أرشيف المقالات

اسم الله: الكريم

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2اسم الله: الكريم
اسمٌ جليلٌ، يُدخِل البهجة على قلوب عباد الله المؤمنين الذين عرفوا قيمة أسماء الله التي تدلُّ على الترغيب، فأحسُّوا فَضْلَها، وأحبُّوا من ربِّهم أن يُرى عليهم حلاها.
علموا أن عطاء الله تعالى لا تحدُّه حدودٌ، فطفقوا ينفقون يمينًا وشمالًا، وأن نِعَمَ الله لا تُقيِّدها قيودٌ، فراحوا يشكرون المنعِمَ بالإحسان إجلالًا، وأن كرم الله تعالى فيُّوض وممدود، فمدُّوا أيديهم بالعطاء سخاء أرسالًا.
يعطي سبحانه بلا سؤال، وهو الكبير المتعال، ويعفو عن المذنب الخطَّاء، وهو ذو العزة والجلال، يُجازي بالفضل، ويُحاسِب بالعَدْل، ويُقابِل اللاهي المقصِّر بالبَذْل، إمهالًا لا إهمالًا. وهـو الحميدُ، هو المجيدُ الوليُّ، وهو الكريمُ، وكمْ يفيضُ نداهُ!
إنه اسم الله "الكريم"، عظمت نِعَمُه، وكثُرت خيراتُه، ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34]، سبحانه لا نُحصي ثناء عليه، فما أكرمَه! وما أرحمَه!
والكَرَم صفةٌ تدلُّ على شرف في الشيء في نفسه، أو في خُلُقه، فيقال: رجل كريم، وفرس كريم، وسحاب كريم؛ قال تعالى في قصة سليمان عليه السلام: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 29]؛ أي: كتاب جليل عظيم.
والكرم أيضًا: الصفح عن الذنب؛ قال ابن قتيبة: "الكريم: الصَّفوح، والله تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده".
والكرم: السخاء بالعطاء؛ قال ابن مسكويه: "أما الكرم، فهو إنفاق المال الكثير بسهولة من النفس في الأمور الجليلة القَدْر، الكثيرة النفع"، وقال الغزالي: "وأما الكرم، فالتبرُّع بالمعروف قبل السؤال، والإطعام في المَحْل (القحط والجوع)، والرأفة بالسائل، مع بذل النائل"، ويقال للكريم: كُرَام، فإذا أفرط في الكرم سمي كُرَّامًا، ويُشترَط أن يكون هذا العطاء خالصًا لله، لا يُرْجى من ورائه مصلحة شخصية، ولا منفعة ذاتية؛ قال الجرجاني: "الكرم: هو إفادة ما ينبغي لا لغرضٍ، فمَنْ يَهَبِ المالَ لعِوَضٍ، جلبًا للنَّفْع، أو خلاصًا من الذمِّ، فليس بكريم، فالكريمُ مَنْ يُوصِل النَّفْعَ بلا عِوَضٍ".
أما الكريم اسمًا لله تعالى فقد عرَّفَه الغزالي تعريفًا جامِعًا، فقال: "الكريم: هو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على مُنتهى الرجاء، ولا يُبالي كم أعطى، ولمن أعطى، وإن رُفِعَت حاجةٌ إلى غيره لا يرضى، وإذا جُفِيَ عاتبَ وما استقصى، ولا يضيع مَنْ لاذَ به والتجأ، ويُغنيه عن الوسائل والشفعاء.
فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلُّف، فهو الكريم المطلق، وذلك لله سبحانه وتعالى فقط".
وقد ورد اسم الله "الكريم" في القرآن الكريم ثلاث مرات في قوله تعالى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116]، وفي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار: 6]، وفي قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]، كما ورد اسمُه "الأكرم" مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 3]، وهو من أوائل ما نزل من القرآن، كأن الله تعالى يُعَرِّف نفسَه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بصفة عظيمة، كانت عند العرب من أعظم الصفات، وهي صفة الكرم؛ وإنما قال: (الْأَكْرَمُ)؛ لأنه عز وجل أكرمُ من كل كريم؛ بل أكرم مما يمكن أن يتخيَّلَه الكريم.
وَوَصَفَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بالجُود والكرم، وبيَّن أنه سبحانه يحب من عباده مَنْ كان مُتَّصِفًا بهما؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ كريمٌ يُحِبُّ الكُرَماءَ، جوادٌ يُحِبُّ الجَودةَ، يُحبُّ معاليَ الأخْلاقِ، ويكرَهُ سَفْسافَها))؛ صحيح الجامع.
فالله تعالى أكرمَ أولياءَه بأن حبَّبَ إليهم الإيمان، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان؛ فقال عز وجل بعد إثبات هذا التفضُّل: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7، 8]، فأعطاهم سبحانه، ثم أثنى عليهم.
وكذلك يُخبِرنا الله تعالى عن سيدنا أيوب؛ رزقه الصبر، ثم أثنى عليه بأنه صابر؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
والله تعالى يعطي قبل السؤال، ويغدق في النوال؛ قال تعالى: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34].
والله تعالى يستحيي أن يخيب رجاء مَنْ رفع إليه يديه سائلًا متوسِّلًا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ))؛ سنن الترمذي.
ومن كرمه سبحانه، أنه يقرر المذنب يوم القيامة بذنوبه ومعاصيه، فيستره ولا يفضحه؛ بل يغفرها له، ويُفاجئه بدخول الجنة؛ روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ (ستره ورحمته) عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، أَعْرِفُ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ أَوْ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ، فَيُنَادَى عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18])).
فانظر إلى عظيم كرم الله لعبده، الذي يخاف ذنوبه، ويرجو رحمة ربه، فإنه سبحانه يرحمه، ويستره، ويتجاوز عنه بخلاف الناس، يفضحون ولا يسترون، ويُشَهرون ولا يغفرون، ويُعَيرون ولا يتجاوزون، إلا مَنْ رحم الله.

يقول ميمون بن مهران رحمه الله: "مَنْ أَسَاءَ سِرًّا، فَلْيَتُبْ سِرًّا، وَمَنْ أَسَاءَ عَلانِيَةً، فَلْيَتُبْ عَلانِيَةً، فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُونَ وَلا يَغْفِرُونَ، وَالله يَغْفِرُ وَلا يُعَيِّرُ". وإذا الكريمُ جزى وكان رقيبَنا ومجيَبنا فانعَمْ بما أَعْطَاه فاللهُ وهَّابُ العطايا واسعٌ وَهوَ الحكيمُ قضاؤُه نَرضاه
ومن كرم الله تعالى أنه يصبر على العصاة الذين يقابلونه بالجحود والنكران، ويؤذونه بالتهم والبُهْتان؛ قال النبيصلى الله عليه وسلم: ((مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ الله، يَدْعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ))؛ متفق عليه.
ومن كرمه سبحانه أنه يضاعف أجر الإحسان، فيعطي على الحسنة أضعافًا، ولا يُجازي السيئة إلا بمثلها بعد فعلها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ، فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا، فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا، فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا))؛ مسلم.
ومن كرمه سبحانه أنه يخرج من النار مَنِ استحقَّ النار بكثرة معاصيه، ويُلحِقه بأهل الجنة؛ روى مسلم عن أبي ذَرٍّ الغِفَارِي رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْها: رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَليهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وارْفَعُوا عَنْه كِبارَهَا، فَتُعْرَضُ عَليهِ صِغَارُ ذُنُوبِه، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، كَذَا وكَذَا، وعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، كَذَا وكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وهو مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَليه، فَيُقَالُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لا أَرَاها هَا هُنا))، قال أبو ذرٍّ: "فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللِه صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ".
فلنتحلَّ بصفة يحبُّ ربُّنا عز وجل أن يرى أثَرَها علينا؛ قال ابن القيم رحمه الله: "ومَنْ وافق الله في صفة من صفاته، قادَتْه تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربِّه...
وصيَّرَتْه محبوبًا له، فإنه سبحانه رحيمٌ يحبُّ الرحماء، كريمٌ يحبُّ الكرماء، عليمٌ يحبُّ العلماء".
يا مالكَ الملكِ الكريمَ وذا الجلا لِ وصاحبَ الإكرامِ ما أَبهاه احكمْ لنا بالقسطِ إنكَ مقسطٌ يا جامعَ الأبرارِ تَحتَ لِواه أنتَ الغنيُّ وأنتَ مُغني مَنْ تشا وأتى الفقيرُ إليْكَ هلْ تنساه؟



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير