أرشيف المقالات

لمحات للمحتسبين

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2لمحات للمحتسبين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
 
أما بعد:
فإن للاحتساب في دينِنا مكانةً كبيرة، وأهمية عظيمة، كيف لا، وهو الأمر الذي لا تستقيم أحوال العباد إلا به، ولا تَصلح أمورهم إلا بوجوده مفعلاً فيما بينهم، ولا يُقَوَّم اعوجاجُهم إلا في التناصُح بينهم، وتعاونهم على البر والتقوى، وتناهيهم عن الإثم والعدوان، بحيث يحب الواحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه؛ مصداقًا لحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره - أو قال: لأخيه - ما يحب لنفسه))[1]، فهذا من خصال الإيمان، فيُنبِّهه على خطئه، ويَردعه عن غيِّه، ويُقيم حجة الله تعالى عليه بأمره بالمعروف ونهيه عن المُنكَر!
 
ولما كان المُحتسب هو صاحب المكانة الرفيعة، والقائم مقام القدوة لكل المجتمع، كان لزامًا عليه أن يتعاهَد نفسه في كل وقت، ويُراجع حسابه في كل حين، وهنا نَقف مع المحتسبين في لَمحات نسأل الله أن ينفعنا بها أولاً، وأن ينفع بها كل أخ قائم لله، آمر بمعروف وناهٍ عن مُنكر ثانيًا، ومن هذه اللمحات:
أولاً: على المحتسبين إخلاص نياتهم لله - تبارك وتعالى - وليعلم أنه بعمله هذا يقوم بعمل الأنبياء، سائر على طريقهم، لابس ثوبهم، ويا له من فضْل، وكفى به من شرف، وأنعم بها من مكانة لا تساويها مكانة، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]!
 






يا خيرَنا، يا ذُخرنا، يا فخرنا
حق عليَّ بمثلكم أن أفخرا






 
بكُم تفخر الأمة، وبأمثالكم يُحافظ على كيانها، وتُصان للأمة كرامتها، بأمثالكم تزول البدع وتموت، وتذهب المنكرات وتضمحلُّ في المجتمع المسلم؛ فترك الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكبر سبب لفشوِّ المُنكَرات في المجتمعات، وضياع حقوق الناس، وظلم بعضهم لبعض، وذهاب الخيرية في هذه الأمة؛ ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
 
ثانيًا: يجب على المحتسبين أن يَسيروا على الطريق التي سار عليها إمامهم وقدوتُهم صلى الله عليه وسلم، بَعيدين عن الإفراط والتفريط، عن الغلو والتنطع؛ ليُحققوا ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، واقعًا ملموسًا في مجتمعهم، مُتبعين بذلك الهدي النبوي، سواء في تطبيق هذه الشَّعيرة، أو أثناء ممارستها، مبتعِدين عن البدعة في الدين، والإحداث فيه ما ليس منه؛ ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، فالسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام رضوان الله عليهم مطلب شرعي مقدَّم على كل شيء، وسلامة المنهج الذي يَسير عليه المُحتسب أمر له الأولوية في حق المُحتسِبين؛ ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾.
 
ثالثًا: أن يَحذر الداعية إلى الله - عز وجل - من أن يرجع على عقبَيه، أو أن يَنقلب على المنهج النبوي بل الرباني، وهذا مسلك خطير، وللأسف الشديد أنه قد حصل في بعض الصالحين والمصلحين؛ فكم قد رأينا وسمعنا عن أناس كانوا من أهل الخير والصلاح والعلم والدعوة والاحتساب والجهاد، أضحوا من أهل الردة والزندقة والإلحاد! والعياذ بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
 
ورأينا دعاة رزقهم الله - تعالى - من تحصيل العلم، وقوة الحجة، وحدة العقل، وروعة البيان ما حشد جمهور الأمة خلفهم، وشرّقت محاضراتهم في الأرض وغربت، ثم خلعوا جلودهم، ولبسوا جلودًا غيرها، واقتحموا ميادين من كانوا مِن قبل يَنتقدونهم، وقَبِلوا منهم استضافتهم في صحفهم وفضائياتهم، ولم يكن ذلك بالمجان، أو لتبليغ الدعوة فحسب، ولكلِّ تنازُل ثمنه!
 
وحين نتتبع بعضًا من أسباب هذا الانتكاس والانقلاب على المنهج، نجد أنها تعود إلى شخص المنقلب تارة، وتارة تعود إلى المجتمع الذي يُحيط بهذا المنقلب.
 
الأمر الأول: من أسباب الانقلاب على المنهج، ما يعود إلى ذات المنقلب، وهذا راجع إلى عدة أسباب؛ منها:
عدم وجود المصداقية في نفسه مع الله - عز وجل - وخلوص النية له - تبارك وتعالى - فكل عمل مرتبط بالنية؛ ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))[2]، فبعض الناس يلتحِق بركب الأخيار ويلتزم حدود الشريعة، ويُنافح عن الدين بيده وقلمه ولسانه، ولكنه لا يجعل غايته من ذلك تحقيق العبودية لله - تعالى - فيَدخل في نيته أمور تكدِّر صفو النية ونقاءها.
 
الاستعجال في قطف الثمر، سواء كان في المجتمع، أم في الأمة، فالداعية إلى الله قد يكون طالبًا العز والنصر والتمكين للأمة، والصلاح للمجتمع، وهذه غاية نبيلة ومطلوبة ومرغوب فيها، ولكن لما لم يقع ذلك - كما قرره في نفسه في زمن معيَّن - انسلخ من منهجِه، وانقلب على من بقي عليه بالتنقيص والثلب؛ ليُثبت للناس أن تحوله عنه كان صحيحًا، وليتَه لما فعل ذلك كفَّ قلمه ولسانه عن منهج الأمس ومَن ثبَت عليه، ولم يصطفَّ مع المنافقين، فمن جعل المنهج الحق وسيلة لغاية أخرى فحريٌّ أن يفارق الحق إلى الباطل إذا لم تتحقَّق الغاية أو استبطأها، وهذا يرجع إلى جهله بسنن الله الكونية الجارية، فالعجلة طبع في الإنسان لا يكاد ينفكُّ عنه؛ ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [الأنبياء: 37]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن تمكين الله - عز وجل - لدينه قال كما في حديث خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: ((كان الرجل في مَن قبلكم يُحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشقُّ باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يَخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون))[3] فهو استعجال في طلب النصر، وتحقق سنن الله - تعالى - في عباده، ومن هنا ندرك الحكمة من كثرة التأكيد على أن وعد الله - تعالى - حق، وقرنه بالأمر بالصبر، والإخبار أن العاقبة للمتقين، وسنن الله - عز وجل - لا تتبدَّل ولا تتغير.
 
استمراء الفساد، والشبهات التي تَعرض للمُحتسب، وعدم مدافعتها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم الجلوس إلى العلماء الأجلاء الراسخين في العلم ودحض الشُّبهات، فتتمكَّن الشبهة من قلبه، وتعمل عملها فيه، فيَنقلِب بسببها عن منهجه، وبسبب الشبهة في الدين انتكس عدد من الأذكياء المشاهير قديمًا وحديثًا، وقد يَرِد على القلب شهوة تفسده لا سيما إن كانت شهوة معصية يلتمس لها الإباحة بعسف النصوص وتحريف معانيها، فيَستسيغ ذلك في كل ما يعرض له من شهوة، حتى يكون ديدنه تحريف الشريعة، واتباع المتشابه منها، واستخراج شواذِّ الفقه، فيردى بسبب شهوته.
 
هذه الأسباب من أهم الأسباب التي ترجع إلى ذات الداعية، وإلى نفسه، وهناك أسباب راجعة إلى المجتمع المحيط بالداعية، والتي منها:
صدُّ المجتمع للداعية، والوقوف في وجهه، وعدم تقبُّل قوله أو فعله، وقد يصل الحال في بعض الأحيان إلى أن يتعرَّض المحتسب للفتن والابتلاء، وهذا الحال يوجد في المجتمعات التي تَكثُر فيها البدع والجهل بدين الله - تبارك وتعالى - وحال هذا المحتسب لن يكون أحسن حالاً من إمام المحتسبين والداعين إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد تعرَّض لأشد الابتلاء، ولو أنا قرأنا سيرته، وأمعنا النظر فيها لكان هذا داعمًا لكل أخ أوقف نفسه لدين الله - تبارك وتعالى - ولن يوجد مجتمع أشد تعسُّفًا وتعنتًا من قريش أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يوجد أكرم وأفضل محتسب وداع إلى الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
وقد يكون من الأسباب أيضًا:
وجود القصور من قبل المُحتسِب في أمور الدعوة إلى الله - عز وجل، وعدم وجود الفقه في معالجة الأخطاء السارية في المجتمعات، وأيضًا الأخطاء التي قد تحصل من بعض أولي العلم، ومن هنا يتسلل الشيطان إلى قلبه؛ لتَنفيره من الاستقامة على الدين، ومن أهل الاستقامة والصلاح في النفس، وهذا ناتج عن عدم تأصُّل العلم في نفس المحتسب، أو انفصام واقع في نفس المحتسب فيما بين ظاهره وباطنه، ومن هنا تأتي المضايقات والسخرية وما شابه، والنفس البشرية تَضعُف أمام المضايقات.
 
من أسباب الانقلاب على المنهج:
ما يحصل في مجتمع العلماء ومَن سار على دربهم من تنافُس الأقران، أو التقدم في منصب دُنيوي لقرين من الأقران،....
إلخ، فيحصل للمحتسب ما يحصل من التنافُس والتنافُر حتى يصل الحال به إلى أن ينقلب على عقبيه بعد أن هداه الله.
 
هذه في اعتقادي أهمُّ الأسباب التي تؤدي إلى الانقلاب على المنهج من قِبَل بعض المحتسبين، والتي ينبغي على كل إنسان - وبالأحرى والأخص الداخلون في سلك الدعوة إلى الله - الحذر منها ومن غيرها من الأسباب.
 
أسأل الله - تبارك وتعالى - بأسمائه وصفاته أن يُثبتنا على دينه حتى نلقاه، وأن يُحيي الأمة ويردَّها إلى دينها مردًّا جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.



[1] أخرجه البخاري برقم: 13، ومسلم برقم: 180، واللفظ له.


[2] البخاري (1) ومسلم (54).


[3] البخاري (3416).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢