة، وأدبه المنفعة، ودينه المنفعة.
فهو لا ينفك من منفعته في مثل السعار إذا أخذ الوحش فاستكلب فهاج فطغى، لا يهدأ حتى يطفئ هذا السعارَ ما يشفيه أو يرده أو يقدعه، وهو لا يرعى في ذلك حرمة، ولا يكفه شرف: وكان كذئب السوء لما رأى دماً ...
بصاحبه يوماً أحال على الدم وقبيح بنا - نحن الشرقيين - أن نغمض أعيننا عن النظر إلى هذه المدنية التي أخذت تنهار تحت قصف المدافع وهد القنابل وزلازل الحرب، وأن ننام عن مستقبل أيامنا، وألا ننفض هذه المدنية نفضاً لنأخذ منها وندع، ولنعرف سوء ما تركت أنيابها في جسم أوطاننا، ونتبين حقيقة النفوس المسمومة التي أصبحت في الشرق فاشية تعمل على إدماجه في حضارة غريبة عنه، لا يطيقها إلا على نكد ولا يحتملها إلا عنتاً وإرهاقاً وغروراً إن رؤوساً من الناس في هذا الشرق قد طالت بهم أيامهم حين أقبلت عليهم الدنيا، فأخذوا على الرأي العام منافذه كلها، وصرفوه ما شاءوا بما شاءوا كما شاءوا، لم يغلب عليهم إلا ذلك الداء الوبيل الذي قبسوه من مدنية الغرب، داء المنفعة.
طلبوا المنافع لأنفسهم، فاستبدوا في غير ورع، وتجبروا في غير تقوى، وعملوا على أن يكون سلطانهم في الأرض كسلطان الله في السماء: يمحو ما يشاء ويثبت، علوّاً في الأرض واستكباراً، قاتلهم الله أنى يؤفكون؟ إن الشرق لا يؤتي ولا يغلب إلا من قبل أهله.
هذه هي القاعدة الأولى في السياسة الاستعمارية الماضية، فعملت هذه السياسة على أن تنشر في الشرق عقولاً قد انسلخت من شرقيتها وانقلبت خلقاً آخر، وقلوباً انبتت من علائقها ولصقت بعلائق أخر، وبهذه العقول المرتدة والقلوب المرتكسة استطاع الاستعمار أن يمد للشرق طريقاً محفوفاً بالكذب والضلال والفسوق، يختدعه عن الصراط السوي الذي يفضي به إلى ينبوع القوة الذي يتطهر به من شرور الماضي وأباطيل الحاضر، فيمتلك من سلطان روحه ما يستطيع به أن يهدم الأسداد التي ضربت عليه، ويجتاز الخنادق التي خسفت حوله لقد لقينا بهؤلاء العنت حين استحكم لهم أمر الناس فتسلطوا عليهم بالرأي وأسبابه، فخلعوا بسوء آرائهم على الشرق ليلاً من الاختلاف لا يبصر فيه ذو عينين إلا سواداً يختفي إذ يستبين.
وكانوا له قادة فاعتسفوا به كل مضلة مهلكة تسل من قلب المؤمن إيمانه، وتزيد ذا الريبة موجاً على موجه.
فما كتب الله أن يدفع مكر هؤلاء بقوم جِردوا أنفسهم للحق، رأوا أن يلبسوا للناس لباساً من النفاق يترقون به إلى التلبيس عليهم بما حذقوا من المداورة، وما دربوا عليه من فتن الرأي، وما أحسنوا من حيلة المحتال بالقول الذي يفضي من لينه إلى قرارة القلوب، حتى إذا استوى فيها لفها لف الإعصار، واحتوشها من أرجائها، ثم انتفض فيها انتفاض الضرمة على هبة الريح في هشيم يابس. وقد أقبلت اليوم على الشرق أيام تتظاهر فيها الأقدار على أن تسلم إليه قيادة مدنيته الجديدة بعد طول الابتلاء وجفاء الحرمان، وجاءت مع هذه الأيام فتنٌ يُخشى أن تضرب أولّه بآخره حتى لا يقومُ شيءٌ هو قائمٌ، ولا يبقى من أعلام الماضي إلا آثار التاريخ التي تقف شواهد على ما مضى وآيات لما يستقبل.
فإذا كان ذلك، فإن الحكمة والحزم والجِد أن نميز الخبيث من الطيب، وأن نختار لأنفسنا قبل البدء، وأن يلي منا أمر القيادة من هو حق صاحبها والقائم عليها والمحسن لتصريفها وتدبيرها وسياستها، وإلا انفلتت من أيدينا حبال الجمهور المتحفز، فانتشر على وجوهه وتفرق، وكأن ما كان لم يكن، وكأن الفرصة قد عرضت لنا لتدع في قلوبنا بعد ذلك حسرة لا تزال تلذع بالذكرى. إن أكثر هؤلاء الذين وصفنا قد وجدناهم يمدون أعناقهم يتطاولون مرة أخرى للوقوف في مقدمة الطلائع الشرقية، ورأوا - من أجل ذلك - أن يماسحوا الرأي العام على بعض أهوائه وعلى طائفة من أغراضه، ليستمر لهم ذلك المكان الذي حازوه من قبل، وليكونوا في الشرق الجديد ما كانوا في أيامه السالفة.
فهم يبدون له ما لا يعتقدون عليه نياتهم، ويحدثونه حديث من طب لمن حب، وهم كانوا قبلُ أعانوا عليه، إذ أفسدوا صالح أعماله بالآثم من أعمالهم وآرائهم، وهم كانوا عليه حرباً، إذ نزعوا من يديه سلاح القتال في سبيل حريته واستقلاله وانفراده بخصائصه التي ورثها وخص بها، وعمل الجيل بعد الجيل في تنقيتها له تنقية المدَرة من بين الحَب ليس اليوم أوان يترك الشرق عنانه في الأيدي التي لعبت به وغررت، ولا هو يوم التهاون في القليل لأنه قليل، ولا هو يوم إحسان الظن بمن يحتال للظفر بحسن الظن، ولكنه اليوم الذي يتفلت فيه من كل ضلالة وعبث، ومن كل مرتفق للنفع متشرف للمصلحة، ومن كل سبب من أسباب التدمير.
فإذا فعل ذلك، وأعطى كل ذي حق حقه، وامتاز المجرمون، وخلص له المخلصون واستعان بحرية اختياره على إقرار الناس في مواضعهم وعلى مراتبهم، فيومئذ يجد القدرة على انتزاع حريته من أنياب الغاصبين، ويصيب مهاد الطريق إلى الغاية التي ينظر إليها بآماله وأشواقه نظرة العامل لا نظرة الحالم المتخيل وأخوف ما نخافه هو ما أوتي هؤلاء من الرفق واللين وحسن المجاملة، وأنهم قد أحكموا معرفة الأسباب التي بها يأخذون بأيدي الناس وعقولهم، وأنهم قد أوتوا نصيباً من الصيت يتغلب بهم على ما يعترضهم أو يردهم، وأن الناس أسرع اتباعاً لما ألفوا وحنيناً إليه، وأن البلبلة التي تأتي مع الحروب وتمتد في أذيالها، تدع الناس حيرى غرقى يتلمسون في كل شيء شيئاً يتعلقون به، فإذا لم نأخذ من الآن في جد من الأمر، ولم نصرف جهودنا إلى اختيار الأصلح في كل شيء شيئاً يتعلقون به، فإذا لم نأخذ من الآن في جد من الأمر، ولم نصرف جهودنا إلى اختيار الأصلح في كل شيء، فما بد من أن تنجلي العمايات بعد عن الدنيا لتطبق علينا عماية مصفقة كالظلام المصمت.
ويومئذ نرتد على أعقابنا حسرى عناة كأسوأ ما مر بنا من زمن، وتضيع الفرصة السانحة ونحن غرقى في بحر طام قد نزح عنا شاطئه بعد الدنو فعلينا الآن أن نثق بأنفسنا غاية الثقة، لأن الثقة بالنفس هي جيش الحرية، وأن نشك كل الشك في أصحاب الرأي ومن يتعرضون للإمارة عليه، لأن الشك في هؤلاء هو حارس الحرية، وأن نشتد في مطاردة الضلال والعبث، لأن هذه الشدة هي سلاح الحق وسلاح الحرية.
فإذا غلب علينا التهاون في شيء من ذلك، فإنها ثغرة تتدفق منها على الشرق مرة أخرى ضلالات وفتن كقطع الليل المظلم، ويعجز أهله عن حمل أعباء الحضارة الجديدة التي اختارهم الله مرة أخرى للعمل عليها والقيام بها.
فما بد من أن ينفض الشرقي بعينيه ورأيه كل بارقة وكل غمام، مخافة أن تنزل الصواعق عليه من حيث ظن الغيث ليس في الشرق قوّى تضارع تلك القوى الهائلة التي صبت من الحديد والنار وأسرار الكون، وليس فيه ذلك الغنى غنى الاستبداد والجبروت والسياسة، وليس فيه ذلك الجمهور العظيم من العقل العامل لإيجاد القوة في كل شيء لاستخلاص المنافع من كل شيء، ولكن هذا الشرق لا يزال يحتفظ بأعظم قوة تخضع كل هذه الأشياء لسلطانها الذي ينال النصر ما تعاون ولم يتفرق.
وتلك هي قوة الروح، وقوة الخلق، وقوة الاستمرار إلى النهاية مصابرة لا ذلاَّ، وإيماناً لا عناداً، وتسليماً لا غفلة.
فعلينا أن نعرف فضائلنا التي توارثناها، وأن ننفي عنها ما خالطها من خبث الجهالات القديمة التي تراكمت عليه فقعدت به أزماناً طوالاً، حتى استرخى نائماً والناس يقظى إن الشرق إذا خلص من شر النفايات الطافية على سطحه، وإذا وثق بسلطان الروح السامية التي لا تذل، وإذا نهج النهج لا يتهيب، فما بدٌّ من أن يحوز من القوة ما يضارع قوة المدنية الأوربية المتهالكة، وأن يجعل في هذه القوة من النظام الروحي النبيل ما يرد كل غائلة ويمنعها كل عدوان، ويرفع الإنسانية درجات في طريقها إلى السماء.
وهذه أيَّامٌ فيها عِبَرٌ كثيرةٌ لمن يعتبر، فإن حقائق المدنية الأوربية تستعلن كلها في هذه الرجة العظيمة التي ترجف بالعالم ساعة بعد ساعة ولكن علينا أن نثق، وعلينا أن نشك، فإذا رفعت الثقة أسباب الشك، فإن الخير كله آت على طول الجهاد وترك التهاون وعلى استجادة العمل ومرابطة النفس عليه، وعلى الأناة دون العجلة، فإن الفرس الصغير يكبر على التعهد حتى يؤتى الثمرة، ومن استعان بأسباب الحق أُعين، ولا يهلك الناس إلا من هيبة أو تهور محمود محمد شاكر

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن