أرشيف المقالات

لمثل هذا فأعدوا

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2لمثل هذا فأعدُّوا
حين تشرَبُ الحُزْنَ حتى تثمَلَ، وحين تأكُلُ الوجَعَ حتى تشبَعَ، وحين تُثقِلُكَ الهمومُ وتُشقيكَ الغُمومُ، ويُرهِقُكَ حُطامُ الحياة، وتجد قلبَكَ من شدَّة الإعياء تتعثَّر خُطاهُ، حين تشكُو الغُرْبةَ والوَحْدة، والهجر والوَحْشة، وحين تُعاني من غَدْر الأصدقاء، وتكالُب الأعداء، وتفشِّي الدَّاء، وتتقرَّح عيناكَ من شِدَّة البُكاء، فاحجز مقعدَكَ هنا، واجلِسْ في أوَّل الصفوف، تأمَّلْ ما خلف السطور، واستشعرها بعُمْق، وحرِّر دموعَكَ السجينة، وأطلِق لرُوحِكَ وخيالِكَ العِنان، فقد سُطِّرت لَكَ خصوصًا هذه الأحرف في محاولة لإخراجِكَ من هذا اليَمِّ السحيق الذي كاد قلبُكَ يغرِق فيه، تعالَ هنا أحدِّثكَ حديثًا مشوِّقًا عن شيء ترتاح له نفسُكَ، وتهتزُّ له أوْتارُكَ، وتهفُو إليه رُوحُكَ، ويصبُو لذِكْرِه فؤادُكَ، وتدمَعُ شَوْقًا له عيناكَ، إنها قطراتٌ تُبلسِم جبينَكَ وتُسكِن رُوْعَكَ، فدَعْ كلماتي تنساب رويدًا رويدًا في أعماق نفسِكَ المرهقة حين تُحاصِرها قيودُ الأسْرِ واليأسِ، فتمتلئ بأشعَّة الأمل المنيرة.   دعني أصِف لكَ مَنْبِتَ الأشوق في بَيْداء الضياع؛ "قال تعالى: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 31]، وعن النعمان بن سعد قال: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾ [مريم: 85]؛ قال: "والله لا يحشر الوفد على أرجلهم؛ ولكن يؤتون بنُوقٍ لم تَرَ الخلائقُ مثلَها، عليها رِحالُ الذهب، وأزِمَّتُها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا باب الجنة".   وحين تتحدَّث معه زوجُه بصوت شجيٍّ عَذْب؛ فلا يدري أإنسانٌ يتكلَّم أم الوجود كلُّه يعزف نشيدًا، فكأنها الشمس باسمة عند الشروق؟! وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة شجرةً يسير الراكبُ في ظِلِّها مائةَ عامٍ لا يَقْطَعُها))، اقرأوا إن شئتم: ﴿ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ﴾ [الواقعة: 30]))؛ [متفق عليه]، وقال: ((ما في الجنة شجرةٌ إلَّا وساقُها من ذَهَبٍ))؛ [أبو يعلى وابن حبان].   أرض الجنة ورِق (فضة) وترابُها مِسْكٌ، وأصُولُ أشجارِها ذَهَبٌ وورِق، وأفنانُها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والورق والثمر تحت ذلك ﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ﴾ [الإنسان: 14].   وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنك لتنظر إلى الطَّير في الجنة، فتَشتهيه فيخرُّ بين يديكَ مشويًّا))؛ [رواه البزار]، وقال تعالى: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الزخرف: 71]، وقال عن ربِّه عز وجل: ((أعدَّدْتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأَتْ ولا أُذُن سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلب بَشَر))؛ [متفق عليه].   قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [محمد: 15]؛ قال الأعمش: "أظنُّكم تظنُّون أن أنهار الجنة أخدودٌ في الأرض، لا والله إنها لسائحةٌ على وجه الأرض، إحدى حافَتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقُوت، وطينُها المسْكُ الأذفر".   إن هذا يا سيدي ليس خبطًا في أودية من الظُّنُون والخيالات الوهميَّة التي لا تستند إلى دليل؛ بل هي حقيقة، لكنها أكبرُ من كل خيال، فالعقل البشري قاصِرٌ عن إدراكِ الحقائق التي تفوقُ تخيُّلاتِه، إنها جنة الخلد وجنة المأوى، فولِّ وجْهَكَ شَطْرَ حُسْنِها.   إنها رمز البقاء، والراحة والهناء، سُكَّانُها هم الفائزون، هم الناعمون فلا يَيْئَسُون، وهم المخلَّدون فلا يفنون، وهم السعداء فلا يهتمُّون.   كل هذا النعيم، ولا يبخل عنهم ربُّهم بالزيادة ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وهي النظر إلى وجهه الكريم حين يلقاهم في جنة رضوانه، وهم على أسِرَّةٍ من الذهب والفضة والمسْكِ؛ فيا لروعة الزمان والمكان والمناسبة واللقاء! والله إن كل نعيم دونها ليس بنعيمٍ، وكل عذاب دونها يهُون، ولمثل هذا فليعمل العاملون.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١