أرشيف المقالات

الأخوة الإسلامية ومقتضياتها

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2الأخوة الإسلامية ومقتضياتها
 
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
أحييكم بتحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبه، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أما بعد:
فنحمد الله تعالى الذي هدانا لهذا الدين، ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾، وجعلنا من أتباع عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا خير إلا دل الأمة عليه وسبقها إليه، ولا شر إلا حذرها منه وكان أبعدها عنه.
 
أيها المستمعون:
من القواعد الراسخة في بناء المجتمع الإسلامي التي جاء النص عليها في القرآن العظيم والسنة المطهرة والتوجيه للمخاطبين واللاحقين بمراعاة حقوقها والقيام بمقتضياتها الإخوة الدينية بين المؤمنين، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «وكونوا عباد الله إخوانًا».
 
فالأخوة الإيمانية بين المؤمنين أتت من أخوة أرسخ مودة، وأحكم عقدًا فإنها تجمع بين المسلمين وإن تباعدت أقطارهم، وتوحد مشاعرهم وإن نأت ديارهم، وهي الأخوة التي لا تنفصم عراها، ولا تقطع ثمارها الأحداث، ولا تختص بقوم دون آخرين ولا زمان دون زمان فإن صحبة الأخ في الله تدوم وفي غيره لا تدوم، وإذا كان للأخوة حقها في كل شيء، فحقها في الدين فوق كل شيء.
 
فاتقوا الله عباد الله، وراعوا حقوق إخوانكم واحفظوها فيما بينكم وصونوا حرماتهم، وابتغوا بذلك ربكم، واقتفوا آثار نبيكم صلى الله عليه وسلم.
 
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المقياس الصحيح للأخوة بين المؤمنين في قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه»؛ فصادق الإيمان هو الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وذلك من أمارات قوة الإيمان وكماله، فإذا كان يحب لنفسه الخير، فليحبه لإخوانه في الله، وليجتهد في صرف شره وشر غيره عنهم، وتلك قاعدة جامعه، ووصية نافعة في الإخوة في الله بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وأقل درجات الأخوة أن يعامل المرء أخاه بما يحب أن يعامله به.
 
ولا شك أنك تنتظر من أخيك المسلم أن يستر عورتك، وأن يحفظك في غيبتك، وأن يعينك على حاجتك، وأن يرفق بك في نصيحتك، وأن يخلص لك في مشورتك ونحو ذلك.
 
إن الإخوة في الله توجب على المتصفين بها التناصح والتناصر والتواصي بالحق والصبر والرحمة، وتمنع أحد المتآخين أن يغش أخاه أو يخدعه أو يخونه أو يخذله، أو يؤذيه في نفسه ودينه وعقله وعرضه وماله في حال حضوره أو غيبته، فلا يظلمه ولا يطمع فيه لا لنفسه ولا لغيره، فإن شر الناس من ظلم الناس للناس، ولا يسلمه لمكروه يحل به أو مصيبة تنزل بساحته، بل يقف المؤمن مع أخيه المؤمن في سائر أحواله، مؤازرًا مناصرًا يعزه إذا ذل ويكرمه إذا حل، ويشيعه إذا ولى، وينصره إذا ظلم، ويواسيه إذا أعدم، ويشكره إذا أحسن ويعذب إذا أساء، وكم في الأحاديث الصحيحة المروية عن خير البرية ما بين أنواع من حقوق تلك الأخوة، ففي الصحيحين عن موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».
وشبك بين أصابعه، وفيها عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وفيها أيضًا عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله».
 
وفيها أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة».
 
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه».

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس»، وفي رواية لمسلم عنه: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه».
 
تلك جملة من حقوق المسلم على أخيه بمقتضى العلاقة الإيمانية والأخوة الدينية، وغيرها مما لا يستطيع المقام لبسطه كثير، وهي في الحقيقة من شعب الإيمان، ومن خصال أولياء الرحمن؛ فهي من آثار الإيمان وثمراته ومعالمه ـ إن وجدت ـ ودليل على قوة الإيمان وكماله، وإن قلت أو ضعفت كانت دلالتها على نقص الإيمان وضعفه ظاهرة بينه لا تحتاج إلى برهان.
 
إخوتي الأكارم:
إن من أصدق مظاهر الإخوة الإيمانية التعاون بين المؤمنين على البر والتقوى كما جاء الأمر به في القرآن، وسبقت الإشارة إليه فيما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيان.
 
يقول تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، وقال صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، فهو فريضة دينية وحاجة فطرية، ومن ضرورات الاجتماع، ومقتضيات الطباع، ومن دواعي الانتفاع بالمتاع، وكم من نصوص الشريعة ما يبين وجوهه وحدوده ومناسباته، وحتى لا تأخذ بعض الناس الأريحية ودوافع المروءة وكرم الطبع إلى الإعانة على كل شيء، والمشاركة في كل أمر دون مراعاة للخير والشر والنفع والضر، جعل الله تعالى للتعاون ضابطًا يضبطه، ونظامًا يحكمه، وميزانًا توزن به الأمور قبل تنفيذ التعاون، وهو قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].
 
فوجه الله سبحانه عباده إلى أن يتعاونوا على شيئين أحدهما:
البر: وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة من حقوق الله وحقوق الخلق، وفي ذلك الحث على التوسع في الخير.
 
وثانيهما: التقوى: وهو اسم جامع لترك ما يكرهه الله ورسوله من الأعمال الظاهرة والباطنة، فيتحقق للمرء بذلك اتقاء ما يضره في دينه ودنياه.
 
ونهى تبارك وتعالى عباده عن التعاون على شيئين أحدهما:
الإثم: وهو كل ذنب ومعصية، فإن ذلك يؤثم صاحبه؛ أي: يوقعه في الإثم، ويجرح عدالته، ثم يعرضه لدخول النار، والثاني: العدوان، وحقيقته تعدي حدود الرب، والاعتداء على الخلق، فإن حمى الله محارمه، وكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.
 
أما ما لم يترجح عند الإنسان حكمه بل اشتبه، فلم يدر هل هو من قبيل البر والتقوى أم من جنس الإثم والعدوان؛ كالأمور الجديدة الحادثة التي تخفى على العامي أو الشخص العادي دلالة النصوص عليها، أو خفي على المرء رجحان مصلحتها أو مفسدتها، بل بقيت مشتبهة عليه، فعليه أن يتقيها، فإن من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه؛ ولهذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، فأمر سبحانه بملازمة التقوى، وحذر من شدة العقاب المترتب على اتباع الهوى ومجانبة التقوى.
 
ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به خشية من ما به بأس؛ فلا بد أن يكون التعاون فيما بين الناس محكومًا بهذه الآية؛ ليكون قربة عند رب العباد، وعاملًا من عوامل دحر الشر والفساد، وعلى المرء أن يسأل ربه في كل آنائه الهدى والسداد.
 
فإذا عرفتم أن التعاون على البر والتقوى من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، ومن مقتضيات الإخوة في الله ومظاهر الاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله ومصطفاة، وأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، فتعاونوا على الخير، وتآزروا عليه، واطلبوا فضل الله تعالى فيه؛ ولا سيما في هذه الظروف والمناسبات التي يحتاج فيها كثير من الناس إلى إعانة إخوانه له ومواساتهم له بأنفسهم، فالعالم يعين بعلمه، والغني يعين بماله، وذو الرأي يعين برأيه، وذو الجاه يعين بجاهه، وكل ذي صنعة أو خبره يعين بما عنده، ويتأكد ذلك في حق مع قريبه، والجار مع جاره، والصاحب مع صاحبه ـ كل معروف صدقه ـ ومن أعظم الصدقات إعانة ذي الحاجة والملهوف، والأمر بالخير.
 
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة»، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا»، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه فقال: «لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما سواء»، وفي رواية: «ليخرج من كل رجلين رجل» ثم قال: «للقاعد أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج».
 
فهبوا - عباد الله - للتعاون على البر والتقوى والقيام بما استطعتم من حقوق الإخوة الدينية والرابطة الإيمانية، وكونوا في حوائج إخوانكم وإعانتهم على كل خير، وأحسنوا خلافتهم في أهليهم وضياعهم؛ ولا سيما من اشتغلوا بالذود عن الشعائر والحرمات والبلاد والمقدسات والمرابطين على الثغور والمساندة لأولئك ومن هم في حاجة الناس في تلك الظروف الحرجة والأوضاع الحساسة لتشاركوهم في الأجر، وتفوزوا عند الله بعظيم الذخر، وتتصفوا بالإحسان، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، وإن الله يحب المحسنين ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وإنما الأعمال بالبنات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير