أرشيف المقالات

أشواك القلوب

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2أشواك القلوب


القلوب كالمزارع؛ فالبعض من الناس يزرع فيها طيب الكلام والمحبة، كما تكون زهورٌ تفوحُ منها كل أنواع الشذا، أما الكثير من الناس مِن حولنا، فقلوبهم مستودعات أحقاد، كأنها صحراء جرداء لا تنبت فيها إلا أشواكٌ مسننة صلبة؛ من قساوة المجافاة والبُغض، وحتى الضغينة، وهذه الأشواك تدمي القلوب وتجرحها، وهي الكراهية، وهي حوافز عدائية ذات طاقة عظيمة للتخريب، ولا يوجد شخص خالٍ منها، وتكون الكراهية ناتجةً عن عدة أسباب؛ منها: الحقد، والحسد، والتفرقة في المعاملة بين الإخوة والأخوات، التي تولِّد النفور والمشقة في القلوب، وتؤدي إلى الشحناء بين أفراد المجتمعات الإسلامية والأسر العربية.
 
والآن نأتي إلى أول الأسباب المنمِّية لأشواك القلوب؛ وهو الحسد، الذي يعني تمنِّي زوال نعمة الآخرين، وهو من أقوى أسباب الكراهية، قال تعالى عن الحسد: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 54]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5].
 
وتدل الآية الكريمة على اقترانِ الشر بالحاسد؛ لأنه منبعٌ لشر البشر، والحسد مُهلِك للحسنات؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والحسدَ؛ فإن الحسد يأكل الحسناتِ كما تأكل النارُ الحطب)).
 
أما ثاني أسباب الكراهية، فهو الحقد، ويعني الغيظ المكظوم في نفس شخص ضد شخص آخر، ومن نواهي الحقد والحسد قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَباغَضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ))؛ رواه البخاري ومسلم.
 
وكان للحقد باعٌ طويل وسبب رئيس في أول جريمة قتلٍ حدثت على الأرض، وهو ما حدث بين قابيل وأخيه هابيل ابنَي آدم، حينما قدَّم هابيل القربان الذي تقبَّله الله ولم يتقبل من قابيل، وفي تلك الأثناء تحرك شيطانُ الغيرة والحسد والحقد في نفس قابيل تجاه أخيه هابيل، إلى أن وصل به الحال إلى الغضب والنفور منه، وحينها سوَّلت له نفسُه قتلَ أخيه، فأصبح من النادمين.
 
وهذا الحال هو أقرب ما يكون لواقع الأمة العربية، وما يحدث على الساحة من نزاعات طائفية وعرقية، دفع بالكثير من المسلمين إلى اتِّباع النفس الأمَّارة بالسوء، وتسلُّط شيطان الحقد والحسد في نفوسهم، وقتل بعضهم البعض، وإنبات أشواك القلوب في قلوبهم، وهو ما سبَّب الكثير من جرائم القتل بين الإخوة والأهل وبين الأقارب.
 
فكم مَن سوَّلت له نفسه وقتل أخاه في زماننا هذا، وفي كل بلد من بلاد المسلمين؛ لأن شعور الكراهية سيطر عليه وأعمى بصيرته، ولم يبالِ بأن الدماء شأنها عظيم، وحرمتها كبيرة، والاعتداء عليها من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، يقول تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].
 
عرَفتَ يا مَن تقتل أخاك بدم بارد ما جزاؤك مِن هذه الآية الكريمة؟! إنه جهنم، وغضب الله، ولعنته، والعذاب العظيم.
أما السبب الآخر لأشواك القلوب الكراهية، فهو الغيرة، قال عنها ابن القيم: "إن الغيرة تتضمن البغض والكراهية"؛ كما حدث بين إخوة يوسف ضده؛ لحكمته، وحبِّ أبيه له، ورؤاه التي تؤكد على سيادته وعلو شأنه فوقهم جميعًا.
 
وهذا ما حدث قديمًا في الكثير من السلالات الحاكمة في كثيرٍ من البلاد العربية والغربية؛ حيث الطمع والغيرة الحاقدة بين الأشقاء ولَّد انشقاقات وخلافات أدَّت إلى تصفية بعضهم البعض بالقتل، وإن الكراهية ولدت لهم حب الانتقام من بعضهم البعض؛ لأن مراكز الحب والكراهية في الدماغ واحدة، وأية واحدة تتغلَّب تظهر على طبع الإنسان وسلوكه.
 
ومما ذكرتُ عرَفت أن القلوب تكون أيضًا مستودعات مغلقة، لا يعرف ما يخزن فيها إلا اللهُ، وهي كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو اطَّلع الناس على ما في قلوب بعضهم البعض لَما تصافحوا إلا بالسيوف"! فالكراهية لا تُولَد بالفطرة؛ وإنما تزرع بالفكرة؛ أي بما يزرعه الأهل من أفكار؛ فأي فكرة تزرع في قلوب وعقول الأجيال الحاضرة تنبت إمَّا زهورًا، أو أشواكًا تُؤذِي القلوب وتدميها، فاختَرْ أنت ما تريد زرعه في جيلك الحاضر من أفكار ومعتقدات متنورة أو متحورة أي تحور، كابتداع المعتقدات والعقائد المغايرة للعقيدة الأصلية لكل مسلم، كلٌّ حسب مذهبه.
 
ورجل الدين الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة أي عائلة مسلمة؛ لأن بعض المسلمين استبدلوا بالقرآن الكريم والسنة النبوية - كدستورٍ ناطق وصامت تركهما الرسول صلى الله عليه وسلم فينا - رجل الدين، لا على التعيين وبدون تعميم؛ حيث اكتسابه أو اقتباسه أفكارًا ممنهجة مستوردة وخاطئة أدَّت إلى زرع بذور الحقد والكراهية والأفكار الحاقدة المسمومة، داخل قلوب الأجيال الجديدة الحاضرة، أدَّت هذه الأفكار - التي تعمل كبذورِ تفرقة وخلاف مولدة - إلى حروب طائفية أخوية بين أبناء الوطن الواحد، والتجاء بعضهم إلى قُوى خارجية رجعية مشوِّهة للدين الإسلامي.
 
والكراهية كما قال عنها مانديلا: (لا يوجد إنسان ولد يكره إنسانًا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه، الناس تعلمت الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية، إذًا بإمكاننا تعليمهم الحب، خاصة أن الحب أقرب لقلب الإنسان من الكراهية).
 
ولَمَّا كان الحافز العدائي موجودًا فينا جميعًا بدون استثناء، وأحيانًا لا نكون أنفسنا شاعرينَ بأحاسيسنا الحقيقية، فما يساعدنا أن نرى طُرق تعبير الناس عنها من غير الطرق التي ذكرتها من إلقاء الكراهية على الأقارب من الأهل والإخوة، وفي الكثير من المواقف نلقي بشعور الكراهية على الأصدقاء وبدون ذنب.
 
هنا أريد أن أذكر إلقاء الكراهية على الذات، كَأَنْ نكون معتدينَ على شخصٍ ما، ثم نشعر بعد ذلك بالذنب، فيعمد بعض الناس إلى إظهار ذلك بإذلال الذات، وعدم القيام بأي مجهود، وغالبًا ما يكون عدم الثقة بالنفس واحترام الذات طريقةً من الطرق التي يلقي بها الفرد الحافز العدائي على نفسه.
 
وهناك طرق أخرى لإلقاء الكراهية على الذات؛ مثل الإكثار من الأكل والشرب والتدخين، وهذه كلها علامات لنوع من إهمال الذات؛ أي: الطرق التي يكون فيها الإنسان مع نفسه بدون شعور، بل أحيانًا بمعرفته بأنه ظالم أو عدائي بدون داعٍ، وأقصى درجة لإلقاء الكراهية على الذات هي الانتحار؛ حيث يصبح التخريب كاملًا.
 
ولا يمكن استثناء شخصٍ ممن قلبه يحمل تلك الطاقة العظيمة للتخريب، والمقصود بها الكراهية، إلا مَن هم قلة قليلة ممن نمَوْا نموًّا جيدًا وجدانيًّا، ويستطيعون تحويل تلك الطاقة الناتجة عن غرائز العدائية إلى مخارج بنائية ابتكارية، والاصطلاح اللغوي في علم النفس الذي يُطلِق على هذه العملية الإعلاء؛ أي تحويل الطاقة العدائية والتخريبية إلى نواحي نشاط يوافق عليها المجتمع.
 
وإذا استطاع كل فردٍ أن يقوم بهذا العمل، فلن تكون هناك عبارات للكراهية في العالَم في شكل قسوة، وأنانية، ولذع، وغش، وحقد، وتفرقة، وخيانة، وفي الأشكال الأخرى التي تنم عن الكراهية.
 
وإذا كان لا بد من وجودِ الكراهية، يجب أن تأخذ اتجاهًا آخر، وهو الحب في الله والبغض في الله؛ أي حب ما يحبه الله من بشر وعمل، وكره ما يكرهه الله من بشر وعمل.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣