أرشيف المقالات

وقفات مع سورة آل عمران

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
وقفات مع سورة آل عمران
 
تتحدث السورة الكريمة عن قضيتين؛
الأولى: مجادلة النصارى - وهم أهل الكتاب الثاني - في عيسى عليه السلام، وضلالهم في التوحيد في مائة وعشرين آية (كما سبق الحديث عن اليهود - وهم أهل الكتاب الأول - في مائة وعشرين آية في سورة البقرة)؛ فقد كفروا بصفات الله تعالى المنزه عن الولد والشريك والزوجة...
فقالوا: عيسى ابن الله، وإن الله ثالث ثلاثة...
لذا كان مطلع السورة وبراعة الاستهلال فيها: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2] ثم عقب بذكر بعض الصفات العلا والخصائص الربانية؛ منها:
• ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [آل عمران: 3].
• ﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 4].
• ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: 4].
• ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5].
• ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 6].
 
وفي الآية الأخيرة بيان وتقرير أنه سبحانه هو الذي يصوِّر الجنين - في بطن أمه - كيف يشاء، وقد صور عيسى كسائر البشر في بطن أمه - من غير أب - كيف شاء؛ فهو مخلوق لله كآدم عليه السلام، كما قال في السورة نفسها: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 6] وقوله: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [آل عمران: 2]: فلا إله معه، ولا ابن له، ولا ثاني له ولا ثالث؛ فهو الأوحد الأحق أن يعبد، ولا أحقَّية لعيسى ولا لغيره أن يعبد.
 
وقد بيَّنت السورة أن خلق عيسى عليه السلام كخلق آدم: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، كما أبطلت زعمهم الباطل بأن إبراهيم عليه السلام كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وأنهم أولى الناس به وأنهم أتباعه: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 67، 68]، فما كان إبراهيم عليه السلام إلا مسلمًا موحدًا، وأن أتباعه هم المسلمون الموحدون؛ وليس المشركون المثلثون الذين نسبوا لله الولد! سبحانه وتعالى المنزه عن الولد وعن الشريك والشبيه، وأن عيسى عليه السلام لم يدع لنفسه شيئًا مما قالوه، ولم ينسب لنفسه قرابة أو بنوة لله، وإنما النسب الذي بينه وبين الله عز وجل، هو نسب العبودية لله، فعيسى عليه السلام هو عيسى ابن مريم، وعبد الله ورسوله، ولم يقل للناس: "كونوا عبادًا لي من دون الله"، ولكنه قال: "كونوا ربَّانيين"؛ أي: عبادًا ربانيين، منقادين مطيعين مسلمين لله ربِّ العالمين، فالعبودية هي الإسلام لله، والدين هو الإسلام: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].
 
أما القضية الثانية، فهي الحديث عن غزوة أحد (في ثمانين آية)، وقد كان سببها هزيمة قريش في غزوة بدر، وخوفهم من دولة الإسلام الناشئة في المدينة المنورة، وعدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب دعوته إياهم إلى توحيد الله تعالى، ونبذ عبادة الأصنام المصنوعة، والتحاكم إلى الله تعالى لا إلى قوانين الجاهلية وتصوُّراتها، وقد آذوه وآذوا أصحابه وحاصروهم حتى اضطروهم إلى الهجرة، وبعد سبعة عشر شهرًا كانت غزوة بدر التي نصر الله فيها نبيَّه وأعزَّ دينه، ثم كانت غزوة أحد؛ حيث أراد مشركو مكة الانتقام لقتلاهم في بدر، وقد كان النصر في بداية المعركة للمسلمين، غير أن الرماة خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا أماكنهم لجمع الغنائم، فهجم عليهم المشركون، وانقلب النصر إلى هزيمة، وفي هذا يقول سبحانه: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165]، ليعلمنا الله تعالى أن النصر الكامل لا يتم إلا بالإيمان الكامل، وهو الاتباع التام لأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وناقشت السورة حقيقة من حقائق الحياة، ألا وهي الموت، فقد كتب الله الموت على الخلق أجمعين، كما قدر ساعته وكيفيته ومكانه، والأرض التي سيموت فيها الإنسان، ليعلم الناس هذه الحقيقة، فلا يهابون المعارك مظنة أنهم سيلقون حتفَهم فيها، فيَجبُنون عن لقاء الأعداء، ومما ذكرته لترسيخ هذه المعاني ما يلي:
1- تأكيد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل، وأنه سيموت كما ماتوا: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ [آل عمران: 144]، وقد نزلت ساعة أن أشيع أثناء هزيمة المسلمين في أحد أن محمدًا قد مات، وقد أصيب في المعركة صلى الله عليه وسلم.
 
2- تأكيد حتمية الموت على كل نفس، وأنه بإذن الله، وأن له أجلًا لا يعلمه إلا الله: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145].
 
3- تأكيد أن الخروج ليس بالضرورة سببٌ للقتل أو الموت، أو أن ترك الخروج سبب للنجاة..
فإذا جاء الأجل لأخرج المرء إلى مصرعه؛ أي: البقعة من الأرض التي قضى الله أن يقتل أو يموت فيها! فلم الجبن؟ ﴿ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ [آل عمران: 154].
 
4- التحذير من أفعال وأقوال الكافرين والمنافقين المخذِّلين المثبطين، الداعين إلى القعود: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [آل عمران: 156]، ومثل هذا التحذير ما ردَّده المنافقون القريبون إلى الكفر البعيدون عن الإيمان: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168].
 
5- بيان أن الحياة في الشهادة؛ أي: الموت في سبيل الله؛ فالشهداء ﴿ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].
 
6- بيان أن القضية ليست في ذوق الموت ذاته؛ لكن فيما بعد الموت هل فاز أم خسر؟ هل زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، ولا شك أن ميتة الشهيد هي أفضل الكرامات؛ فقد روى الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نفس تموت لها عند الله خير؛ يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد؛ فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة))؛ برقم 1887.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣