أرشيف المقالات

بين يدي الحكمة

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
بين يدي الحكمة

الحكمة منَّة وهِبة من الله تعالى لمن يشاء من عباده؛ قال تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]، والحكمة من المفاهيم العميقة...
متعددة الجوانب[1].
 
وقد ورَد ذكرُ الحكمة في القرآن الكريم في مواضع مقرونة ومتوسطة لأمور أخرى؛ كالكتاب، والمُلك، والعلم، وفصل الخطاب، ووردت مفردة في مواضع أخرى؛ ولهذا فسوف أوجِّه بحثي عن الحكمة من خلال تلك المواضع، خصوصًا التي جاء فيها ذكر الحكمة منفردة؛ ولأن عطف الحكمة على غيرها يدل على أن الحكمة شيء منفرد ومغاير، ولها معنى أو مفهوم خاص، لكني أذكر بعض أقوال العلماء في الحكمة، فقد ذكر الرازي - رحمه الله - تفسيرًا للحكمة في القرآن، وهي على أربعة أوجه:
أحدها: مواعظ القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231].
 
ثانيًا: الحكمة بمعنى الفهم والعلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12].
 
ثالثها: النبوة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 20].
 
رابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار؛ ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
 
وقال: المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب، وإن المقصود بالعلم الحكمة النظرية، وإن فعل الصواب الحكمة العملية[2].
 
قلت: ما ذكره الرازي - رحمه الله - من ذكر الحكمة وأنها تعني القرآن، لا أراه موافقًا لِمَا ذكر من عطف الحكمة على القرآن (الكتاب)؛ ولهذا نجد أن صاحب كتاب "حكمة الدعوة" يذكر أن مفهوم الحكمة يرتبط بأربعة جوانب:
الجانب الأول: (أن الحكمة هي معرفة القرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومُقدَّمه ومُؤخَّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله...)، وجاء ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 269]؛ ابن كثير عن ابن عباس[3]، فمفهوم الحكمة منبثق عن أصل الشرع، وأنها تعني إصابةَ الحق، والالتزام به، ومعرفته.
 
الجانب الثاني: أن الحكمة إيتاءٌ من الله تعالى لمن يشاء من عباده كما جاء في الآية السابقة.
 
الجانب الثالث: أن الحكمة هي العدل في القضاء، والحكمة التجرِبة.
 
جاء في أساس البلاغة للزمخشري[4]: رجل محكم: مجرب، منسوب إلى الحكمة، وحاكمته إلى القاضي: رافعته، وأحكمَتْه التجارِبُ: جعلَتْه حكيمًا.
 
الجانب الرابع: وفيه جاء قوله تعالى: ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾ [القمر: 5]، وبالغة تعني أنها تبلغ منتهاها وغايتَها، وهنا ارتباطٌ بين مفهوم الحكمة ومعنى الغاية[5].
 
وما ذكر في هذه الجوانب الأربعة لم يدخل في تعريفاته أن الحكمة هي القرآن، كذلك فإن الحكمة شيء، والعلم شيء آخر، بل إن الحكمة شيء أعلى من العلم؛ لتقدُّمها في الذكر، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151].
 
ومن هنا أقول:
إن تحصيل الحكمة منبثق عن علم الكتاب؛ ولهذا قيل: إن وسائل تحصيل الحكمة تختلف عن وسائل تحصيل العلم.
 
يقول ذو النون المصري:
اليقين داعٍ إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب[6]؛ ولهذا فإن الحكمة لا يمكن تحصيلها بالطرق العادية، ولكن بتصفية النفس، وتطهير القلب، ورعاية ظاهر العلم حق رعايته، فالعلم - أي: علم الظاهر - يُدرَك بالتعلم، أما الحكمة، فلا تدرك بالتعلم؛ لأنها من المنة، فمَن أراد أن يمن الله عليه طهر مكانه، ثم من بعد ذلك تضرع إلى الله، وترغب بحقيقة الرغبة، أو ظاهر العلم، فهو العلم بأمر الله، وهو بيان الشريعة للحلال والحرام مما هو فرض على ظاهر بدن الإنسان، أما الباطن؛ أي: باطن العلم، فهو للعلماء بالله وتدبير الله، وهو طريق الإخلاص مما هو فرض على الباطن[7].
 
قلت: وقوله (أما الحكمة، فلا تدرك بالتعلم)، ففيه نظر، ويحتاج إلى بيان:
أما النظر، فهو نص الآية التي بين أيدينا؛ حيث قال تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...
[البقرة: 151]؛ أي: يعلمكم الكتاب ويعلمكم الحكمة.
 
أما البيان، فهو أن تحصيل الحكمة يكون بعد علم الكتاب والالتزام به بالممارسة العملية؛ من حيث رياضة النفس والقلب، وإعمال الفكر، والتدبر، مع قصر الأمل، والزهد، وتزكية الروح، فعند ذلك تنال الحكمة، أو تؤتى بفضلٍ من الله تعالى وتفضُّل منه، وقد أكَّده الرازي - رحمه الله - حين تكلَّم عن الحكمة النظرية، والحكمة العملية، فيقول:
"وكمال الإنسان في شيئين:
أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول إلى العلم والإدراك المطابق.
 
وبالثاني إلى فعل العدل والصواب...، حُكِي عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قوله: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا ﴾ [الشعراء: 83]، وهو الحكمة النظرية، ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [الشعراء: 83]، الحكمة العملية.
 
وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، وهو الحكمة النظرية، ثم قال: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19]، وهو الحكمة العملية.
 
وقال في جميع الأنبياء: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ﴾ [النحل: 2]، وهو الحكمة النظرية، ثم قال: ﴿ فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2]، وهو الحكمة العملية"[8].
 
إشارة لطيفة:
قوله تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151].
 
هذه الآية الكريمة تتجلَّى فيها أسرار الترتيب والتدرج والترقي، كما يتجلى فيها الإعجاز البياني، وبيان ذلك ما يلي:
1- جاء ذكر التلاوة ثم التزكية ثم العلم، فتلاوة القرآن خصوصًا إذا كانت بتدبُّر واستحضار قلبٍ، فإنها تثمر التزكية؛ أي: تزكية النفس، ونقاء القلب، وسلامته من الزيغ والانحراف، وهذا لا بد أن يسبق العلم، فإذا أخذ العلم بعد التزكية كان نافعًا، أما إذا كان العلم بلا تزكية، كان وبالاً على صاحبه وعلى الناس، فكان هذا النسق العجيب في الآية الكريمة.
 
2- جاء ذكر الكتاب ثم الحكمة ثم العلم، ونتأمَّل هذا البناء اللفظي للآية؛ حيث جاء مرتبًا متدرجًا؛ ذكر الكتاب أولاً؛ لشرفه وعلوِّ قدره وشأنه؛ لأنه كلام الله تعالى، لا يعلوه ولا يدانيه كلامٌ، وهو ينبوع الحكمة وبحر العلوم، ثم جاء ذكر الحكمة، ثم ذكر العلم بعد الحكمة؛ لأن الحكمة أعلى مرتبةً من العلم.
 
3- ثم إن مراتب العلم في الآية الكريمة جاءت كذلك على نسق جميل وترقٍّ في غاية الروعة والبهاء:
فالمرتبة الأولى: هي علم الكتاب؛ أي: علم الحلال والحرام، أو علم الأمر والنهي، وهو علم ظاهر الشريعة، وهو عامٌّ بين المسلمين.
 
المرتبة الثانية: علم الحكمة بإطلاق، أو الحكمة الظاهرة، وهي ثمرة علم الكتاب وفهمه والعمل به.
 
المرتبة الثالثة: علم المعرفة، أو الحكمة الباطنة، وهي حكمة الحكمة، والحكمة البالغة، والحكمة العليا، وهي أعلى المراتب، وهي ما اختص الأولياء، كل على حسب مقامه وطبقته[9].
 
• تتابع ذكر النعم:
فأولها: إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وثانيًا: أنه منا.
وثالثها: تلاوته علينا.
ورابعها: تزكيته لنا.
وخامسها: تعليمه لنا.
 
ومما سبق أستطيع القول: إن كلَّ حكيم عالِمٌ، وليس كل عالم حكيمًا، فالعلم مرتبة أقل من الحكمة، والعالِم قد يصل إلى مرتبة الحكمة وقد لا يصل، وقد يُؤتَى الحكمة وقد لا يؤتى، وقد قصدت بالعلم هنا علم الظاهر.
 
وبعد، فما الحكمة؟
سنتعرف على الحكمة من خلال نصين في القرآن جاء فيهما ذكر الحكمة منفردة:
النص الأول: في سورة الإسراء من قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23] إلى قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴾ [الإسراء: 39].
 
فقوله تعالى: ﴿ وَقَضَى ﴾، يقول الرازي: القضاء معناه: الحكم الجزم البتُّ الذي لا يقبل النسخ[10].
 
وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارةٌ إلى كل ما تقدَّم ذكره من التكاليف، وسماها حكمة، وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه:
أحدها: أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات، والإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة.
 
ثانيًا: أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات (وهي خمسة وعشرون نوعًا من التكاليف، بعضها أوامر، وبعضها نواهٍ، وجعل فاتحتها، قوله تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾ [الإسراء: 22]) شرائع واجبةُ الرعاية في جميع الأديان والمِلَل، ولا تقبَل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحكمة من هذا الاعتبار.
 
ثالثها: أن الحكمة عبارةٌ عن معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول، وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات؛ حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها.
 
فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة[11].
 
قلت: وإذا كانت الحكمة تعني الإصابة، وتعني وضع الشيء في موضعِه، وتعني موافقة العمل بالعلم، فإن الإصابة هي توحيد الله تعالى؛ لأنه أهلٌ سبحانه أن يُعبَد، فلا معبودَ بحق سواه، والإخلاص لله - عز وجل - في القول والعمل.
 
وإن وضع الشيء في موضعه يعني إعطاءَ كلِّ ذي حق حقَّه، فالله وحده هو الأحق بالطاعة وبالإيمان به، والإسلام له، والتوكل عليه، والخوف منه، والرجاء فيه، والدعاء له، والإنابة إليه، وإن موافقة العمل بالعلم هو شكر الله - عز وجل - وهو الحكمة، وهو المعنى الذي جاء في النص الثاني كما سأبينه، وأنا أبحث عن معنى الحكمة من خلال ما جاء في سورة لقمان؛ حيث ذُكرت الحكمة منفردة: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾ [لقمان: 12].
 
قال الرازي - رحمه الله - في تفسير الآية: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾: عبارة عن توفيق العمل بالعلم، فكل مَن أوتي توفيق العمل بالعلم، فقد أوتي الحكمة، و(أن) في الآية تُسمَّى المُفسِّرة، ففسَّر الله إيتاء الحكمة بقوله: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾، وهو كذلك؛ لأن من جملة ما يقال: إن العمل موافق للعلم؛ لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بالأهم، كان عمله موافقًا لعلمه، وكان حكمة، وإن أهمل الأهم، كان مخالفًا للعلم، ولم يكن من الحكمة في شيء، لكن شكر الله أهم الأشياء...)[12].
 
ولعلي قد اقتربت بعون الله من النتيجة الحتمية، والغاية المرجوة، وهي معنى الحكمة، وأنها قاضية بالتدرج، وأن التدرج من الحكمة، وقد تجلى في البَدْء بالأهم، وهو توحيد الله، والتوحيد هو شكر الله عز وجل، وشكر الله تعالى يكون بالعمل، والعمل هو الكمال والتكميل، وهو ما تجلَّى في وصية لقمان الحكيم؛ حيث دعا إلى التوحيد ولدَه.
 
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
 
يقول الرازي:
"وتقديره: آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرًا في نفسه، وحين جعلناه واعظًا لغيره، وهذا لأن علوَّ مرتبة الإنسان بأن يكون كاملاً في نفسه ومكملاً لغيره، فقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ﴾ إشارة إلى الكمال...
 
ثم إنه في الوعظ بدأ بالأهم (لاحظ التدرج)، وهو المنع من الشرك، أما أنه ظلم، فلأنه وضع للنفس الشريف المكرم (وهو الإنسان) في عبادة الخسيس، ولأنه وضع العبادة في غير موضعها (وهو مضاد الحكمة)، وأما أنه عظيم؛ فلأنه وضع في موضع ليس موضعه (وهو كذلك ينافي الحكمة)[13].
 
ولهذا قيل عن لقمان: إنه كان رجلاً حكيمًا بحكمة الله تعالى، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، وكان حكيمًا بشكره لله، والشكر لله طاعته فيما أمر به[14].
 
ومن هنا، فإن الحكمة سر من أسرار الله، وفهم من الله[15]؛ وهي توفيقُ الله تعالى العبدَ لعمل الصواب، واختيار الأصلح والأنسب، وهو قولي في الحكمة.
 
خلاصة القول: واستنادًا إلى ما سبق أستخلص بعض مفاهيم الحكمة، ولا أدَّعي حصرها فيما أذكره، فمنها:
1- الإصابة؛ أي: فعل الصواب.
2- العدل.
3- وضع الشيء في موضعه، واختيار الأنسب والأصلح.
4- موافقة العمل للعلم.
 
وكل ذلك يرجع إلى معرفة الله تعالى حق المعرفة، وشكره حق الشكر، واستمداد العون والمدد منه سبحانه لنَيْل الإصابة والعدل والتوفيق، فتكون الحكمة منه سبحانه وتفضُّلاً ونعمةً يمُنُّ بها على من يشاء ويختار، ويكون الكمال والتكميل، هو الدعوة بالحكمة.
 
من كتاب: "خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج)"

[1] حكمة الدعوة؛ أ.
رفاعي سرور، ص 5، مكتبة وهبة 1398هـ/ 1978م.

[2] مفاتيح الغيب، ص620 جزء 3.

[3] تفسير ابن كثير، طبعة الحلبي، ص 322، جزء 1.

[4] الجزء الأول ص 1980، الذخائر 95، الهيئة العامة لقصور الثقافة، إصدار مايو 2003.

[5] حكمة الدعوة ص 8.

[6] الحكيم الترمذي ونظريته في الولاية؛ د.
عبدالفتاح بركة، من مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية، جزء 1 ص 58.

[7] المرجع السابق ص 59 - 60.

[8] تفسير الرازي ص 620، جزء 3.

[9] انظر: الحكيم الترمذي ونظريته في الولاية ص 279، جزء 2.

[10] مفاتيح الغيب ص 54 جزء 10.

[11] مفاتيح الغيب ص 95 جزء 10.

[12] مفاتيح الغيب جزء 12.

[13] مفاتيح الغيب، 506 جزء 12.

[14] تفسير القرطبي، المجلد السابع، دار الغد العربي، ص 5316.

[15] قال تعالى: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ [الأنبياء: 79].

شارك الخبر

المرئيات-١