أرشيف المقالات

محال الاجتهاد عند الشاطبي

مدة قراءة المادة : 36 دقائق .
2محالُّ الاجتهاد عند الشاطبي
محالُّ: جمع محل، وأصل الكلمة: حل، وله أصل واحد؛ قال ابن فارس: "الحاء واللام له فروع كثيرة ومسائل، وأصلها كلها عندي فتح الشيء، لا يشِذُّ عنه شيء، يقال: حللت العقدة أحلها حلًّا"، ثم قال: "وحل: نزل، وهو من هذا الباب؛ لأن المسافر يشد ويعقد، فإذا نزل حل، يقال: حللت بالقوم"[1]، ومنه المحلَّة: وهي المكان الذي ينزل به القوم، وحلة الشيء بفتح الحاء ويكسر: جهته وقصده[2]. ومحالُّ الاجتهاد هي المواضع التي يدور فيها المجتهد بنظره واجتهاده، ولا يجوز له أن يتعداها إلى غيرها؛ فهي مواضعُ الاجتهاد الجائز. وقد تحدَّث الأصوليون عن الاجتهاد من جوانبَ عديدة، ومِن أهم تلك الجوانب: جانب المحل والمجال الذي يسوغ فيه الاجتهاد؛ لأن معرفة ذلك المبحث تضبط عن الزلل فيما لا يغتفر فيه الزلل، وهي في الحقيقة تربية للمجتهد، وضبط لجماح نظره وفكره؛ ذلك أن من الشريعة ما هو من المسلَّمات والضروريات التي لا مجال لقدح النظر فيها، فكان من باب حماية جانبها، وصيانة بقائها، أن جعل الاجتهاد محوطًا بسياج لا يجوز تخطيه وتجازوه إلى غيره، وقد كان للشاطبي في هذا المجال نظر واسع وثاقب؛ حيث أبدى في هذه المسألة رأيه بتفصيل وتمثيل وتدليل ليس له مثيل، وفيما يلي نجلي رأيه في هذه المسألة.   رأي الشَّاطبي: الشريعة - كما بيَّن الشَّاطبي - وضعت للمجتهد موضعًا يحوم فيه لتحصيل قصد الشارع، وإنما كان ذلك ابتلاءً واختبارًا للمجتهد في عمله ليثاب على قصده، ولم تضع الشريعة مسائل متشابهة قصدًا للاختلاف، ولا تأصيلًا له؛ ولذلك يرى الشَّاطبي أن للاجتهاد مجالًا معينًا يكون الاجتهاد فيه معتبرًا، وهو واسطة بين أمرين واضحين، ويبين ذلك بقوله: "محالُّ الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي، ولا إلى طرف الإثبات"[3].   فمحلُّ الاجتهاد على هذا ومجاله: هو واسطة مترددة بين شيئين، وإنما كان هذا هو محل الاجتهاد ومجاله؛ لأن أفعال المكلفين، أو تروكهم، لا تخلو من حالين: أولًا: أن يردَ فيها خطاب من الشارع؛ نصًّا أو استنباطًا. ثانيًا: ألا يردَ فيها ذلك.   فإن لم يرد فيها، فلا يخلو: أن يكون راجعًا إلى البراءة الأصلية، التي أصلها راجع إلى خطاب الشارع بالعفو، أو بغيره، أو أن يكون ناقلًا منها إلى فرض لم يكن موجودًا. وأما إن ورد فيها خطاب الشارع، فلا يخلو: أن يتبين للشارع قصد معين في الإثبات، أو في النفي، أو لا، فإن لم يتبين فهو من المتشابهات، وإن تبين، فلا يخلو: أن يكون وضوح قصد الشارع فيه قطعيًّا أو لا: فإن كان قطعيًّا لم يجُزِ الاجتهاد فيه؛ لوضوح الحق فيه. وإن لم يكن قطعيًّا فهو محل للاحتمال، وليس من الواضحات مطلقًا إلا باعتبار الإضافة إلى ما هو أخفى منه، كما أنه لا يعد واضحًا، باعتبار ما هو أوضح منه، وهذا الموضع محتمل لِما فيه من التردد هل مقصد الشارع فيه النفي أو الإثبات؟ وهو موضع ظن لا قطع فيه، والظن فيه ليس على مرتبة واحدة، بل قد يقوَى حتى يصل إلى العلم، وقد يضعف حتى يصل إلى قريب الشك، ولكن إن لم يقوَ إلى جهة معينة فإنه مِن قبيل المتشابهات، والمقْدِم عليه كالحائم حول الحمى يوشك الوقوع فيه[4].   وإن قوي في جهة معينة فهو محل الاجتهاد، وهذا القسم هو الواضح في نفسه، وفي أنظار المجتهدين؛ فالمجتهد إذا أقدم على هذا الموضع، فإن قيل بالتصويب فهو واضح في حق المجتهد في النفي أو الإثبات، وإن قيل بالتخطئة فمن أصابه في نفس الأمر فواضح عنده، وغيره معذور.   وإذا تقرر هذا، تأصَّل لنا أن المتشابه هو ما تعارض فيه النفي والإثبات، بحيث لا ميل إلى أحدهما، والواضح هو ما لم يتعارضا، وأن الواضح على قسمين: القسم الأول: واضح مطلق، وهذا هو ما لم يتعارض فيه النفي والإثبات، بل هو إلى أحدهما بلا شك. والقسم الثاني: هو الواضح الإضافي، وهو ما يكون الأمر فيه متعلقًا بأنظار المجتهدين؛ فهو واضح عند مجتهد، بينما هو غير واضح عند غيره، وهو واضح في طرف النفي عند مجتهد، بينما هو عند الآخر واضح في الإثبات؛ فهو على هذا مختلف بحسب أنظار وظُنون المجتهدين، وإنما كان إضافيًّا لتفاوت مراتب الظنون قوة وضعفًا[5]. وذكر الشَّاطبي أن كل مسألة مختلف فيها لا بد وأن تكون دائرة بين طرفين واضحين، بل قال: "ولعلك لا تجد خلافًا واقعًا بين العقلاء معتدًّا به في العقليات، أو في النقليات، لا مبنيًّا على الظن ولا على القطع إلا دائرًا بين طريقين"[6].   فالشَّاطبي في مقولته هذه يعزو كل خلاف في الاجتهاديات إلى تنازع أصلين للمختلف فيه، ولا يعني قوله: "ولا على القطع"، أنه يقر الاجتهاد في القطعيات، وإنما يحمل قوله هذا على أحد وجهين: الوجه الأول: أن يكون مراده أن يبين أن كل خلاف هذا سببه ليس إلا، بغض النظر عن حكم هذا الاجتهاد، ولكن هذا الوجه لا يتلاءم مع قوله: "معتدًّا به". الوجه الثاني: أن يكون مراد كلامه الخلاف في الاجتهاديات، سواء كانت مبنية على أصل قطعي أو على أصل ظني؛ ذلك أن بعض الاجتهاديات تكون أصولها قطعية، وبعضها تكون أصولها القريبة ظنية، فيكون حينئذ معنى كلامه هنا أن الخلاف الواقع في مسألة ظنية مرتبطةٍ بأصل قطعي من الخلاف المعتبر، بخلاف المسألة القطعية فالخلاف فيها غير معتبر؛ ولذلك قال هنا: "لا مبنيًّا..."، وهو يشير بذلك إلى أن مراده الخلاف في مسألة ظنية ترجع إلى أصل قطعي، ومثال ما كان اجتهاديًّا وأصله قطعي ما مثَّل به الشَّاطبي من الخلاف في آيات الصفات؛ فالشَّاطبي يرى أن المسألة مسألة اجتهادية، وهي عنده مبنية على أصل واحد قطعي، والشَّاطبي يرى أن العلماء متفقون على أصل التنزيه، وهو الأصل القطعي، فما تعلق بذلك الأصل من الخلاف في الصفات، فهو خلاف اجتهادي يتعلق بفروع ليست قطعية، قال الشَّاطبي - وهو يقرر أن التشابه لم يقع في كليات الشريعة، وإنما وقع في فروعها -: "وإنما وقع في فروعها، فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها: فروعٌ عن أصل التنزيه، الذي هو قاعدة مِن قواعد العلم الإلهي"[7]. وهذا الوجه أولى من سابقه، ومما يؤيده أن الشَّاطبي قد قرر في بداية حديثه في الفصل الذي تحدث فيه عن محل الاجتهاد: أن الاجتهاد لا يجوز في القطعي؛ لوضوحه، فلا يمكن أن يناقض ذلك في خاتمة الفصل، ثم لو فرض أن مراده هنا القطعي، فكلامه في المواضع الأخرى واضح في مناقضة ذلك، والرجوع إليها أولى، وإنما وجَّهنا الاحتمال الثاني ليتسق كلامه، ويلتئم بعضه ببعض. وبهذا يتضح أن الشَّاطبي يرى أن موضع الخلاف هو الظن؛ إذ هو المحتمل للتردد؛ لعدم وضوحه نسبيًّا، بخلاف القطع؛ فهو واضح في نفسه، ولا يعذر بالخفاء فيه.   قال الشَّاطبي: "وقد ثبت عند النظَّار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة؛ فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات"[8]. ويقيد الشَّاطبي موضع الاجتهاد بقيد آخر لا بد منه، فيقول: "فإن قاعدة الاجتهاد أيضًا ثابتة في الكتاب والسنَّة؛ فلا بد من إعمالها، ولا يسع الناسَ تركُها، وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالًا للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه"[9]. وعلى ذلك فلا بد من أن يكون محل الاجتهاد ما لا نص فيه، فإذا وجد النص لم يجز الاجتهاد، ولكن ثم تساؤل لا بد منه، وهو: ما المراد بالنص هنا؟ وللجواب عن هذا التساؤل نقول: لا ريب أن الشَّاطبي يريد بانتفاء النص هنا انتفاء النص المعين؛ ولذا يقول حول قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]: "الآية على عمومها وإطلاقها، وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال؛ لأنها إما محتاج إليها، وإما غير محتاج إليها، فإن كانت محتاجًا إليها، فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الأصول الشرعية؛ فأحكامها قد تقدَّمت، ولم يبقَ إلا منظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة، وإن كانت غير محتاج إليها، فهي البدَع المحدَثات؛ إذ لو كانت محتاجًا إليها لما سكت عنها في الشرع، لكنها مسكوت عنها بالفرض، ولا دليل عليها فيه..
فليست بمحتاج إليها، فعلى كل تقدير قد كمل الدين، والحمد لله"[10].   وبكلامه هذا يتضح أنه إنما أراد بانتفاء النص النص المعين الخاص؛ لأن ما لا يشهد له نص مطلقًا لا كليًّا ولا جزئيًّا، فهو بلا شك غير ملائم لتصرفات الشرع، وهو من البدَع المحدَثة[11]، وقد أطلق الشَّاطبي لفظة: "النص" هنا؛ لذا فكلامه محتمِل لأحد أمرين: الأول: أن يكون مرادُه بالنص النصَّ القطعي والظني. الثاني: أن يكون مراده بالنص النصَّ القطعي دون غيره.   ويؤيد الاحتمال الأخير: أولًا: أنه أشار إلى أن النص الذي ينقض به قضاء القاضي إنما هو النص القطعي؛ لأن الأدلة فيه واضحة لا خفاء فيها، قال الشَّاطبي مبينًا ما ينقض به قضاء القاضي: "ما لم يكن قد أخطأ نصًّا، أو إجماعًا، أو بعض القواطع"[12]. ثانيًا: أن الشَّاطبي قد أسقط زلة العالم في الكلي، ولم يعتبرها خلافًا، وقال: "لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن تحصَّل مِن صاحبها اجتهاد، فهو لم يصادِف فيها محلًّا"[13]. ثالثًا: أن الشَّاطبي قد مثَّل في تقريره لهذا المسألة بما عليه أدلة ظنية؛ كمسألة زكاة الحلي. وإذا تقرر أن الشَّاطبي لا يقر الاجتهاد في القطعي، ولا يراه اجتهادًا، وإن وقع لم يصادف محلًّا، وأنه قال بنقض حكم الحاكم إذا خالف قطعيًّا، دل هذا على أن ما لم يرِدْ فيه أدلة قطعية، فهو من الاجتهاديات. ولذا؛ فالأظهر أن مراده بالنص هنا النص القطعي دون الظني، وقد يشكل على هذا أن الشَّاطبي قد مثَّل بما هو من مسائل الاعتقاد؛ كالمبتدع بما يتضمن كفرًا من غير إقرار بالكفر، هل يعتبر خارجًا من الأمة أو لا؟ وكإضافة بعض الأمور إلى الله عز وجل.   والجواب عن هذا الإشكال: أن الشَّاطبي - فيما يظهر لي - يقسم مسائل العقائد إلى قسمين: الأول: مسائل قطعية، وهذه لا يُعَد المخالف فيها مخالفًا، ولا يُعتبَر بخلافه[14]، وإن حصل من صاحبها اجتهاد، فهو لم يصادف في اجتهاده محلًّا؛ فصار الاجتهاد هنا كاجتهاد غير المجتهد في الشريعة. الثاني: مسائل ظنية، وهذه مسائل اجتهادية يعتبر فيها المخالف، والمجتهد فيها قد صادف محل الاجتهاد.   ولذلك جعل الشَّاطبي - كما سبق أن ذكر - إثبات الصفات مع تفويضها أو تأويل الصفات من المسائل الاجتهادية[15]؛ لأنه يرى أن الأصل القطعي عنده هو تنزيه الرب، وكل يسعى إليه، وهو مقصد الشرع؛ فمَن أوَّل الصفات أو فوَّضها فهو مجتهد[16]؛ ولذلك جعل ما لم يكن واضحًا ليس من القطعيات، وبهذا يزول الإشكال، ويتضح رأي الشَّاطبي. وقد حرَص الشَّاطبي على تقعيد هذه القاعدة، وعلى تطبيقها؛ فهو كثيرًا ما يعرض للمسألة، ثم يذكر أصلين لها، ويبين موضعًا يدور بينهما، وله شبه بكل واحد منهما، ويذكر أنه محل نظر واجتهاد[17]، ولتتأصل هذه القاعدة ضرب الشَّاطبي أمثلة عليها، وهي[18]: 1- كل مسألة وقع فيها الخلاف هل هي مِن الغَرَر المنهي عنه أو لا؟: فهي دائرة بين طرفين واضحين: وذلك أن الشارع نهى عن بيع الغَرَر[19]، وأجمع العلماء على منع بيع الأجنة، والطير في الهواء، والسمك في الماء، فهذا طرف كثر فيه الغرر مع إمكان التحرز منه. والطرف الثاني: أن العلماء أجمعوا على جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن البصر، ولو قصد بيع الحشو منفردًا لما جاز، كما أجمعوا على جواز تأجير الدار شهرًا مع احتمال كونه ثلاثين أو تسعة وعشرين يومًا، وأجمعوا على جواز دخول الحمام مع عدم تحديد الأجرة والزمن، مع اختلاف الناس في طول المكث وكمية الماء المستعمل، كما أجمعوا على جواز شرب الماء من السقاء دون تحديد مقدارٍ مع اختلاف الناس فيه، فهذا الطرف قل فيه الغرر وشق التحرز منه وعمَّت به البلوى؛ فاغتُفر ما فيه من الغرر. فهذان طرفان واضحان؛ فالمسألة المختلف فيها في الغرر متوسطة بين هذين الطرفين، فمن جوَّز مال إلى إلحاق المسألة بطرف الإثبات، وكون الغرر يسيرًا لا يمكن الاحتراز منه، فيُغتَفر، ومن مال إلى طرف النفي وكونه كثيرًا يمكن الاحتراز منه فلا يغتفر[20].   2- اختلفوا في زكاة الحلي؛ لكونها دائرة بين طرفين: فالأول: أن العلماء أجمعوا على وجوب الزكاة في النقدين[21]. والثاني: أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض ما لم تعدَّ للتجارة[22]. فالحلي دائرٌ بين هذين الطرفين؛ فمن ألحقه بالنقدينِ أوجب فيه الزكاة، ومن ألحقه بالعروض التي لم تعدَّ للتجارة لم يوجب فيه الزكاة[23].   3 - اختلفوا في قبول رواية مجهول الحال وشهادته؛ لأنه دائر بين طرفين: الأول: أنهم اتفقوا على قبول رواية العدل الضابط. والثاني: أنهم اتفقوا على عدم قبول رواية الفاسق[24]. فمن ألحق مجهول الحال بالأول، جوَّز شَهادته وقبِل روايته، ومن ألحقه بالثاني لم يجوِّزْ شَهادته، ولم يقبَل روايته[25].   4- اختلفوا في العبد هل يملك أو لا؟؛ وذلك لكونه دائرًا بين طرفين: الأول: أن الحر يملِك بلا خلاف، والعبد يثاب، ويعاقب، وينكح، ويطلق، ويكلف، فهو أشبه بالحر. والثاني: أن البهيمة لا تملك، والعبد يباع، ويرهن، ويوهب، ويؤجَّر، أشبه البهيمة، فلما أن كان وسطًا بين طرفين واضحين، وقع الخلاف فيه[26].   5- اختلفوا فيمن وجد الماء قبل خروج الوقت، وكان قد صلى بالتيمم، أو وجده، وهو في صلاته؛ وذلك لأنه دائر بين طرفين: الأول: أنهم أجمعوا على أن واجد الماء قبل شروعه في الصلاة يجب عليه الوضوء، ولا تصح صلاته بالتيمم[27]. والثاني: أنهم أجمعوا على أن من صلى بالتيمم، ثم وجد الماء بعد خروج الوقت، لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة[28]. فلما كانت المسألتان محل تردد بين الطرفين، كانتا موضع خلاف[29].   6- اختلفوا في ثمرة الشجرة إذا كانت ظاهرة؛ لأنها وسط بين طرفين: الأول: أنهم اتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تكن ظاهرة، فإنها تابعة للأصل. والثاني: أنها إذا جُذَّت، فإنها لا تكون تابعة للشجرة[30].   7- اختلفوا في الإجماع السكوتي؛ لأنه دائر بين واسطتين: الأولى: أنهم أجمعوا على أن القول إذا صدر من مجتهد، وعرفه بقية المجتهدين، وأقروا بقبوله، وأيدوه عليه، فهو إجماع. الثاني: أنهم اتفقوا على أنهم إذا أنكروا عليه، فلا يعتبر إجماعًا، فإذا سكتوا عن إظهار قبول، أو إنكار، كان محل نظر وتردد[31].   8- اختلفوا في المبتدع بما يتضمن كفرًا من غير إقرار بالكفر، هل هو من الأمة أو لا؟[32]؛ وذلك لأنه دائر بين طرفين واضحين: الأول: أنهم متفقون على أن المبتدع بما تضمن كفرًا صرح به فليس من الأمة. الثاني: أنهم متفقون على أن المبتدع بما لا يتضمن كفرًا من جملة الأمة.   9- اختلفوا في إضافة بعض الأمور إلى الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لأنها دائرة بين طرفين: الأول: أنهم متفقون على أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال. الثاني: أنهم متفقون على أن الله سبحانه وتعالى منزَّه عن النقائص مطلقًا. فمن رأى أن هذه الأمور من الكمال أضافها إليه سبحانه وتعالى، ومن لا فلا[33]. وبعد هذا يمكننا أن نلخص محل الاجتهاد المعتبر بأنه هو الظني المتردد بين أصلين واضحين.   ولا بد من الإشارة إلى أن الشَّاطبي جعل كل خلاف راجعًا إلى ذلك؛ حتى لا يكاد يخرج خلاف معتبر من هذه القاعدة، فيندرج في ذلك تحقيق المناط العام، فلما أن كان نوعًا من الاجتهاد بالعرف العام، فهو مندرج تحت هذه القاعدة، بل قد صرح الشَّاطبي بذلك، فقال: "إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين، والحكم عليه..."[34]. وعلى هذا، فالعدالة وتحقيقها في شخص معين اجتهاد يتنازعه أصلان، وهما إثبات العدالة ونفيها، وكذلك المشروب المعين يتنازعه أصلان، وهما أن يكون خمرًا فيحرم، أو غير خمر فلا يحرم، وبهذا يتبين شمولية ما قرره الشَّاطبي.   وقد وافق الشَّاطبي على ذلك جمهور الأصوليين؛ فهم يرون أن محل الاجتهاد هو الظني المتردد بين احتمالين، وبذلك يخرج القطعي عن كونه محلًّا للاجتهاد، ومَن تأمل كثيرًا من المسائل التي يطرقها الأصوليون يلاحظ أنهم يشيرون إلى أن المسألة دائرة بين طرفين، فيلزم الترجيح بينهما[35]. وقد خالف الشَّاطبي بعض الحنفية، وبعض الحنابلة: فرأوا أن الاجتهاد قد يقع في القطعي[36]. وقد اتفق الأصوليون على عدم جواز الاجتهاد مع وجود النص[37]، والذي يبدو أن مراد الأكثر بالنص هو النص القطعي[38]. ويبدو من خلال عرض المسألة التميز الواضح الذي جلى به الشَّاطبي هذه المسألة.


[1] معجم مقاييس اللغة ( 2/ 20) مادة: "حل". [2] انظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 20) مادة: "حل" القاموس المحيط (1274) مادة: "حلل". [3] الموافقات (5/ 114)، وانظر منه: (4/ 40، 5/ 71 - 72، 218 - 219، 344). [4] الظاهر أن مراد الشاطبي بالمتشابه هنا المتشابه الإضافي، الذي يكون التشابه فيه ليس من جهة الدليل، وإنما من جهة نظر المجتهدين، بخلاف المتشابه الذي لا يظهر فيه قصد الشارع، لا في إثبات ولا نفي؛ إذ هذا هو المتشابه الحقيقي الذي لم يجعل الشارع سبيلًا إلى فهم معناه؛ وذلك حتى لا يقع التعارض في كلام الشاطبي، ووجَّه ذلك الشيخ عبدالله دراز في تعليقه على الموافقات (5/ 115 - 116)، وأيَّده بأن الشاطبي بعد قوله: "فإن لم يقوَ رجع إلى قسم المتشابهات"، قال (5/ 116): "وإن قوي في إحدى الجهتين فهو قسم المجتهدات، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين"، فمعناه أن مقابله هو المتشابه الإضافي، وأقول: يؤيده أيضًا قوله في موضع آخر (5/ 71): "وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه؛ لأنها دائرة بين طرفي نفي وإثبات شرعيين؛ فقد يخفى هناك وجه الصواب من وجه الخطأ"، فيتضح من كلامه أنه يريد المتشابه الإضافي؛ ولذا قال: "فقد يخفى...
إلخ"، والمتشابه الحقيقي يخفى على جميع المجتهدين، لا على بعضهم. [5] انظر: الموافقات (5/ 114 - 115). [6] الموافقات (5/ 120). [7] الموافقات (3/ 232 - 262) وانظر منه: (4/ 10 - 11). [8] الاعتصام (2/ 393)، وانظر: الموافقات (1/ 497). [9] الاعتصام (2/ 478) وفيه: "تبث..
أشعرت"، وكذا في طبعة دار ابن عفان (2/ 817)، ولعل الصواب: ثبتت؛ يعني قاعدة الاجتهاد، أو يكون المراد: وإذا ثبت القول بكمال الشريعة، أشعرت لكمالها، وانظر: الاعتصام (2/ 477). [10] الاعتصام (2/ 478). [11] انظر: الاعتصام (2/ 354). [12] الموافقات (1/ 266). [13] الموافقات (5/ 138 - 139). [14] انظر: الموافقات (3/ 320 - 321، 5/ 138 - 139). [15] انظر: الموافقات (3/ 329). [16] انظر: الموافقات (3/ 323، 4/ 10، 5/ 222)، ولا يخفى أن مذهب السلف ليس كما فهم الشاطبي، بل هو تفويض الكيفية دون المعنى. [17] انظر مثلًا: الموافقات (1/ 405 - 497، 2/ 278، 510، 3/ 156، 219، 264، 475). [18] انظر لهذه الأمثلة: الموافقات (5/ 117 - 120). [19] روى مسلم في صحيحه كتاب البيوع باب بطلان يبع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (10/ 133/ 1513) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر)، والغرر: هو الخطر، وهو بيع ما دخلَتْه الجهالة، وقال ابن الأثير: "هو ما كان له ظاهر يغرُّ المشتري، وباطن مجهول"؛ انظر: المصباح المنير (2/ 445) النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 355) معجم لغة الفقهاء (330) القاموس الفقهي (272) الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي (27 - 34). [20] انظر في أقسام الغرر والإجماع عليه، والكلام على أقسامه: الاعتصام (2/ 374) الذخيرة (5/ 93) المعونة (2/ 1029) بداية المجتهد (2/ 111) شرح النووي لمسلم (10/ 133) الفروق (1/ 150، 3/ 265) المغني (6/ 290) الحاوي (5/ 324) البناية شرح الهداية (7/ 198) ونقل عن ابن سيرين وشريح خلاف في المسألة؛ انظر: المحلي (8/ 399 - 400). [21] انظر: مراتب الإجماع (34) الإجماع لابن المنذر (12 - 13) المغني (4/ 208). [22] نص القائلون بزكاة عروض التجارة على اشتراط كونها معدة للتجارة؛ انظر: الذخيرة (3/ 19) المغني (4/ 248) الإجماع لابن المنذر (14) البناية (3/ 449). [23] انظر لزكاة الحلي: المغني (4/ 220) الذخيرة (3/ 48) البناية (3/ 442)، وفي المسألة مؤلفات مفردة. [24] المراد بالفسق هنا: فسق الأفعال، لا فسق الاعتقاد، فهو محل خلاف، كما أن مراده الفسق المتيقن لا المظنون، فهو محل خلاف، انظر: أصول السرخسي (1/ 370) المعونة (3/ 1517) شرح العضد (2/ 64) البحر المحيط (4/ 278). [25] انظر لروايته: أصول السرخسي (2/ 370) اللمع (78) التبصرة (337) المستصفى (1/ 157) الإحكام (2/ 78) علوم الحديث والمسمى بالمقدمة لابن الصلاح (121) مختصر المنتهى مع شرح العضد (2/ 64) نهاية الوصول لابن الساعاتي (1/ 357) المسودة (252) البحر المحيط (4/ 280) فتح المغيث (2/ 50) تدريب الراوي (1/ 316) غاية الوصول (100) فواتح الرحموت (2/ 146)، ولشهادته: المعونة (3/ 1517) المغني (14/ 43، 46) الإحكام (2/ 79) إعلام الموقعين (1/ 100). [26] انظر: الحاوي (5/ 265) المعونة (2/ 1069) المغني (6/ 259) تقرير القواعد وتحرير الفوائد (3/ 332). [27] انظر: الأوسط (2/ 65) الإجماع (5) المغني (1/ 314) المقدمات والممهدات (1/ 37 - 38) المجموع (2/ 300) بداية المجتهد (1/ 53) بدائع الصنائع (1/ 57) ونُقِل في المسألة خلاف ضعيف عن أبي سلمة بن عبدالرحمن؛ انظر لذكر ذلك عنه: الأوسط وبدائع الصنائع والاستذكار (3/ 167). [28] انظر: الإجماع (5) المغني (1/ 320) بداية المجتهد (1/ 53). [29] انظر: المدونة الكبرى (1/ 46) الأوسط (2/ 65) الخلافيات (2/ 449) الاستذكار (3/ 168) المبسوط (1/ 124) الحاوي (1/ 252) المعونة (1/ 148) المحلى (2/ 122) المغني (1/ 320) بداية المجتهد (1/ 53) روضة الطالبين (1/ 228) بدائع الصنائع (1/ 57) تقرير القواعد وتحرير الفوائد (1/ 41). [30] انظر: المعونة (2/ 1011) الكافي لابن عبدالبر (2/ 687) المغني (6/ 130) مغني المحتاج (2/ 492) شرح فتح القدير (6/ 262). [31] انظر: جماع العلم (88) العدة (4/ 1170) المعتمد (2/ 532) أصول السرخسي (1/ 303) التبصرة (391) الأسرار في الأصول والفروع (1/ 50) البرهان (1/ 447) بذل النظر (567) المحصول (4/ 153) الإحكام (1/ 252) شرح تنقيح الفصول (330) المسودة (335) مختصر المنتهى مع شرح العضد (2/ 37) شرح مختصر الروضة (3/ 78) نهاية الوصول (6/ 2567) الإبهاج (2/ 380) تقريب الوصول (334) شرح الكوكب المنير (2/ 253) فواتح الرحموت (2/ 232). [32] انظر: الاعتصام (2/ 411) الموافقات (5/ 172) أصول الدين للبغدادي (332 وما بعدها) الفرق بين الفرق (278) المواقف (392) تلخيص كتاب الاستغاثة (256) مجموع الرسائل والمسائل (5/ 376) منهج ابن تيمية في مسألة التكفير (2/ 295) وما اختاره الشاطبي هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية من عدم تكفير الفرق الثلاث والسبعين الواردة في الحديث. [33] يعبِّر كثير ممن جانَب الصواب في صفات الله بتنزيه الله، ووصفه بصفات الكمال؛ مما يبين أن ما ذكره الشاطبي صحيح في الجملة؛ لاحظ أبواب كتاب المسائل الخمسون في أصول الدين للرازي، وخاصة (43 - 44، 61)، والفرق بين الفرق (257 وما بعدها) والإنصاف للباقلاني (34) والمواقف (270)، ولا شك أن الحق في هذا الجانب هو ما قرره السلف من إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سكت عنه نظر فيه بحسب ما فيه من حق أو باطل؛ انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 216) شرح السنة للبربهاري (24) الرسالة في اعتقاد أهل السنة للصابوني (26) مجموع الفتاوى (3/ 4 وما بعدها، 129 - 130). [34] الموافقات (4/ 402). [35] انظر: شرح اللمع (2/ 1072) البرهان (2/ 867) المحصول (5/ 397، 6/ 37) نهاية الأصول (8/ 3647) جمع الجوامع مع شرح المحلي والآيات البينات (4/ 287). [36] انظر للخلاف ولعزو الأقوال: (ص 128 - 129) من هذا البحث. [37] انظر: جماع العلم (11) نهاية الأصول (8/ 3846) الإبهاج (3/ 258) البحر المحيط (6/ 255) إعلام الموقعين (1/ 6). [38] انظر ما يفيد ذلك في مبحث: نقض الاجتهاد (ص 635).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣