أرشيف المقالات

قبل الرحيل للذكرى فقط

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2قبل الرحيل للذكرى فقط
 
منشغل بالرحيل والسفر من الدنيا إلى الدنيا، وقبل الرحيل كم هو القلق الذي ينتابني في الإعداد له..
أشياء كثيرة تتضارب في رأسي ولا تلبث أن تنحسر..
تأتي وتذهب..
ما أقصر فترةَ ما قبيل الرحيل، حتى وإن كانت طويلة تتراءى لي قصيرة، وعلينا أن نستغلَّ كل ثانية فيها؛ لنواكب الإعداد لما نريد..
نريد أن نشتري من هذا وذاك، نشتري من بضاعة الدنيا الفانية..
وكيف لا..
والشوق إلى السفر يشدني شدًّا..
فهذا هو رحيل من الدنيا إلى الدنيا..
رحيل أنت مَن يحدد زمانه ومكانه..
وأنت مَن يختار وسيلة الركوب طبقًا لإمكانياتك..
رحيل قد لا تثقل على نفسك فيه؛ لأن الزيادة فيه هنا تعني الخسارة، سواء بإنفاق المال على الأشياء الفانية أو أنك تعرف أن أي زياد في الوزن ستضطر تدفع قيمة الزيادة في موانئ الدنيا، فالزيادة قد تكون وبالاً عليك، وقد تكون سببًا في تأخيرك في دنيا لا تعرف إلا مصالحها، قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، أما في الأخرى، فالأفضلية لمن ثَقُلت موازينه فهم المفلحون، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 102، 103]، والعكس صحيح في الدنيا، زيادة الحِمل تُنهِك المرء ماليًّا وصحيًّا، وللأسف نُكثِر من زاد الدنيا، بالرغم أن الأَوْلى هو التخفيف، حتى في زاد المَعِدة، ولكن نصرُّ على الإكثار منها في الدنيا بالرغم من ضررها، ونتغافل عن زيادة الزاد للآخرة بالرغم من أهميتها لنجاتنا يوم القيامة..
 
وبينما أنا كذلك في وسط الإعداد لهذا السفر..
سفر من الدنيا إلى الدنيا..
تذكرت السفر إلى الآخرة والرحيل عن الدنيا..
وكيف أن بضاعة الله معروضة علينا، ونحن نتجه في الاتجاه المعاكس منها..
يريد أن يقرضنا قرضًا حسنًا ونحن نبحث عند مَن يأبى أن يقرضنا..
﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17].
 
وأما زاد الآخرة كلما زاد الزاد سهَّل لك العبور على الصراط، فكل على حسب زاده وتزوُّده، فمنهم مَن يمر يمشي على الصراط، ومنهم يجري، ومنهم مَن يحبو ومنهم مَن يتعثَّر تارة ويقف تارة، ومنهم مَن يمر كالبرق على الصراط، فاختر لنفسك أي عبور تريد، واختر لنفسك الطريقة التي ترغب باتخاذها..
فاليوم ما زال القرار بيدك، وغدًا لن يكون لك الخيار..
﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ* نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 - 11].
 
فاختَر لنفسك طريقة إما أن تحملك إلى العِيشَة الراضية في الجنة، وإما أن تدفعك إلى الهاوية.
 
بأي جواز سوف نمر؟! وعبر أي ميناء سنخرجُ من هذه الدنيا؟! وأي كفيل يرضى أن يتحمَّل عنك أوزارك..
أو يترافع عنك أمام رب العالمين؟! ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ﴾ [النحل: 111].
 
تذكرت الرحيل إلى الله..
الرحيل إلى الآخرة..
وقلتُ في نفسي: إذا كان رحيل الدنيا قد شغلني وأنهك عقلي بالتفكير والتدبير والتأويل، لعل هذا الشيء قد يكون أجدى وربما ذاك وربما..
وربما..
فأين أنا من رحيل الآخرة؟..
ذلك الرحيل الذي لن أختار زمانه ولا مكانه، ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ [لقمان: 34].
 
الرحيل الذي لن آخذ معه إلا عملي الذي عملتُه في الدنيا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
 
شتان ما بين الرحيلين: رحيل من الدنيا وإلى الدنيا..
ورحيل من الدنيا إلى الآخرة..
رحيل من الدنيا إلى الدنيا قد يعذره الأصحاب والأحباب في حال التقصير، ورحيل إلى الآخرة لن يشفع لك شيء إلا عملك، حتى أقرب الناس إليك لا يريد أن يراك يوم القيامة إذا ساء عملك بعكس رحيل الدنيا الذي ينتظرك فيه جميع الأحباب.
 
أما الرحيل إلى الآخرة فالكلُّ يحاول الهروب والابتعاد عنك؛ حتى لا تحمله وزرك، قال - تعالى -: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37]، فرحيل الدنيا قد يحتاج إلى أيام للإعداد له، ورحيل الآخرة يحتاج العمر كله وهو أشد وطئًا على النفس من الرحيل من الدنيا إلى الدنيا، وزاده يطول الإعداد له، وزاده هو زاد التقوى.
 
وإياك أن تتوهَّم أن الأعمال هي ما سيشفع، وهي أعمال قد يشوبها الرياء والنفاق..
يشوبها سوء التعامل مع الآخرين، فالله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيِّبًا، ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]، وفي الحديث: ((مَن عَمِل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركه))، ذلك العمل الذي لم يُقصَد به إلا وجه الله، وإياك أن تكون في هذا اليوم مفلسًا، ولا أعني إفلاسك من الدينار والدرهم، بل إفلاسك من الأعمال الصالحة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتدرون ما المفلس؟))، قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة،ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيت حسناته قبل أن يَقضِي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).
 
اسأل نفسك: ماذا أعددتَ لهذا الرحيل الذي لا تملك أن تقدمه أو تؤخره..
لا تملك زمانه ومكانه، ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الأعراف: 34 - 36]؛ فرحيل الدنيا، المال كفيل بحل مشاكله، ويكون عونًا لنا في السفر.
 
أما زاد الآخرة، فلن تغنِيَ عنكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئًا، وبقدر مشقة السفر يكون إعداد الزاد، فسفر الآخرة سفر طويل، والعقبة كؤود، والراحلة كليلة، ونهايته إما سعادة أبدية، أو شقاء أبدي، فمَن منَّا أعدَّ الزاد لذاك اليوم..
اليوم الذي يقول الله فيه: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101].
 
فأين أنت من هذا الرحيل..
فرحيل الدنيا يمثل الاشتياق إلى الأحباب واشتياق الأحباب لنا..
أما شوق الآخرة فلن يكون إلا بإعداد زاد التقوى، وكلما كان الإنسان مستعدًّا لهذا السفر كان أشد شوقًا للُقْيا ربه، وأما إذا لم يعدَّ الزاد فذلك اليوم سيكون يوم الحسرة والندامة، ويصرخ الإنسان بأعلى صوته: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، وهيهات هيهات، ويأتيك الجواب: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100].
 
فيا مَن أضاع عمره في إعداد الزاد للدنيا الزائلة، ونسي الإعداد للآخرة الباقية، فرحيل الدنيا ممكن أن يؤجل طبقًا للظروف، أما رحيل الآخرة، فليس فيه تأجيل للسفر..
وليس فيه شركات ركوب مختلفة..
الكل يركب على النعش..
الكل يكفَّن بالأبيض ليستر عورته..
ولا يهم إن كانت هذه القطعة البيضاء من القماش غالية أو رخيصة، فهي ستكون مرتعًا للديدان..
النزول لكل الركاب في محطة واحدة، وهي المحطة الأخيرة وهي القبر، وقد يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران..
ولن يقبل من فيه الرشوة أو الأعذار..
فيها ملائكة يكفي أن ترى وجوههم فهي كفيلة بتساقط لحم وجهك..
 
الرحيل إلى الدنيا قد يقبل الأحباب فيه الأعذار، وقد تلقى مَن يُعِينك على التزود فيه، ورحيل الآخرة لا عذر لك إن لم تعدَّ الزاد لنفسك..
ولن تلقى أحدًا يتنازل لك عن زاده، حتى أقرب الناس إليك (أبوك، وأمك، وأخوك، وزوجك)، بل سيكون الرحيل إلى الآخرة فجأة فلن تنفعك الأماني، وإنما هي جنة أو نار، فأحسن التزود قبل فوات الأوان، والعاقل مَن اتعظ بموت غيره ورحيله من هذه الفانية إلى الحياة الباقية، فإما نعيم سرمدي وإما جحيم سرمدي..
ولا ينتظر أن يأتي الدور عليه، فيقول: ﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [الفجر: 24 - 26].
 
نسأل الله أن نكون ممَّن يتذكرون ذلك الرحيل، ويحسنون الإعداد له، وأن يجعلنا من أهل جنته، والله أعلم.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن