أرشيف المقالات

جماع الفلاح

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2جماع الفلاح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى صحبه وأزواجه وأبنائه، ومَن تبعَه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فعن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر، فنزَل منزلاً، فقال لغلامه: ائتنا بالشفرة نعبثُ بها، فأنكرتُ عليه، فقال: ما تكلَّمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمُّها إلا كلمتي هذه، فلا تحفظوها عليَّ، واحفظوا مني ما أقول لكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا كنز الناس الذهب والفضَّة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهمَّ إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شُكرَ نعمتك، وأسألك حسن عبادتك[1]، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفِرُك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب))[2].
لقد جمَع هذا الحديثُ جملة طيبة يمكن لنا أن نقول: إنها من جوامع الكلم النبوية، وأخصُّ بالكلام هنا في مقالي هذا - وعلى عُجالةٍ - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهمَّ إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد)).
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهمَّ إني أسألك الثبات في الأمر)) يعني: الدوامَ على الدِّين، ولزوم الاستقامة عليه[3]، وتأتي أهمية هذا الثبات؛ لأن مَن ثبَّته الله - عزَّ وجلَّ - في أموره، عُصم عن الوقوع في الموبقات، ولم يصدر منه أمر على خلاف ما يَرضاه الله - عز وجل[4].
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((والعزيمة على الرشد)) فيعني: حسن التصرُّف في الأمر، والإقامة عليه[5]، أو عقد القلب على إمضاء الأمر[6]، فهي تشمل[7]: إرادة الفعل، وكذا الجد في طلبه.
ومِن هنا كان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهمَّ إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد)) جماعَ الفلاح كما قال بعض أهل العلم.
فائدة: والفلاح يُطلَق في العربية على معنيين[8]: الأول: الفوز بالمطلوب الأكبر، ومنه قول لبيد: فاعقِلي إن كنتِ لمَّا تَعقلي ولقد أفلَحَ مَن كانَ عقَلْ والمعنى: أي: فاز مَن رُزقَ العقل بالمطلوب الأكبر.
والثاني: البقاء والدوام السرمدي في النعيم، ومنه قول لبيد: لو أن حيًّا مُدرك الفَلاح لنالَهُ مُلاعِبُ الرِّماحِ والمعنى: مدرك البقاء.
ومنه - بهذا المعنى - قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع: لكل همٍّ مِن الهُموم سَعَهْ والمسيُ والصبحُ لا فلاحَ معَهْ أي: لا بقاء معه.
ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول هؤلاء الكلمات في صلاته؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في صلاته: ((اللهمَّ إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمةَ على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسْنَ عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم))[9].
الثبات والعزيمة جماع الفلاح: قال ابن القيم: "الدِّين مداره على أصلين: العزم والثبات، وهما الأصلان المذكوران في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهمَّ إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد))، وأصل الشكر: صحة العزيمة، وأصل الصبر: قوة الثبات، فمتى أُيِّد العبد بعزيمة وثبات فقد أُيِّد بالمعونة والتوفيق"[10].
وقال ابن القيم - أيضًا -: "وهاتان الكلمتان هما: جماع الفلاح، وما أُتي العبد إلا من تضييعهما، أو تضييع أحدهما، فما أتي أحد إلا مِن باب العجلة والطيش، واستفزاز البداءات له، أو مِن باب التهاون والتماوت، وتضييع الفرصة بعد مواتاتها، فإذا حصل الثبات أولاً، والعزيمة ثانيًا، أفلح كل الفلاح، والله ولي التوفيق"[11].
وقال أيضًا: "كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمَن لم يكن له عزيمة فهو ناقِص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص، فإذا انضمَّ الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف، وحالٍ كامل.." إلى أن قال: "ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر"[12].
وفي الختام: نسأل الله لنا ولكم الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وألا ينزع عنا ما منَّ به من الإيمان والتوحيد، بعدما تفضل علينا وأعطانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] انظر مقال لي بعنوان: حسن العبادة أو العبادة الحسنة. [2] أخرجه أحمد (4 / 123)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1 / 266)، والطبراني في الكبير (7 / 335 - 336)، والدعاء (ص: 202)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط، وصحَّحه الألباني بطرقه وشواهدِه؛ انظر: السلسلة الصحيحة (7 / ب / 695) رقم: (3228). [3] التيسير بشرح الجامع الصغير (1 / 437) للمناوي. [4] انظر: نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار (2 / 332) للشوكاني. [5] التيسير بشرح الجامع الصغير (1 / 437) للمناوي. [6] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (9 / 249) للمباركفوري. [7] نيل الأوطار (2 / 332). [8] انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4 / 40) (5 / 306 - 520) للشنقيطي. [9] أخرجه النسائي رقم: (1304)، وقال الألباني: "ظاهر إسناده الصحة، ولكن فيه علة قادحة"، تمام المنة في التعليق على فقه السنة (ص: 225). [10] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 90). [11] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1 / 142). [12] طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 136).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١