أرشيف المقالات

الجدال المحمود والمذموم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2الجدال المحمود والمذموم   الجدال نوعان: النوع الأول: الجدال المحمود: وهو كلُّ جدالٍ أيَّد الحقَّ أو أوصل إليه بنِيَّة صالحة خالِصة وطريق صحيح.   قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [العنكبوت: 46]، وقال تعالى عن قوم نوح عليه السلام: ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [هود: 32].   والمجادلة بالتي هي أحسن: هي التي تكون على علمٍ وبصيرة، وبحسنِ خُلُق ولطفٍ ورِفْق ولِين، وحسن خطاب، ودعوةٍ إلى الحقِّ وتحسينه، ورد الباطل وبيان قُبْحه، بأقرب طريقٍ موصل إلى ذلك، وألاَّ يكون القصد منها مجرد المغالبة وحب العلوِّ؛ بل يكون القصد بيان الحقِّ وهداية الخلق".
اهـ؛ (انظر تفسير ابن كثير: 2/592).   قال الشافعي رحمه الله: "ما ناقشتُ أحدًا في مسألة إلا وتمنيت أن يُظهِرَ الله الحقَّ على لسانه".   النوع الثاني: الجدال المذموم: والجدال المذموم: هو كلُّ جدال أيَّد الباطلَ، أو أَوْصَل إليه، أو شغل عن ظهور الحقِّ ووضوح الصَّواب، أو كان بغير علمٍ وبصيرة، فهو ناشِئ عن جهلٍ، وسوءِ خُلُق، وتعَصُّبٍ للرَّأي، والغرض منه: الظُّهور والفخر، فصاحبه يتعصَّب لرأيه، سواء كان على صوابٍ أو خطأ، وإن رُدَّ عليه بعض كلامه يَغضب، ولا تهدأ نفسُه حتى يتنازل مَن يناظره عن رأيِه.   والجدال المذموم آفَةٌ عظيمة، وداءٌ عضال، وقع فيه كثيرٌ من المسلمين، وهو يُذكِي العداوةَ، ويورث الشقاوة، ويقود إلى الكذب، فإذا تجنَّبه المرء سَلِم من اللَّجاج، وحافَظ على صفاء قلبه.   وقال الكفوي رحمه الله عن الجدال المذموم: "هو عبارة عن دَفْع المرء خَصْمَهُ عن فساد قوله بحجَّةٍ أو شبهة، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره"؛ (الكليات: ص 353).   الأسباب الباعثة على الجدال المذموم: 1- الغرور والكبرياء والخيلاء، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35].   2- إظهار العلم والفَضْل.   3- الاعتداء على الغير بإظهار نقصِه وقَصْد أذاه.   • وحذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الجدال المذموم؛ فقد أخرج الإمامُ أحمد والترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضلَّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليه، إلاَّ أُوتوا الجدلَ))، ثمَّ تلا: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]؛ (صحيح الجامع: 5633).   فالخلاصة: أنَّ الجدال المذموم: عبارة عن قَصد إفحام الغير وتعجِيزه وتنقيصه، بالقَدْح في كلامه ونسبتِه إلى التهوُّر والجهل، وقد يكون الجدل هدفه ليس تخطِئة المتكلِّم؛ وإنَّما هدفه أن يَظهرَ المُجادِل بمظهر العالم، وصاحبِ الحجَّة والبيان.   وقد عَدَّ الذهبي رحمه الله الجدالَ من الكبائر، فقال رحمه الله: "إن كان الجدال للوقوفِ على الحقِّ وتقريره، كان محمودًا، وإن كان الجدال في مدافعةِ الحقِّ أو كان بغير علم، كان مذمومًا، وعلى هذا التفصيل تُنَزَّل النصوصُ الواردة في إباحته وذمِّه"؛ (كتاب الكبائر: ص 221).   • وقال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله: "نظرنا في كتاب الله تعالى، وإذا فيه ما يدلُّ على الجدال والحِجاج، فمن ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، فأمر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالجدال، وعلَّمه فيها جميعَ آدابه؛ من الرِّفق، والبيان، والتزام الحقِّ، والرجوع إلى ما أوجبَتْه الحُجَّة، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [العنكبوت: 46]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 258]..   وكتاب الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف، فتضمَّن الكتاب ذم الجدال والأمر به، فعلِمنا علمًا يقينًا أنَّ الذي ذمَّه الله تعالى غير الذي أَمَر به، وأنَّ من الجدال ما هو محمودٌ مأمورٌ به، ومنه ما هو مذمومٌ منهيٌّ عنه[1]، فطلبنا البيانَ لكلِّ واحد من الأمرين، فوجدناه تعالى قد قال: ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ [الكهف: 56]، وقال: ﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [غافر: 35]، فبيَّن الله تعالى في هاتين الآيتين الجدالَ المذموم، وأعْلَمَنَا أنَّه الجدال بغير حجَّة، والجدال في الباطل، فالجدال المذموم وجهان: 1- الجدال بغير علم. 2- الجدال بالشَّغْب والتمويه؛ نُصرةً للباطل بعد ظهور الحقِّ وبيانه، قال تعالى: ﴿ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [غافر: 5].   وأما جدال المُحِقِّين، فمن النَّصيحة في الدِّين، ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام؛ حيث قالوا: ﴿ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ [هود: 32]، وجوابه لهم: ﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ﴾ [هود: 34].   وعلى هذا جرَت سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((جاهدوا المشركين بأموالِكم وأنفسِكم وألسنتِكم))، فأَوْجب المناظرةَ للمشركين، كما أوجَب النفقةَ والجِهاد في سبيل الله، وعلَّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَضْع السؤال في موضعه، وكيفيَّة المحاجَّة في الحديث الذي ذَكر فيه محاجَّة آدم وموسى عليهما السلام..."، إلى أن قال رحمه الله: "وقد تحاجَّ المهاجرون والأنصار، وحاجَّ عبدالله بن عبَّاس رضي الله عنهما الخوارجَ بأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما أنكر أحدٌ من الصحابة قطُّ الجدالَ في طلَب الحق".
اهـ بتصرف؛ (الفقيه والمتفقه: 1/ 232 - 235).   وعندما أتكلَّم عن الجدال، فالحديث سيكون عن النَّوع الثاني من الجدال؛ وهو الجدال المذموم، وقد نهى ربُّ العالمين في كتابه الكريم عن هذا النَّوع من الجدال وذمَّهُ، قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...
[البقرة: 197]، وقال تعالى: ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾ [الكهف: 56]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: 204]، وقال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [غافر: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 121].


[1] كالجدال في القرآن الكريم، وفي الله سبحانه وتعالى، وفي القدَر.



شارك الخبر

المرئيات-١