أرشيف المقالات

الأمنيات بين الحلال والحرام

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2الأمنيات بين الحلال والحرام   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الأمين والرحمة المهداة؛ أما بعد: فإن الأمنيات امتداد لحاجات الإنسان ورغباته، والأمنيات في أصلها مباحة، ولكن هناك أمنيات محرمة، كما أن هناك أمنيات مباحةً، ولكن طريقة التعبير عنها محرمة؛ وذلك لِما قد يصاحبها ويعتريها من معصية أو شرك بالله تعالى، خصوصًا إن كان التعبير عن هذه الأمنيات عند طلبها فيه تقليدٌ لغير المسلمين في طريقة التمني وصناعتها، والتعبير عنها دون مبالاة بما في ذلك من الشرك.   وهو ما سنقوم بمعالجته وتوضيحه في مقالتنا هذه، مع التركيز على بيان وتبيين آثاره الخطيرة على عقيدة المسلم الذي يقوم بمثل هذه التصرفات والتمنيات.   ونحن هنا لسنا بصدد الاعتراض على أن يتمنى الناس، وأن يكون لهم أمنيات وأهداف يسعَون إلى تحقيقها، فهذا حق مشروع لهم، وفي معظم الأحيان يعطي لحياة البعض منهم معنًى وجمالًا؛ وقد أفرد الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه كتابًا بعنوان "التمني"، ذكر فيه العديد من وجوه التمني المباحة والمستحبة، كما ذكر فيه بعضًا من صور التمني المنهي عنها، ولعل نفس القارئ الكريم تتوق لسماع أمثلة على ذلك، فنقول وبالله التوفيق: إن من صور التمني المباحة تمني الشهادة في سبيل الله، وتمني أن يكون المرء من أهل القرآن، وتمني الغنى فرارًا من الفقر، وتمني هداية الناس وحصول الخير لهم، ومن صور التمني المنهي عنها تمني الموت، وتمني لقاء العدو، وتمني زوال النعمة عن عباد الله تعالى، والأمثلة على ما سبق كثيرة لا يعلمها إلا الله، ولكل إنسان أمنياته وآماله التي يرجو تحققها وانطباقها على أرض الواقع، وذلك كله لا بأس به ما دام في دائرة الأمور المشروعة، وما دام مقترنًا بالتوكل على الله والسعي وبذل الجهد لتحقيقها، وبشرط أن يكون ذلك بوسيلة مشروعة، وبشرط ألَّا يخالطها اعتقاد باطل، "والحديث عن الأمنيات هو في الحقيقة حديث عن الحياة، حديث عن واقع وليس بخيال، فالأماني جزء من عيش العبد في دنياه وكده وكدحه"[1]، ونستأنس هنا بحديث: ((إذا تمنى أحدكم فليستكثر؛ فإنما يسأل ربه))[2]؛ [صححه ابن حبان والألباني][3].   من الآليات المعاصرة في التعبير عن الأمنيات: أولًا: زيارة نافورة "تريفي" الشهيرة في مدينة "روما"، التي يذهب إليها بعض الناس لإلقاء بعض القطع النقدية المعدنية فيها حتى تتحقق أمنياتهم، فهم يعتقدون أنه "إذا أعطى شخص ما ظهره للنافورة، ثم قام برمي قطعة نقدية في النافورة، مستخدمًا ذراعه اليمنى فوق اليسرى - فإن أمنيته ستتحقق، وأنه سيحظى بزيارة أخرى إلى روما إذا نجح في استعادة القطعة من داخل المياه الجارية"[4].   إن الكثير من الشبهات العقدية تلتصق بزيارة هذه النافورة والتمني عندها؛ وذلك من وجوه كثيرة: أولها: شبهة الاعتقاد بوجود مكان تتحقق عنده الأمنيات مما لم يرد في الشرع نص فيه، وهذا الفعل - حتى ولو لم يقصد صاحبه ذلك - إنما هو مشتمل على نوع من التعظيم للمكان، وشد الرحال إليه، والنية هنا تنصرف إلى الفعل بمجرد الشروع فيه، والله تعالى أعلم.   وثانيها: شبهة الاعتقاد بوجوب أن يجعل المتمني (الحالم) ظهره للنافورة، ويلقي فيها القطع النقدية لكي تتحقق الأمنية، وهي كيفية وآلية مبتدعة.   وثالثًا: وهو أمر خطير كذلك، وهو أن أصل هذه البدعة أن نساءً على غير دين الإسلام كنَّ يأتين إلى هذا المكان لتمني الزواج، أو الخصوبة، أو النقاء، وما إلى ذلك مما يتمنين حصوله، فزيارة هذه النافورة بهذا القصد (تحقيق الأمنيات) إنما هو متابعة لأولئك في معتقدهن الباطل، وهذا الأمر فيه من الخطورة على الاعتقاد ما فيه؛ وذلك لما ينطوي عليه من اعتقاد حصول النفع (كتحقيق الأمنية) في أشياء أو أماكن أو أفعال لم يجعلها الخالق تعالى كذلك، هذا إضافة لما فيه من التفاؤل ونسبة الخير - إن حصل والأمنية إن تحققت - لهذه النافورة.   ثانيًا: أمنيات على أظهر المصابيح والمراكب الورقية: ويقصد بها تمني حدوث أمر محبب إلى النفس تمنيًا مقترنًا بوضع قنديل أو شمعة محمولة على ظهر مركب ورقي صغير، ودفعها على ظهر وسطح ماء نهر أو بركة أو بحيرة، وهذه بدعة يابانية خالصة، وأصلها مستنسخ عن مهرجان "بون" أو "أوبون" الياباني، الذي يعني بالعربية "احتفال القناديل".   "حيث يتجمع أفراد العائلة، ويقومون بزيارة مكان ولادتهم، كما يزورون المقابر لتنظيفها وتزيينها؛ وذلك لاعتقادهم أن أرواح الأموات تعود لزيارة مزاراتها في بيوتها..."[5].   "ويقوم المحتفلون بإلقاء الشموع والمصابيح في النهر في آخر ليالي المهرجان؛ اعتقادًا منهم أن ذلك يعيد أرواح الأسلاف إلى الموت ثانيةً، كما يعتقد أنه خلال المهرجان تحضر أرواح الأموات لزيارة أحبتها، ثم تعود الأرواح إلى الموت في اليوم الأخير"[6].   وخطورة احتفال المسلم أو مشاركته فرحة، أو مواساته عزاء أناس، وتمني الخير، أو البركة، أو الرحمة، أو ذهاب الحزن بهذه الطريقة - ينطوي على الكثير من المحظورات والمخاطر العقدية؛ والتي منها على سبيل المثال: إن أصل إطلاق الأمنيات بهذه الطريقة أو في هذه المناسبة قائمٌ على الاعتقاد بأن أرواح الموتى تعود لزيارة مزاراتها في بيوتها، وهذا اعتقاد باطل ومحرم في دين الإسلام، وهو لا دليل عليه، ونحن مأمورون بالوقوف على نصوص الشرع فيما أخبرنا عنه في المسائل الغيبية، التي منها حياة البرزخ، بل إن هذا الاعتقاد الباطل يصادم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[7]، كما يصادم هذا الاعتقاد الباطل ويناقض قول الله تعالى على لسان بعض أهل النار حين موتهم: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100].   ثم إن هذا الاعتقاد وارد من عند البوذيين أصحاب الدين الوضعي، فكيف يقوم بعض المسلمين بإطلاق أمنيات تحمل في طياتها هذا الاعتقاد؟ حتى ولو كان ذلك عن حسن نية، فسوء العمل لا يبرره حسن النية أبدًا.   ثم إن هذا العمل يتضمن اعتقادًا مفاده أن أرواح الموتى بعد أن تحضر لزيارة أحبتها، فإنها وبعد قيام المحتفلين وأصحاب الأمنيات بإلقاء المصابيح والشموع في النهر - أي: على ظهر النهر بالمراكب الورقية الصغيرة - تعود - أي: الأرواح - إلى الموت في اليوم الأخير من أيام المهرجان؛ أي: في الخامس عشر من شهر آب،   والذي يظهر لنا في ختام الحديث عن هذه الطريقة في التمني أن المسلمين الذين يقومون بها لا يعلمون ما تنطوي عليه من اعتقادات باطلة؛ ومن ثَمَّ وجب علينا النهوض للقيام بالواجب الشرعي في تنبيههم وتحذيرهم من ذلك بطرق عديدة، لعل أدناها كتابة الدراسات والبحوث العلمية التي توضح حقيقة هذا الأمر، وتجلي لهم ما ينطوي عليه من خطر على عقيدتهم ودينهم، ولعل هذا كان من أبرز الدوافع لكتابتنا في هذا الموضوع والله تعالى وحده من وراء القصد.       [1] حديث الأمنيات، ص: 1، دراسة مختصرة منشورة بلا اسم كاتب، بتاريخ 25/ 5/ 2017، في الموقع الإلكتروني "إسلام ويب". [2] الصنعاني، م.
(2011)، التنوير شرح الجامع الصغير، ط: 1، الرياض، مكتبة السلام، ج: 1، ص: 627. [3] الألباني، م.
(1995)، سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، ط: 1، الرياض، مكتبة المعارف، ج: 1، رقم الحديث (1266)، وهو حديث صحيح. [4] انظر: الموسوعة الحرة ويكيبيديا تحت عنوان (نافورة تريفي). [5] كمال، إ.
(2017)، صور من مهرجان القناديل العيد السنوي الياباني لزيارة المقابر، مقال منشور بتاريخ 13/ 7/ 2017. [6] انظر: الموقع الرسمي للتقويم السنوي الياباني المنشور بتاريخ 4/ 7/ 2015. [7] النووي، ي.
(1996)، شرح النووي على صحيح مسلم، ط: 1، بيروت، مكتبة دار الخير، الحديث: رقم (1631) وهو حديث صحيح.      
   

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير