أرشيف المقالات

الإيمان بين الإطلاق والتقييد

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2الإيمان بين الإطلاق والتقييد

كثيرًا ما نقرأ في كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، نجده مرة مطلقًا ومرة مقيَّدًا؛ كقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]، وكقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ [يونس: 9]، فكلمة (الإيمان) ذُكِرت مجرَّدة من العمل، ثم ذُكِرت وقد عطف عليها العمل الصالح، ثم ذُكِرت غير مقيَّدة بالمؤمن به مثل: ﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ [يونس: 9].
 
وتارة قُيِّدت بقيد الله وملائكته وكتبه ورسله؛ ومِثل ذلك نجده في السُّنة؛ كحديث سؤال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلٍّ من الإسلام والإيمان والإحسان، والإجابة عن الإسلام بأنه: ((شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت))، وعن الإيمان بأنه: ((الإيمانُ بالله وملائكته وكُتُبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره))، وعن الإحسان بأن ((تَعبُد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، وفي حديث آخر: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)).
 
فمن قال: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعملِ القلب والجوارح، ومن المعلوم أن القول كما يُطلَق على النطق باللسان، يُطلَق على ما استقرَّ في القلب، وكذلك العمل - يُطلَق على ما يَعتقِده القلب وتفعله الجوارح.
 
وقد عُرِف عن السلف أن الإيمان هو: اعتقاد وقول وعمل.
 
وليست هذه القضية مجرَّد قضيَّة كلامية؛ بل هي أعمق من ذلك، ففصلُ العمل عن الإيمان أراه جريمة أدَّت إلى الاستهتار بالقيم الدينية، زيادة على التكاسل والتواكل الذي أضعف المسلمين في عصور راجت فيها فِكرةُ فصلِ العمل عن الإيمان، واللجوء إلى تأويل لا مبرِّر له.
والأعمال منها ما يجب فعله أو تركه، ومنها ما هو مندوب أو مكروه أو مُباح، والقاعدة أنه إذا نفى الإيمان بنفي عملٍ من الأعمال، دلَّ ذلك على حتميَّة ذلك العمل؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)).
 
فإن ذلك يَدلُّ على أن الخيانة منافية للإيمان، ولا يوجد مؤمن خائن، أو مؤمن كذَّاب، أو مؤمن غاشٌّ لقومه - إلا في تَصوُّر أولئك الذين يَفصِلون الأعمال الواجبة عن مدلول الإيمان، فإذا أثبت القرآن أو السُّنة إيمانًا، دخلت فيه الأعمال الواجبة قطعًا، سواء صرِّح بها أم لا؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15]؛ فترك الارتياب والشكِّ داخل في مفهوم الإيمان، وكذا الجهاد بالنفس والمال داخل كذلك في مفهوم الإيمان، ويُكلَّف به من قدِر عليه، وفي صحيح مسلم: ((من مات ولم يَغْزُ أو لم يُحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق))، فالجهاد أنواع يجب على كل مؤمن نوع منه.
 
وقد ثَقُل على بعضِ الناس بعضُ الأعمال فجعلوها خارجة عن مدلول الإيمان، وعمَدوا إلى تأويل النصوص لتتفق مع زيف مذاهبهم، وهذا تحريف للكَلِم عن مواضعه، وما أحسن ما أجاب به سهلُ بن عبدالله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: "الإيمان قولٌ وعمل ونيَّة وسُنَّة، فإذا كان قولاً بلا عمل فهو كُفْر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نيَّة فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بِدعة" ا.
هـ.
 
وعليه؛ فإن الإيمانَ لا يتحقَّق إلا بنيَّة يتم بها التوجُّه لله، ثم قول مشروع لا اعوجاج فيه ولا تعقيد ولا غموض، دلَّ على استقامةِ القلب ورجاحة العقل، مُوافِق لمفهوم المؤمنين، لا يشفع لمُنحرِف فيه حُسن نية، فمن حدَّث الناس بحديث لا يُحسِنون فَهْمه، كان حديثه عليهم فتنة، ثم عمِل بكل ما أوجبه الإسلام بترك ما أمر بتركه وجوبًا؛ ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
 
ثم اتباع لمن أوجب اللهُ علينا الاقتداءَ به؛ حَذرًا من قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ﴾ [الكهف: 103 - 106].
 
ومما يدلُّ من القرآن على أن الإيمان المُطلَق مُستلزِم للأعمال قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [السجدة: 15]، فقد نفى الإيمان عن غير هؤلاء، فمن ذُكِّر بالقرآنِ وهو لا يفعل ما فرضه الله عليه من سجود الصلاة فليس بمؤمن، ومثله قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4]، فوجلُ القلوب فريضة، ومواصلة القُرب من الله والتوكل عليه والإتيان بما فرَض من صلاة وزكاة - أمور لا يتحقَّق الإيمان إلا بها.
 
ولم تُذكَر كلُّ أركان الإسلام في هذه الآية كالصيام والحج؛ إما لأنهما لم يكونا قد فُرِضا، أو لدخولهما في وجلِ القلب من ذِكْر الله، فما من فريضة تُفرَض إلا وهي مقرونة بجبروت الآمِر بها وعدْله.
 
وإذا كانت الأعمال داخلةً في مفهوم الإيمان، فإنها لم تدخل إلا بشرط إخلاص صاحبها والتزامه بما شرع الله، فكم كانت للمنافقين أعمال، ومع ذلك جُرِّد أصحابها من الإيمان! قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54].
 
وأصحاب هذه الأعمال تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، ونَكِل سرائرَهم إلى علام الغيوب، فلم نؤمر أن ننقب قلوبَ الناس ولا أن نَشُق بطونهم، وقد مات ابن أبي زعيم المنافقين وورثة ابنه عبدالله وهم من خيرة المؤمنين على مشهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قرَّر أنه لا يَرِث مسلم من كافر، فلم يعتبره كافرًا نظرًا لأقواله وأعماله الظاهرة مع يقينه بأن المنافقين وزعيمهم في الدرك الأسفل من النار، وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرقُب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكُر الله فيها إلا قليلاً))، فالحق الذي لا مِراء فيه أن الإيمان اعتقادٌ قلبي، ونُطْق باللسان بكلمة التوحيد، وعَمَل بالجوارح على هدى من الكتاب والسنة، ولا يضر المؤمنين أن دخل فيهم بحكم الإسلام من ليس منهم، وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ﴾ [الحجرات: 14]، وصلى الله على سيدنا محمد.

شارك الخبر

المرئيات-١