أرشيف المقالات

أخلاقنا كعطر الياسمين

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2أخلاقنا كعطر الياسمين   كلما رأيت موقفًا نبيلاً لأحدهم فإني أتذكر رائحة زهرة الياسمين، لا أعلم لماذا تلك الزهرة البيضاء بالتحديد؟ قد يكون شذاها الطيب، أو لونها الأبيض، هما ما جعلني أربط بين الأخلاق الطيبة، وزهرة الياسمين العطرة.   وكلما تذكرتها، رددت عبارتي المحبوبة إلى قلبي: على قدر عطر أخلاقك، ينجذب إليك الآخرون.   نعم، مثلما تجذبنا زهرة الياسمين إلى عطرها، تجذبنا أيضًا الأخلاق العطرة الطيبة.   هكذا شردت مع زهرة الياسمين؛ فعطرها لا يحتاج للبحث عنه، عطر له فَوْح خاص، يأسر عبيره القلوب، ويجذبنا لها نقاء لونها الأبيض.   لقد تركت بداخلي حقًّا انطباعًا لا ينسى، مهما ابتعدت عنها أو حتى قطفها العابرون؛ فعطرها ما زال يملأ قلبي وجسدي.   كذلك هي بعض القلوب، يفوح عطرها كعطر الياسمين، بل تجملت بأخلاقها، وفاح منها أريجها، كلما هم اللسان بالتحدث نطق عطرًا، وكلما مر بمجلس نثر ورودًا لا تذبل، وإن رحل عن دنياه تلألأت النجوم في سماء الليل المظلم، وكلما ذُكِرت سيرته تُروى قصص لا ينتهي شذاها الطيب،   فمن داوم على زراعة زهور الياسمين بعطر أخلاقه في دروب الحياة، أزهرت له حتى لو كان غائبًا، فشذا زهرة الياسمين سيخرج من لسانك، ويستنشقه من حولك، كلما تحدثت أو ابتسمت، كلما أدخلت السرور، أو كنت جابرًا للخواطر، تتحدث عنك حينها زهرة الياسمين.   كلما ساعدت محتاجًا، أو كلما مسحت دمعةً من عيني طفل يتيم، أو واسيت قلبًا متألمًا، كلما كتمت غيظًا، أو عفوت عن مسيء.   إنها الفطرة النبيلة، إنها دفتر الذكريات، الذي كلما سطرنا موقفًا نبيلًا، فاحت منه رائحة زهرة الياسمين.   وزهرة الياسمين، إن ذبلت يومًا سنفتقد عطرها الخاص، ولكن سيكون لها دومًا بداخلنا تلك الذكرى التي لا تنسى.   أما الروح والأخلاق، فإن رحلت تبقى مواقفها وذكرياتها تفوح، وتتناقلها الأجيال يومًا بعد يوم، حتى أن الدعوات تنير ظلمة قبورنا التي سنرحل إليها فتحيط بنا من كل اتجاه.   البعض يقول: هناك أشياء في النفس إن فقدت لا تستطيع زهرة الياسمين الخاصة بنا أن يفوح منها عطرها الخاص، وكأن هناك شيئًا انكسر بداخلنا، وهذا ليس بصحيح، ففروع شجرة الياسمين وإن كسرت، تأخذ وقتًا لكي تزهر من جديد.   ولكن اعلموا، أن هناك قلوبًا تفوح منها السعادة والتفاؤل والكلمة الطيبة، حتى وإن كسر بها شيء، يظل عطر الياسمين عالقًا بها.   هناك أشخاص بالفعل بداخل حياتهم ابتلاءات كثيرة، لو علمت كم البلاء الذي هم فيه؛ لتعجبت من كم السعادة التي تفوح منهم! تستنشق دائمًا منهم عطر زهرة الياسمين في كل موقف، صنعوا عالمًا من البهجة والأمل والتفاؤل في قلوبٍ كسرها العابرون، فكان إسعاد تلك القلوب هو عطر الأخلاق لديهم، حقا إنه العطر الأخلاقي، الذي يظهر حتى وأنت في أسوأ أحوالك.   فعندما تكون نقيًّا من الداخل، تظل تعطي وتعطي؛ فشذا عطرك لن يخبو مهما تكالبت عليك الأوجاع والهموم.   وهناك نفوس قد يخلو منها العطر الأخلاقي، وبدلًا من أن تجذب القلوب، نراها ينبعث منها عطر على هيئة أشواك كريهة، أو سموم قاتلة، عطر لا تحتمل الرئتان استنشاقه، ولا يحتمل الجسد أشواكه؛ فيفر منه كل قريب أو بعيد، أو عابر سبيل مر بجانبه.   إنها زهرة لها أشواك تطلق منها تلك الكلمات الكريهة، والأفعال القاسية، وعبوس الوجه، فتدمع منها العين، وتنفر منها القلوب.   إنها زهرة استبدلت أوراقها الخضراء بأشواك مدببة، ففقدت جمالها منذ زمن، وبقي صاحبه بلا عطر أخلاقي.   أوقات الغضب هي أكثر الأوقات التي تظهر عطرك الأخلاقي، أو أشواك زهرتك القاتلة.   البعض يفقد السيطرة على غضبه، وانفعالاته؛ فإذا بزهرة الياسمين تختفي في طرفة عين، وتظهر تلك الأشواك لتغرز في جسد من حولنا أسوأ الذكريات.   كم من كلمات قاسية، وأخلاق كريهة خسرنا بها قلوبًا كانت تنبض حبًّا لنا!   هناك بعض المواقف التي لا تنسى، ولا تمحوها كلمات الأسف والاعتذار، تلك المواقف كانت تحتاج إلى تضوع عطر أخلاق زهرة الياسمين بدلًا من التسبب في ذكريات سيئة نتذكر بها صاحبها.   سيدة أعطاها الله من الجمال والمال والزوج والسكن وكل شيء، ولكنها كانت سليطة اللسان، وكلما تكلمت أو تعاملت مع من حولها كانت سببًا في جرح قلب أحدهم، فلم يكن لديها عطر وأخلاق زهرة الياسمين، فلم أر يومًا أحدًا ذكرها بأي ذكرى طيبة ولا حتى بتلك البسمة العابرة،   فهم لم يروا منها إلا العبوس وأشواكًا تؤذيهم بها. مثل هؤلاء نسوا قول الله عزوجل: ﴿ وَلَو كُنتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ لَانفَضّوا مِن حَولِكَ ﴾ [آل عمران: 159].   وعن أنس قال: "خدمتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عشرَ سنينَ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، وما قال لي لشيٍء صنعتُه: لِمَ صنعتَه، ولا لشيٍء تركتُه: لِمَ تركتَه، وكان رسولُ اللهِ من أحسنِ الناسِ خُلُقًا، ولا مسستُ خَزًّا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألينَ من كفِّ رسولِ اللهِ، ولا شممتُ مِسكًا قط ولا عطرًا كان أطيبَ من عَرَقِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم" رواه البخاري ومسلم.   هل تستطيع أن تقتدي بذلك في تعاملاتك مع الناس، فيقولوا عنك: ما قال لنا أف قط؟ والله إن استطعنا أن نمر في الدنيا، ونحسن فيها، ونترك أخلاقًا تتحدث عنا بعطر ما فعلناه يومًا، حينها ستكون أخلاقنا كزهرة الياسمين.   فعلى قدر عطر أخلاقك سيفتقدك الآخرون.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣