أرشيف المقالات

بين الإفلاس والثراء الحقيقيين

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
بين الإفلاس والثراء الحقيقيين
 
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فإن عملية تصحيحِ المفاهيم، وإصلاح التصورات على ضوء منهاج النبوة، لَهي من الأهمية بمكان؛ إذ بها - بعد فضل الله ورحمته - يستقيمُ السلوك البشري للمسلم، وتمضي حركتُه الدفَّاقة في الحياة وفقَ مسارِها الصحيح المرسوم لها من لدن حكيم خبير.
 
وعليه؛ فقد كشف النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم وللأمة من بعدهم - الغطاءَ عن مفهوم جديد للإفلاس، لم يكن معهودًا من قبلُ في حياتهم، ولم يكن يَخْطُرُ في بالهم، ولم تحدِّثْهم به نفوسُهم، بحيث يمكن بحق أن نطلق عليه بلا مواربة: (الإفلاس الحقيقي)، وهو ذلكم الإفلاس الذي يجري بعيدًا عن دائرة الدرهم والدينار ومتاع الدنيا الفاني الزائل الحقير، المتوارد في أذهان البشر، الطاغي في حياتهم المادية التي فيها اللهثُ وراءَه ومن أجله؛ وإنما هو على الحقيقة واقع في مجال (الحسنات والسيئات) الذي به تكون قيمة الإنسان عند الله، ووزنه في الآخرة، ومن خلاله يكون الفصلُ بين الخلائق يوم القيامة، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده برقم (16042) بإسناد حسن، من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبدالله، يقول: بلغني حديثٌ عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا، ثم شددْتُ عليه رَحْلي، فسرتُ إليه شهرًا، حتى قَدِمْتُ عليه الشامَ، فإذا عبدالله بن أُنيسٍ، فقلت للبوَّابِ: قل له: جابرٌ على الباب، فقال: ابنُ عبدالله؟ قلت: نعم، فخرج يَطَأُ ثوبَه فاعتنقني، واعتنقتُه، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القِصاصِ، فخشيتُ أن تموتَ، أو أموت قبل أن أسمعَه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُحْشَرُ الناس يوم القيامة - أو قال: العباد - عراةً غرلاً بُهْمًا))، قال: قلنا: وما بُهْمًا؟ قال: ((ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديَّان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حقٌّ، حتى أقُصَّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حقٌّ، حتى أقُصَّه منه، حتى اللطمةُ))، قال: قلنا: كيف، وإنا إنما نأتي اللهَ عز وجل عراة غرلاً بُهْمًا؟ قال: ((بالحسنات والسيئات)).

ألا وإن (الإفلاس الحقيقي) كامنٌ في تضييع تلك الحسنات التي لطالما جهد العبد في عملها والقيام بها، وعدم الحفاظ عليها من عاديات الذنوب المتعلقة بحقوق البشر.
 
وها هو ذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - وفداه أبي وأمي - يعبِّرُ عن هذه الحقيقة الرهيبة في أوضح صورها، وأنصع أشكالها، فكأنما هي بيضاءُ نقيَّة لا غبشَ فيها ولا غموض؛ إذ يقول: ((أتدرون ما المفلس؟))، قالوا: المفلس فينا من لا درهمَ له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنِيَتْ حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار))؛ أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2581).
 
ومن دقيق فقه الإمام البخاري - رحمه الله - وعظيم نظره، أنه علَّق بعض طرف هذا الحديث في: (صحيحه) (8/ 35) بلفظٍ أبان فيه المعنى الحقيقي للإفلاس؛ حيث قال - رحمه الله -: (إنما المفلسُ الذي يفلس يوم القيامة).
 
وفي بيان هذه الحقيقة الشرعية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في (جامع المسائل) (4/ 218) - بتصرف -:
"فهو صلى الله عليه وسلم بيَّنَ لهم أن المفلسَ الحقيقيَّ هو من أفلس في الآخرة، وبيَّن لهم أن النفع الحقيقي والمصيبة الحقيقية التي ينبغي للعاقل أن يعدَّها منفعةً ومصيبةً - هو حال من نظر في عواقب الأمور ونهاياتها، لا في أوائلها وبداياتها، والله أعلم".
 
فالثراء الحقيقي إذا أُخِذَ بمفهوم هذا الحديث: أن يحافظ الواحد منا على حسناته، وأن يصونها عن الضياع، فلا تذهب هدرًا بالتقحُّمِ في دائرة المحرَّمات الثلاث: الدماء، والأموال، والأعراض، وهذا عينُ ما أوصى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه في حجة الوداع في خطبه الثلاث المشهودة:
في يوم عرفة بنمرة؛ ففي حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم: حتى أتى عرفةَ، فوجد القبَّةَ قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغتِ الشمسُ أمَرَ بالقَصْواءِ، فرحلتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطَبَ الناسَ وقال: ((إن دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا...
)
)
؛ أخرجه مسلم في صحيحه برقم (1218).
 
وفي يوم النحر، فعن أبي بَكْرةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الزمان قد استدار كهيئتِه يومَ خلق الله السموات والأرض: السنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ: ثلاثٌ متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّم، ورجب مضر، الذي بين جُمادى وشعبان))، ثم قال: ((أي شهر هذا؟))، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت، حتى ظننا أنه سيُسمِّيه بغير اسمه، قال: ((أليس ذا الحجة؟))، قلنا: نعم، قال: ((أي بلد هذا؟))، قلنا: اللهُ ورسوله أعلم، قال: فسكت، حتى ظننا أنه سيُسمِّيه بغير اسمِه، قال: ((أليس ذا البلدةَ؟))، قلنا: نعم، قال: ((أيُّ يوم هذا؟))، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أليس يوم النحر؟))، قلنا: بلى، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا...
)
)
؛ أخرجه ابن حبان في (صحيحه) برقم 5943، وإسناده صحيح كما في (التعليقات الحسان) للإمام الألباني رحمه الله.
 
وعن سليمان بن عمرو بن الأَحْوَصِ، قال: حدثنا أبي، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ ثم قال: ((أيُّ يوم أَحْرَمُ، أيُّ يوم أَحْرَمُ، أيُّ يومٍ أَحْرَمُ؟))، قال: فقال الناس: يوم الحج الأكبر يا رسول الله، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا))؛ أخرجه الترمذي في (سننه) برقم (3087)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وإسناده حسن؛ كما في: (إرواء الغليل) (7/ 96/ ح2030) للإمام الألباني.
 
وفي وسط أيام التشريق، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده برقم (23489) بإسناد صحيح عن أبي نضرة، قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، فقال: ((...
أي يوم هذا؟)
)
، قالوا: يومٌ حرام، ثم قال: ((أي شهر هذا؟))، قالوا: شهرٌ حرام، قال: ثم قال: ((أي بلد هذا؟))، قالوا: بلدٌ حرام، قال: ((فإن الله قد حرَّم بينكم دماءَكم وأموالكم - قال: ولا أدري قال: أو أعراضكم، أم لا - كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، أبلَّغْتُ؟))، قالوا: بلَّغَ رسولُ الله، قال: ((لِيُبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ)).
 
هذا، وأسأل الله العليَّ الأعلى أن يوفِّقَ الجميع لحفظ حسناتهم، وعدم تضييعها والتفريط فيها.
 
وصلِّ اللهم وسلِّمْ على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١