أرشيف المقالات

الشجاعة الأدبية عند القضاة

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
2الشجاعة الأدبية عند القضاة
 
أمرُ القضاء في وطني أصبح يَخنُق ويختنق، هذا شعوري كلما قرأت عن الأحكام التي تصدر منه في بلد الإسلام، فهذا متهم يُبرَّأ، وهذا بريء يُتَّهم، وما بين هذا وذاك تضيع أعمار وأحلام وأُسَرٌ ومجتمعات، حتى أيقنت قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة ...))[1] ، وقد هالني جدًّا ما سمعته من أحد رؤساء نوادي القضاة، عندما أراد أن يوصِّف حال الدولة والمجتمع، فقال: "نحن القضاة الأسياد ...
وغيرنا هم العبيد ..."؛ أي باقي أفراد المجتمع كله، فتلك كانت عقيدته، ولك أن تتخيل ما تلك العقيدة، وأي عقيدة فاسدة تلك التي تربَّى ونشأ عليها أمثال هذا القاضي.
 
فأين هو من مخاطبة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، في أقصر وأبلغ رسالة في التاريخ عندما قال له: "بلغني أنك تجلس في مجلس الحكم متكئًا، فاجلس متواضعًا يا ابن العاص، وإلا عزلتك"،






دَعِ التأنق في لبس الثياب وكن
لله لابسًا ثوبَ الخوف والندم


لو كان للمرء في أثوابه شرفٌ
ما كان يخلع أجملهن في الحرم






 
فأين نحن؟ مجرد سؤال.
والعجيب أنهم قد جعلوا لأحكامهم قدسية، لم يجعلوها لكتاب الله تعالى، بقولهم عدم جواز التعليق أو التعقيب على أحكام القضاء، وكأن القاضي مُنزَّهٌ ومَلَكٌ من السماء لا يُخطئ أبدًا، وقد أباحوا لأنفسهم جميعًا الطعن في كتاب الله بحجة الحرية؛ حرية الرأي والتعبير، وصار القضاء منهجًا دخيلًا يتوارثه الأبناء عن الآباء عن الأجداد، حتى قيل عن القضاء بأنه عِلم يُورَّث لا يُدَّرس، لا أدري بإمكانك أن تحكم عليه من عدة زوايا وجوانب ودروب واتجاهات، وفي كل مرة تسأل يأتيك الجواب مرة على استحياء، ويأتيك مرات أخرى بأن الشعب يريد وما زال يريد تطهير القضاء؛ لذا كان للإسلام حظه الجميل من تطهير القضاء؛ لاستحالة استقامة الأمم إلا به؛ فقد قال عمر بـن عبـدالعـزيز رضـي الله عنــه للقاضـي الـذي أقصاه من منصبه عن سبب الإقصاء: "يكفي أن الحجَّاج كان عنك راضيًا".
 
إن القضاء أمر مهمٌّ واجب تعريفه قوة التعريف والإفهام، حتي يدرك المُطَّلِعُ ومن له حاجة أنه جهة ملزمة، فهو في لغة العرب يُراد به الحكم والجمع، وهو بهذا يُراد به عدة معان؛ منها:
• الأداء بمعنى أداء العمل على وجه الانتهاء؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ [البقرة: 200].
 
• ومنها: الإرادة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47].
 
• ومنها: الفراغ؛ لقوله تعالى: ﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41].
 
• ومنها: الإنهاء والتبليغ بمعنى إيصال الأمر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ﴾ [الحجر: 66].
 
• ومنها: الحكم بمعنى المنع؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23].
 
• ومنها: العلم؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21].
 
• ومنها: الفعل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
 
• ومنها: الموت؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
 
• ومنها: الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [فصلت: 12].
 
ويُعد القضاء من أهم الوظائف التابعة للدولة، وهو من أعلى المراتب في الإسلام، ومهمته الفصل بين الناس في الخصومات حسمًا للتداعي وقطعًا للتنازع، وذلك بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة، لا من القوانين الوضعية، وله حق الاجتهاد إن لم يجد نصَّ الحكم فيهما، ومن ثَمَّ ربى الإسلام في القضاة ضرورة مراقبة الله تعالى؛ لأن الابتعاد عن الحق في إنزال الأحكام القضـائية جـريمـة في حـق المتخاصمين، وابتعاد عن النهج القويم؛ لذلك حذَّر الإسلام كل من يتولى القضاء أن يحيف عن الحق، أو يبتعد عن الصواب.
 
لذا فقد كان ولا زال للقضاء الروعة الأخَّاذة في الإسلام، علمًا ومكانة، وطاعة والتزامًا واحترامًا؛ لأن إجلال مكانة القضاء، وعدم المساس بهم، واحترام أحكامهم التي تتناسب وتناسب الكتاب والسنة، هي الضمان الوحيد لأمن الناس واستقرار حريتهم وسيادتهم وسعادتهم في كل نواحي الحياة؛ لأنه لا يكتفي ببيان ما للقاضي من احترام وهيبة، ولكنه يضع التقاليد النافعة والقواعد المدعمة، التي توفر للقضاء ورجاله ما يجب أن يتوافر لهم من احترام وإكبار.
 
فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري في رسالة القضاء العليا فقال: "القضاء فريضة مُحكمة، وسُنَّة مُتَّبَعَة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحقٍّ لا نفاذ له، وآسِ الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، والبينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صُلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة، فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن بيَّنَه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك، استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، فهُديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عُدول بعضهم على بعض إلا مُجَرَّبًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حدٍّ، أو ظنينًا في ولاء أو قرابة، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفَهمَ الفهم فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندك، واعرِفِ الأمثال ثم اعمد فيما ترى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب، والقلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة أو الخصوم".
 
رسـالة تمـثل نمـوذجًا مثاليًّا مـا زال العالم بأسره حتى الساعة يعتبرها أصلًا من الأصول القضائية، يسير على هداها، ويتبع توجيهاتها، كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنَوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي والقاضي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله والتفقه فيه.
 
فما كان يكتفي عمر بالقول، ولكنه سار في احترامه إلى حد التطبيق العملي، فيتقاضى ويقف أمام القضاء، ويُنفذ ما يُحكم به عليه، ضاربًا للناس أرقى الْمُثُل وأعلاها في وجوب احترامه، وتنفيذ أحكامه، فقد اختلف يومًا وهو أمير المؤمنين مع أُبي بن كعب على ملكية نخيل، يَدَّعيه أُبي ويُنكره عليه عمر فيتقاضيان، طَالَبَ القضاء أُبيَّ بن كعب بالدليل فأعوزه، فلم يبقَ إلا توجيه اليمين إلى المنكر، وفي غير تحرج وجه القاضي اليمين إلى أمير المؤمنين عمر، وشرع الله أكبر من الخليفة، والحق أجلُّ من الخلافة، وفي غير ما تردد تقدم عمر راضيًا فَأدَّى اليمين، ورُفضت الدعوى وثبتت الملكية لعمر قضاءً وواقعًا، فلما خرجا من مجلس القضاء، وهب عمر النخيل لأبي بن كعب، فقيل له: هَلا كان ذلك قبل القاضي؟ قال: لا، ولكن لأُعلم الناس كيف يحافظون على حقوقهم.
 
إن توقـير القضاء، وتوفير كل دواعي الأمن والاحترام والحرية للقاضي، لِما له من كيان مهيب ومرهوب، وهو يباشر عمله لا يخشى فيه إلا الله - لَهُوَ مظهر وضَّاء ناصع مشرق في نصاعة العقيدة الإسلامية نفسها وإشراقها وجلالها، فيجب أن يخضع للقضاء كل الناس، بدءًا من رئيس الدولة إلى أقل فرد في الرعية خضوعًا يزينه الرضا القلبي بالحكم، ويُتَوَّج بالإعجاب الواضح إذا ما أصاب، والثناء على القاضي حتى ولو صدر الحكم ضد، فقد ساوم أمير المؤمنين عمر أعرابيًّا على فرس، فركبه ليشوره، فعطب الفرس، فقال عمر: خذ فرسك، قال الرجل: لا، قال عمر: فاجعل بيني وبينك حَكَمًا، قال الرجل: القاضي شُريح، فتحاكما إليه، فلما سمعهما القاضي قال: يا أمير المؤمنين، خذ ما اشتريت، أو ردَّ كما أخذت، فقال عمر: وهل يكون القضاء إلا هكذا؟ نعم ونحن نقولها بملء فينا: وهل يكون القضاء إلا هكذا؟ لك الله يا أمير المؤمنين.
 
كان قضاة المسلمين يعرفون ما للقضاء من حرمة، وما فيه من تبعات جسام ومسؤوليات خطيرة، فأدَّوا حقه عند الفصل فيه، فكان سوار بن عبدالله إذا أراد أن يحكم، رفع رأسه إلى السماء، فتغرغر عيناه، ثم يحكم بحكم الله.
 
ومن هنا كان عمر رضي الله عنه يثور ثورة عارمة، إذا ما تم الاعتداء على رجل ذمي، ينصف غير المسلم من المسلم بحكمه إذا كان محقًّا، القوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه، والضعيف عنده قوي حتى يأخذ الحق له، والإسلام يسوي بين المسلم وغير المسلم في المعاملات الدنيوية لينظم حال الناس، أما العدالة الأخروية فأمرها موكول إلى الله، فالعدالة عنده في حكم الله سميعة بصيرة، وليست صماء عمياء كما يصورونها، إن سمعها قوي لِتَعِيَ كل ما يقال وتقدره، وهي مبصرة وبصرها قوي لترى الأثر في الأشياء، أما إذا جعلوها عاجزة عن الإنصاف، أُصيبت بعاهة العمى والصمم، لأن السمع والبصر من عناصر دقة التقدير عند التمييز بين الأشياء، وذوو العاهات قد تنقصهم الدقة عند وزن الأمور بميزان العدالة، أما السويُّ الكامل الحواس والمشاعر والجوارح، فهو أقرب إلى الدقة في كل شيء ممن فَقَدَ حاسة أو جارحة، ولكن البعض صوَّر العدالة عمياء، فاندفعنا جميعًا وراء تصويره بلا روية ولا تبصُّر، ولو كان هذا التصوير سليمًا، لَما أرسل الله تعالى كل رسله، وهم رموز العدالة وحملة مصابيح الإنصاف، ولكنه ضعف، الضعيف يحقر لديه كل ما عنده، ولو كان حسنًا، ويزين له كل ما عند الأقوياء ولو خلا من الحسن.
 
قدم عمر رضي الله عنه الشام فقام إليه رجل من أهل الكتاب قائلًا: إن رجلًا من المسلمين فعل بي ما ترى، وهو مشجوج مضروب، فغضب غضبًا شديدًا، إنه لا يرضى أن يُعتدَى على فرد من أفراد رعيته أيًّا كان دينه؛ لأن الإسلام ينهى عن ذلك، وعلى الفور نادى صهيبًا وقال: انطلق فانظر مَن صاحبه، فأتني به، فانطلق، فإذا هو عوف بن مالك، فقال له: إن أمير المؤمنين قد غضب عليك غضبًا شديدًا، فأتِ معاذ بن جبل فكلمه، فإني أخاف أن يعجل عليك، فلما قضى عمر الصلاة، قال: أجئت بالرجل، قال: نعم، فقال معاذ: إنه عوف بن مالك، فاسمع منه ولا تعجل عليه، فقال عمر: ما لك ولهذا؟ قال عوف: رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس بها لتُصْرَع، فلم تُصْرَع، فدفعها فصرعت، فغشيها وأكب عليها، فقال عمر: فلتأتني المرأة فلتصدق ما قلت، فأتاها فقال له أبوها وزوجها: ما أردت إلى هذا فضيحتنا؟ فقالت المرأة: والله لأذهبن معه، فقالا: فنحن نذهب عنكِ، فأتيا عمر فأخبراه بمثل قول عوف، فقال عمر: ما على هذا صالحناكم، وترك عوف وأوقع باليهودي عقوبة.
 
إنك ليسترعي انتباهك في القضية أن عمر القاضي العادل كاد من غضبه، لما رأى حال الذمي، أن يعجل بالعقوبة فور سماع الشكوى، إنه لم يغضب هذا الغضب الشديد إلا لأن للذميين عهدًا، هو المسؤول الأول عن الوفاء به، والذميون أقلية أخذت عهدًا إسلاميًّا أن تعيش معنا في أمان واطمئنان، فكان لزامًا أن يروا مظاهر هذا الوفاء في كل شيء، وهذا شرع المسلمين في دولتهم؛ قال تعالي: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1].
 
عدالة حاكمة في الإسلام ونبي الإسلام، يسير على نهجها الصحابة الكرام، الذين تربَّوا على منهاج الكتاب والسنة، يجد علي بن أبي طالب وهو أمير المؤمنين درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شُريح القاضي أيضًا يقاضيه، وكأن لم يكن من القضاة إلا هو، يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه، وقال: درعي فلم أبع ولم أهب، فسأل القاضي شُريح النصرانيَّ: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ قال: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شُريح إلى علي يسأله في شجاعة أدبية: هل من بينة؟ فضحك عليٌّ، وقال: ما لي بينة، فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشى، وأمير المؤمنين ينظر إليه، ثم عاد النصراني يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق، فقال علي: أما إذا أسلمت فهي لك، وشـهد النـاس هـذا الرجـل بعـد ذلك، وهـو من أصدق الجند بلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان.
 
فإن تَعْجَبْ من شجاعة القاضي الأدبية، وهو يحكم ضد أمير المؤمنين، فعجبك من شجاعة علي أمير المؤمنين إذ يرضى بالحكم أشد، وإنك لَبَيْنَ العجب من هذا وذاك، فتشتد عجبًا من شجاعة النصراني الأدبية بعدما قُضي له فيعيد الدرع إلى صاحبها، معترفًا له بأنها تخصه، فهذه القوة التي تمتعت بها مؤسسة القضاء، وهذا العدل الذي لامسه الرجل النصراني، جعله يتعجب من الحكم الذي قضى به شريح على أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين رضي الله عنه، فلما أيقن الرجل عظمة الإسلام وعدله، رجع من فوره، وأعلن انضمامه لهذا الدين العريق، وهذه الحضارة التاريخية التالدة.
 
ونتيجة للاستقلالية التي تمتعت بها مؤسسة القضاء في الخلافة العباسية، وجدنا من يقف في وجه مؤسسة الخلافة فلم يخَفْ منها، ولم تأخذه في أحكامه لومة لائم، فقد كتب أبو جعفر المنصور إلى سوار بن عبدالله قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر، فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أخرجها من يده إلا ببينة، فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنَّها إلى القائد، فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجنها من يد التاجر إلا بحق، فلما جاء الكتاب، قال المنصور: ملأتها والله عدلًا، وصار قضاتي تردني إلى الحق ردًّا.
 
ما أكـَّد ودلَّ علـى شجـاعة القضـاة الأدبية، وعدم محاباتهم لأحد على حساب أحد، فكل الناس أمامهم سواء، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، خفيرهم وأميرهم، ما جعل الخلفاء يحترمون أحكامهم وينصاعون لهم، وقد حُكِيَ أن الخليفة المهدي تقدم مع خصوم له بالبصرة إلى قاضيها عبدالله بن الحسن العنبري، فلما رأى القاضي الخليفة مقبلًا أطرق بنظره إلى الأرض، حتى جلس خصومه مجلس المتحاكمين، فلما انقضت الخصـومة، قام القاضي فوقف بين يدي الخليفة، فقال له المهدي: والله لو قمت حين دخلت عليك لعزلتك، ولو لم تقُم حين انقضى الحكم لعزلتك.
 
وفي روايـة القضيـة وفي السيـاق الكـريم شـجاعة أدبية مركبة باهرة، وصور إسلامية زاخرة، وجوانب إيمانية بها من روعة الجمال وبهائه، وبهاء الجمال وروعته في عدالة الإسلام وقضاته، والرضا بين المتقاضين، دروس تربوية فيها نفع كبير لمن أراد نُبينها فيما يلي:
• القضاء والحكم بالعدل بين الناس فريضة محكمة وسنة متبعة، لا غنى عنها بين الناس لتسيير أمورهم.
 
• على القاضي أن يجتهد في حكمه، ويدرس القضية من كل جوانبها لتكون لقضيته عدالة إنسانية واجتماعية، فيعدل في القضية بغير ما ظلم ولا جور؛ لقول عمر: "فافهم إذا أدلِيَ إليك"، وقوله: "الفهم الفهم فيما أدلي إليك".
 
• من عادة الضعيف الخوف الشديد في مجلس القضاء وغيره من مواضع النظر والتنفيذ، فعلى القاضي ألَّا يفرق بين المتخاصمين في القضية والمتحاكمين له، فلا يفرق بينهم في المعاملة، ولا في الحكم، ولا في بشاشة الوجه، فيضيع حق الضعيف، ويطمع في الحكم الرجل الشريف؛ وذلك قول عمر: "وآسِ الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك".
 
• البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، قاعدة حكمية قانونية شرعية إسلامية فقهية، ينبغي الالتجاء إليها في حال حار القاضي بين المتقاضين.
 
• طلب البينة من المدعي وسماعها، وجعل اليمين على المنكر، وهذا أصل الأصول في التقاضي؛ لأن عبء الإثبات يقع على المدعي لا على المدعى عليه؛ لأن الأصل براءة ذمة المدعى عليه قولًا واحدًا.
 
• فيه جواز الصلح بين المتقاضين قبل القضاء بالحكم والنظر فيه، وذلك فيما لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا؛ وذلك قول عمر: "والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا".
 
• سعيُ القاضي للإصلاح بين المتخاصمين قبل الحكم عند الاقتضاء، والصلح مشروع بين المتخاصمين، ويتأكَّد عند الإشكال في الحكم بسبب عدم وضوح الواقعة، أو تعارض البينات، أو كانت الخصومة بين الأقارب، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صُلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا.
 
• التمهل وسعة البال، والإنصات لكل قول فإن لصاحب الحق مقالًا، وإذا لم ينفث المتقاضين عما بداخلهم، فإن في هذا مجلبة لقصور الإحاطة بحقيقة القضية؛ لذا وجب تمكين الخصمين من الإدلاء بحجتهما، واستيفاء ما لديهما من دعوى وإجابة ودفوع وطعن في البينات؛ وذلك قوله: "ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة، فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن بيَّنَه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك، استحللت عليه القضية؛ فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعمى".
 
• فيه جواز عودة القاضي في حكمه إذا راجع نفسه في قضاء قضى به بين متقاضين، فمراجعة الحق خير من التمادي في الباطل والضلال.
 
• احتكام القاضي أولًا إلى كتاب الله، فإن لم يجد فبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالقياس باعتباره وسيلة من وسائل التشريع؛ وذلك قول عمر: "ثم قايس الأمور عندك، واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق".
 
• أهمية اعتدال حال القاضي عند نظر الخصومة، بأن يكون على حال معتدلة وحضور قلب، غيرَ منزعج بما يكدر الحال والخاطر من المؤثرات التي ترِد على البشر، وإياك والغضب، والقلق والضجر.
 
• الصبر على الخصوم، وتحمل ضجرهم وأذاهم، وعدم التأذي بهم؛ لقول عمر: "والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة أو الخصوم".
 
• شجاعة الأعرابي الأدبية الحازمة، ينكر على الخليفة قوله، ويرفض تنفيذ أمره بشجاعة أدبية يُحسد عليها بكلمة واحدة: لا، لم يقُلْها في وقاحة ولا سفاهة، ولكن في أدب الموقن بحقه، خلة خُلقية عالية يجب أن يتحلى بها كل مسلم، يؤمن أن الحق إلى جانبه، ولو كان خصمه فيها رئيس الدولة نفسه، إن مقام الحق فوق كل مقام، يُترك الأمر فيه للقضاء، يُفصل فيه بما يحقق العدل بين الناس على مختلف مستوياتهم، هذا الصنف من الرجال تقوم على نفسه الأبية عزةُ الأمم.
 
• روعة الإسلام تتجلي في موقف أمير المؤمنين مع فرد من أفراد رعيته، يخاصمه ولا يرهب في الحق سلطانه، فلم يفرض على الأعرابي رأيه، ولم يستبِحْ ماله بأي حجة من الحجج، وما أكثرها لمن يريد! الخليفة هو الذي يدعو إلى التقاضي غير مستبد برأيه، ففي الدولة قضاء، ومرد الفصل في الخصومات والحقوق إلى القضاء، لا إلى السلطة التنفيذية، وشتان الفرق ما بين فرد يعتد بنزاهة القضاء، وبين حاكم يجعل الفصل في أمره إلى القضاء.
 
• الشجاعة الأدبية للقاضي شُريح، واللباقة والكياسة الإسلامية عند الفصل في الخصومة بين الناس، يصدر القاضي حكمه في لباقة تُطَمْئِن صاحب الحق، وتُريح صدر من حُكم عليه، وقد خيَّر القاضي الخليفة بين أمرين، كلاهما حكم فاصل عادل، والقاضي في حقيقة عمله ليس بآلة صماء، يطبق قانونًا، ويصدر أحكامًا، إنه مصلح اجتماعي، أكبر واجباته أن ينصرف المتقاضون من مجلسه وقد طابت نفوسهم، لا يحقد أحد على أحد؛ لأن الحكم مظهر من مظاهر العدالة، لا حقيقة من حقائقها، والقاضي بشر قد يخطئ وقد يصيب، والحق لا يعلمه إلا الله وحده.
 
• شجاعة الخليفة الأدبية في التقبل الكريم، مع الإعجاب الصادق بالحكم والثناء عليه، وبهذا يطمئن القاضي وهو يؤدي رسالته الربانية؛ لأن احترامه منبعث من تحرِّيه الحق والحكم بالعدل، ولو كان المدان صاحب نفوذ وسلطان، فالسلطان زائل مع الأيام، والعدل باقٍ على الأيام، وكم حدثنا التاريخ عن القاضي الظالم فلُعن، ولطالما حدثنا عن القضاء العادل ففاز بالحمد والشُّكران.
 
• في الإحساس أن عمر رضي الله عنه كان يعرف وجه الفصل في الدعوى، عندما دعا الرجل إلى التقاضي، خاصة وقد كان قاضي المدينة في أوائل خلافة أبي بكر، ولكنه كمربٍّ حرص على أن يربي الناس هذه التربية العملية القويمة؛ لذا عقب على الحكم قائلًا: وهل يكون القضاء إلا هكذا؟ سؤال في صيغة الإعجاب، لا في صيغة الاستفهام.
 
• أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقاضي رجلًا في درع يظن أنه يخصه وهذا حقه، ويقول للقاضي: درعي فلم أبع ولم أهب.
 
• جواز الهبة في شرع الإسلام، وهي عَقْدٌ موضوعه تمليك الإنسان ماله لغيره في الحياة بلا عوض، ويشترط لها واهبًا وموهوبًا له وموهوبًا، إذ إنها مما تتآلف به النفوس، وتوثق عرى المحبة بين الناس؛ وذلك قول علي بن أبي طالب: ولم أهب، وقوله أيضًا: أما إذا أسلمت فهي لك.
 
• يدافع النصراني عن نفسه تهمةَ الحيف والسرقة، ومبرِّئًا الأمير من الكذب، في تجمل ظريف منه للأمير، وهذا خلق حميد.
 
• يطلب القاضي من الأمير فـي شجاعة أدبية أن يأتي ببينة على صدق كلامه، فالبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، وهذا حق القاضي.
 
• يضحك الأمير من عدالة قضاته في الإسلام، فلا يملك إلا التسليم بالحكم، ويقول: ما لي من بينة، ويُقضي بالدرع للنصراني.
 
• أمير المؤمنين يتناظر إلى مغتصب درعه، فينظر إليه بعد الحكم في شجاعة أدبية فلا يعترض طريقه، وذاك من سماحة الإسلام.
 
• يؤوب النصراني إلى رشده لِمَا وجده من عدالة الحكم، ويشهد أن هذه من أحكام الأنبياء، فيمتلك الشجاعة الأدبية فيقر ويعترف بالإسلام، وبأن الدرع درع الأمير.
 
• يطيب الأمير صدرًا بإسلام الرجل فيكافئه بإعطائه درعه، في سماحة قلب ورجاحة عقل خلابة؛ إذ بإسلامه تذوب الفوارق بين الطبقات، وتصير أُخُوَّة الإيمان أقرب في المعاملة من علاقة الأمير بالرعية.
 
• يطيب صدر الرجل من عدالة الإسلام، ومن سماحة المعاملة، فيصدق إيمانه، فيُبلي في الإسلام بلاءً حسنًا يوم النهروان.
 
المراجع:
♦ أ.د.
هاني الشتلة، الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة النبوية، الطبعة الثالثة، مطبعة الشروق، المنوفية، جمهورية مصر العربية، 2022.



[1] رواه بريدة بن الحصيب الأسلمي، المحدث الألباني، المصدر: صحيح ابن ماجه، رقم 1887، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير