أرشيف المقالات

إظهار التفسير الصواب وتبرئة الحواريين من الشك في قدرة ربهم في قولهم: {هل يستطيع ربك....}

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2إظهار التفسير الصواب وتبرئة الحواريين
من الشك في قدرة ربهم في قولهم: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ...
[المائدة: 112]
 
قد اضطرب كثيرٌ من المفسرين في تفسير قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ...
[المائدة: 112]؛ فقالت طائفةٌ من المفسرين بأن الحواريين كلهم كفروا؛ لأنهم شكُّوا في قدرة الله، أو شكُّوا في نبوَّة عيسى، أو في كليهما، وقال بعض المفسرين بأن الحواريين كلهم قالوا ذلك الشك واعتقدوه؛ ولكنهم لم يكفروا؛ لأنهم يجهلون حكم الشرع فيما قالوه وشكُّوا فيه، وقال بعضهم: إن الذين قالوا ذلك هم بعض الحواريين وليسوا كلهم، وأفادوا بأن الخطاب عام أُرِيد به الخاص.
 
والتفسير الصواب هو ما قرَّره الصحابة؛ فإنهم قد أرجعوا المتشابه الى المحكم فقرأوا: ﴿ هل تستطيع ربك...
﴾، وهذه القراءة هي مرويةٌ عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاذ بن جبل وغيرهم[1].
 
وقالت عائشة: كان الحواريُّون لا يشكُّون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة؛ ولكن قالوا: يا عيسى، هل تستطيع ربك؟[2]؛ فتبيَّن أن في هذه الآية قراءتين: إحداهما متشابهةٌ، والأخرى محكمةٌ، فالمحكمة هي قوله تعالى: ﴿ هل تستطيع ربك...
﴾؛ أي: هل تستطيع سؤال ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء وأنت موقنٌ بأنه سيستجيب لك ويُطيعك فيفعل ذلك؟ فإن قال قائل: هذا أيضًا شكٌّ منهم في استجابة الله لنبيِّه، كان جوابنا أن هذا ليس بشكٍّ، فإن الله قد يستجيب لبعض الدعاء من الأنبياء، وقد لا يستجيب، فإن الله لم يستجب لنبيِّ الله نوح في إنجاء ولده من الغرق ولم يستجب لغيره من الأنبياء ممن أحبوا بعض أقربائهم ودعوا لهم بالهداية حتى نزل قول الله: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...
[القصص: 56] ونزل قول الله: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ...
[آل عمران: 128] فتبيَّن أن تفسير القراءة الأخرى التي هي: ﴿ هل يستطيع ربك...
﴾ هو هل يطيعك ربك فينزل علينا مائدةً؟ باعتبار أن لفظ "يستطيع" هنا هو بمعنى يطيع بدلالة القراءة الأخرى، فإن قال قائل: وهل ربنا الخالق يطيع المخلوق، كان جوابنا عليه أن إطاعة الله للمخلوق هو من باب المقابلة، ومعناه استجابة الله للمخلوق؛ ولذلك نرى بعض العرب حين يتنافر مع أبيه يقول بلهجته الدارجة: (أبي ما يطيعني)؛ أي: ما يستجيب لي، فجعل الطاعة بمعنى الاستجابة وليس مقصوده أن أباه ملزمٌ بطاعته! وهناك من قال بأن قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ ﴾ هو بمعنى: (هل يفعل)، باعتبار أن الاستطاعة سببٌ للفعل، وهذا له وجهٌ صحيحٌ موافقٌ للصواب، فهذا من الجائز في لغة العرب، وبعضهم يُسمِّيه المجاز وهو (ذكر السبب وإرادة المُسَبَّب الناتج عنه)، فإن الحواريِّين عبَّروا بالاستطاعة وأرادوا الفعل؛ لأن الفعل لا يكون إلا بعد استطاعةٍ وقدرةٍ، فيصير معنى ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ ﴾ هو (هل يفعل)، واستدلوا الذين ذهبوا إلى هذا بقول الله في الكُفَّار: ﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ﴾ [هود: 20]، قالوا: فعبَّر الله بالاستطاعة، ومراده سبحانه أنهم رفضوا الحق وردُّوه، فذكر عدم استطاعتهم للسمع، وأراد عدم قبولهم للحق، وأما استطاعتهم لمجرد السماع فهو سبحانه لم ينْفِها عنهم؛ بل هم يستطيعون السمع ويسمعون الحق، وهو حجةٌ لله عليهم؛ ولكنهم لا يقبلون الحق، فذكر السبب الذي هو عدم الاستطاعة وأراد المسبب الذي هو عدم قبولهم للحق، وأما الذين تأوَّلُوا فقالوا: إن معنى ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ ﴾ هو بمعنى (هل يقدر)، فهؤلاء جمدوا على الظاهر، فقيل لهم: هذا شكٌّ في قدرة الله! قالوا: نعم، إن ظاهر الكلام شكٌّ؛ ولكن حقيقته إنما هي طلب، وأجازوا ذلك، واستدلوا بلسان العرب، فقالوا: وهذا إنما هو مثل قول القائل للرجل الغني: هل تستطيع أن تعطيني مالًا؟ مع علمه بأنه يستطيع فهو رجلٌ غنيٌّ، فكانت هذه المقالة هي شكٌّ في ظاهرها، وهي في حقيقتها طلبٌ، فالسائل كأنه يقول للرجل الغني: (أعطني مالًا)، فقالوا: وهؤلاء الحواريُّون كانت عبارتهم في ظاهرها شكًّا، ومرادهم منها إنما هو طلب المائدة فقط، فيكون الجواب عليهم أن هذه الصورة تصحُّ في حقِّ المخلوقين لورود الاحتمال باستطاعتهم أو عدمها، فإن الرجل الغني حين تسأله شاكًّا: هل تستطيع أن تعطيني مالًا؟ فإنه قد يُجيبك بأني لا أستطيع؛ إما بخلًا منه، وإمَّا أن يكون قد أفلس، فهناك شكوك في قدرة المخلوق؛ لأنها قدرةٌ مخلوقةٌ؛ فلذلك جاز في اللغة هذا السؤال في حق المخلوق، وأمَّا ربنا فلا توجد احتمالات ولا شكوك، فهو القادر والمستطيع على كل شيء، فلا يُقال في حق الله: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾ بمعنى (هل يقدر ربك)؛ لأن هذا شكٌّ ولا يجوز؛ فثبت من كل ما سبق أن قولهم: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾ هو بمعنى (هل يفعل ذلك ربك ويطيعك فيه فيستجيب لك).



[1] تفسير الرازي.


[2] تفسير الطبري.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣