أرشيف المقالات

الدين والسلوك الإنساني

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
ـ 4 ـ للأستاذ عمر حليق شغل (دير كهايم) في إمعان وروية بالتعرف على الحقائق التي تكن وراء القداسة والألوهية والمثل والقيم الإضافية والمعاني الفاضلة التي تنطوي عليها. فأنكر أن المقدسات هي مجرد تعبيرات عن المؤثرات الخارجية المستمدة من البيئة والتاريخ، كما أنكر أن تكون وليدة الوراثة بمعناها الواسع. فالقول بأن القداسة هي تعبير مستمد من البيئة والتاريخ ينفيه ما سجله (دير كهايم) من أنها (أي القداسة) رمز مستمد من الغريزة الفطرية.
وفوق ذلك فإن تغيير البيئة واستمرار التطور في تاريخ الفكر لم يذهب بالرموز القدسية والحياة الدينية المعبرة عنها. والادعاء بأن القداسة هي وليدة الوراثة وما أكتسبه الفرد عن أسلافه من ذخيرة فكرية واتجاهات عاطفية وطبائع أخلاقية لا يتفق وحقيقة الواقع في عالم عناصر الوراثة فيه واسعة متشعبة تفاعلت فيها عدة مؤثرات ثقافية وعاطفية تسربت غليها من الخارج.
ومع ذلك فقد بقى جوهر القداسة سليماً في تأثيره الروحي والاجتماعي على سلوك الإنسان. فإذا سجلنا إذن على ضوء هذا الشرح أن وراء المقدسات حقائق راسخة، وأن هذه المقدسات (على تعدد أنواعها وألوانها) بالغة الأثر راسخة النفوذ في السلوك الإنساني؛ فإن لنا أن نبحث في علاقتها بالحياة والأوضاع الاجتماعية. فالمثل والأخلاق التي تضبط سلوك الفرد تستمد سلطتها من الاختبار الديني الذي قيد الفرد بنظم وقوانين يسير عليها في علاقته بربه ومجتمعه.
والثابت عندنا أن الله عز وجل (وهو قدس الأقداس) حقيقة راسخة، وأن علاقة الفرد بربه علاقة منشؤها غريزة فطرية موهوبة وليست مكتسبة.
فلنا إذن أن نبحث في علاقة الاختيار الديني بالمجتمع الإنساني الذي وضع الله له نظماً وقوانين وقيماً أخلاقية ووضع دير كهايم بعد هذا الاستنتاج كلمته الشهيرة: - (إن الله (عز وجل) هو رمز المجتمع الصالح) وثار بعض النقاد أول الأمر على كلمة دير كهايم هذه وخابت آمالهم في رجل ابتدأ ف حماس يدافع عن روحانية الدين إزاء مادية الطبيعيين، ثم ما لبث أن خرج (في رأيهم) باستنتاج أكثر مادية.
فالمجتمع ملموس والله عز وجل حقيقة قدسية يدركها الناس بالعقيدة والإيمان فكيف يصح القول بأن الله جل جلاله رمز لشيء مادي؟ وقال دير كهايم وأنصاره إن هذه الثورة لا موجب لها.
فالحقيقة الاجتماعية التي وضعها دير كهايم ليست من الأشياء الطبيعية التي يلمسها الناس لمسهم الصخرة والشجرة والحديد والماء؛ إنما هي (سلوك جماعي) يشترك في التعبير عنه أفراد المجتمع كما لو كانوا فرداً واحداً.
وأوضح دير كهايم الفرق بين الفكر الفردي والفكر الجماعي وقال بأن اختيارات الإنسان الفردية الخاصة به وسلوكه النفساني والروحي يختلف عن اختياراته متضامناً متكافلاً مع أفراد الجماعة التي تعيش فيها ويشاركها الخير والشر.
والمجتمع في رأي دير كهايم كيان لا وجود له إلا في تفكير الفرد وشعوره. هذا الفكر الجماعي هو من أبرز ما اهتم به دير كهايم في معرض معالجته للدين والسلوك الإنساني، فاختبار الجماعة عند دير كهايم حقيقة اجتماعية لا علاقة لها بالماديات التي تكلم عنها الطبيعيون. إذن فعلاقة الله عز وجل بهذه الحقيقة الاجتماعية ليست علاقة مادة، والقيم والمثل الفاضلة التي جاءت بها التعاليم الدينية لم تقتصر على علاقة الفرد بربه وإنما شملت كذلك علاقة الكيان الاجتماعي بالعزة الإلهية، وذلك لأن الفرد عضو في الجماعة وسلوك الإنسان فرداً يختلف عن سلوكه متضامناً م الجماعة. وقد ركز اكثر المصلحين من أهل التقوى والإيمان اهتمامهم إلى سلوك الإنسان الفردي وأهملوا معالجة سلوكه الجماعي.
ولما كان هذا السلوك الجماعي مميزاً عن السلوك الفردي بصفات واتجاهات وطبائع وشاعر خاصة فلذلك استوجب على المصلحين أن يقوموا أكثر فأكثر على توجيه السلوك الجماعي على ضوء التعاليم السماوية.
وشرح دير كهايم في حماس كيف أنه جعل اهتمامه أن ينفي الصبغة الطبيعية المادية عن طبيعة السلوك الجماعي ويثبت صفاته ومميزاته الروحية. ثم زادت الحاجة إلى دراسة علم الدين الاجتماعي دراسة عملية وتعميمها والدعوة لنشرها ما وجد المصلحون لذلك سبيلاً.
وما لبث دير كهايم أن وقع فريسة التطرف في التحليل والتعليل والتعصب لآرائه شأن معظم الذين يكتشفون لوناً جديداً من ألوان المعرفة فيندفعون في حماستهم دون التريث ولا إمعان.
متخطين فروع المعرفة الأخرى بالرغم مما فيها من عناصر وحقائق لا تقبل جدلاً ولا إنكاراً. واندفع دير كهايم في أبحثه ينادي بما فحواه أن وظيفة الدين الاجتماعية يجب أن تفوق وظيفته الروحية؛ وهذا ما يستدعي في نظر دير كهايم أن يتحكم علم الاجتماع في رقبة الدين وتعاليمه. وقام باريتو (وهومفكر إيطالي جليل الشأن) يصلح ما أفسده دير كهايم بطريقة غير مباشرة.
فأصر باريتو في تراثه الضخم أن سلوك الجماعة (السلوك الجماعي عند دير كهايم) ينقصه في أغلب الحالات الرشاد والإدراك الإيجابي الشامل بطبيعة الأشياء ومعانيها الكاملة.
وأن من المستحيل أن يتحقق للجماعة في سلوكها الرشد المنطقي كما اصطلح باريترد على تسميته ولذلك فتحكم علم الاجتماع (السوسيولوجي) في رقبة السلوك الديني مناف للمنطق السليم؛ ذلك ألان علم الاجتماع يستمد عناصره من سلوك الجماعة ويبني مبادئه واستنتاجاته عليها.
وهذا السلوك كما أصر (باريتو) بينه وبين المنطق السليم صداقة مفقودة. لعل من المفيد أن نسجل هنا بأن دير كهايم أخذ فيها بعد بوجاهة هذه الآراء التي بشر بها (باريتو) فعدل من تطرفه ثم أمعن في دراسة (الحقائق المادية الملموسة) على ضوء فلسفة المعرفة ليثبت أن معرفة الناس للحقائق المادية لا يمكن أن تقرر على أساس المحسوس والملموس.
وكان هدف دير كهايم أن يثبت للطبيعيين أن استشهادهم بالحقائق المادية في تهجمهم على الدين هو استشهاد باطل.
فالناس لا يعرفون الأشياء بخواصها المميزة وأوصافها الطبيعية فحسب وإنما يعرفونها بالأفكار والمشاعر والاحساسات التي تؤثر بها تلك الأشياء في سلوك الفرد والمجتمع. فالفلاسفة مثلاً هم نقيض العلماء الطبيعيين من حياتهم (أي الفلاسفة) شغلو بمصادر المعرفة غاضين الطرف في أكثر الحالات عن العالم الطبيعي الذي يعيش الناس فيه. ومثل هذا الإهمال ينطبق بصورة عكسية على اتجاهات العلماء الطبيعيين الذين حصروا اجتهادهم في التعرف على الحقائق المادية في الأجسام والظواهر الطبيعية (الفيزيولوجية). وكلا الاتجاهين ناقص في رأي دير كهايم.
فالكمال في البحث العلمي لا يتم إلا بالتعرف على الحقائق الاجتماعية التي لا يمكن أن تعد في حساب الفلسفة وفي عداد الحقائق الطبيعية المادية لأنها ظواهر اجتماعية بينه يدرك الناس أهمية الدور االذي تطلبه في مجرى السلوك الإنساني. وفي رأي دير كهايم أن الفلاسفة يستمدون مادتهم الخام من هذه الظواهر سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا.
وعلماء الطبيعة لم ينصبوا علة معالجة الحقائق المادية إلا ونصب أعينهم توجيه هذه الحقائق الاجتماعية نحو قسط أوفر من الكمال.
والعلماء في انصبابهم على الحقائق المادية أهملوا التعرف على الحقائق الاجتماعية. هذا هو محرر النهج العلمي الذي استنبطه دير كهايم فأثار إعجاب الناس.
والدارس لآثار دير كهايم يلمس صعوبة المعارج التي سلكها باحثاً للتعرف على جوهر الدين والسلوك الإنساني.
فالصلة بين الروح والمادة لا تتم إلا عن طريق الحقائق الاجتماعية، طريق الحقائق الاجتماعية ليست في حد ذاتها مادة مجردة أو روحانية مجردة وإنما هي الظواهر تلعب دوراً رئيسياً في النظام الكوني.
ويترك دير كهايم في بلبلة فكرية إزاء هذا المنطق اللوبي ولكنه يمضي في الدراسة والاستقراء والبحث والاستنتاج على أسس هذا المنهج العلمي وهذا المنطق اللوبي.
فهو يقدر أن الفوضى في السلوك الإنساني (فردياً كان أم جماعياً) لابد وأن تنتظم وتستقيم بفعل المعرفة الصحيحة للحقائق المادية.
ولكن سيطرة الحقائق المادية علة التفكير والسلوك الإنساني.
لابد أن تخلق عاجلاً أو آجلاً نوعاً آخر من الغموض والاضطراب الروحي والنفساني؛ ولا يحل هذه الأزمة إلا تدخل النظم الاجتماعية (أو الحقائق الاجتماعية في لغة دير كهايم).
والناحية الاجتماعية في التعاليم الدينية من الأهمية بمكان عظيم لأنها تقوم بعمل مزدوج؛ فهي تعزز الغريزة الروحية من جهة، وتصون الحقائق الاجتماعية من جهة أخرى.
فإذا تسنى لرجال الدين والذين يحملون لواء الدعوة له أن يضيفوا إلى تراث الدين الروحي والاجتماعي مادة جديدة تستمد إقناعها من الحقائق المادية سياسية كانت أو اقتصادية أو تكنولوجية فإنهم يساهمون بالقسط الأكبر في تنظيم السلوك الإنساني تنظيماً سليماً يحقق سعادة الدارين. وأصبح دير كهايم سعيداً حين رأي المفكرين من رجال الدين والفلاسفة والعلماء في أوائل هذا القرن على وجه الخصوص يتجهون أكثر فأكثر لدراسة هذا الثالوث من الحقائق الروحية والمادية والاجتماعية، الأمر الذي دفع إلى الطليعة أهمية علم الاجتماع الديني في التفكير والسلوك الإنساني.
وهذا الاتجاه يزداد أهمية وضرورة بازدياد الصراع بين المذاهب السياسية والاقتصادية المعاصرة التي جرت على المجتمع الإنساني ويلات الحروب وشر التفكك الاجتماعي ومرارة البلبلة الفكرية والنفسانية التي يعانيها المثقفون في هذا العالم بما فيه الشرق العربي. وثمة مزية أخرى في مكانة الدين والدور الذي يؤديه في السلوك الإنساني، وأعني به (النظام) وما ينطوي عليه من استقرار روحي وفكري ومادي.
وما تضار النظم السياسية والاقتصادية المعاصرة شيوعية كانت أو رأسمالية أو فاشية إلا لاختلافها عن أوجه التنظيم وأسس المبادئ والوسائل التي تحقق النظام والاستقرار. فالنظم الديكتاتورية ـ وهي وليدة استياء المصلحين من بطء النحو التقدمي للمجتمع وضعف الأداة لتحقيق النظام ومن ثم الإصلاح والتقدم والرفاهية ـ فاشلة في محاولتها هذه كما أثبت ذلك التاريخ الحديث والقديم لأنها وهي وليدة السلوك الفردي تحاول أن تكون تعبيراً للسلوك الجماعي.
وشتان بين السلوكيين كما أخبرنا دير كهايم. والديمقراطية في نظامها الحالي تدعي باطلاً أنها تعبير عن سلوك الجماعة ورغباتها لأنها حملت نفسها فوق ما تستطيع والدولة في نظم الديمقراطية المعاصرة قد فصلت نفسها عن الحياة الدينية.
ومع أنها (أي الدولة) لم تقاوم السلوك الديني فقد سلبته بعض أسسه الجوهرية؛ فجردت برامج التعليم من المواد الدينية وتركت ذلك لمشيئة الفرد، وجردت المعابد والمؤسسات الدينية من مواردها الرسمية وتركتها عالة على تبرعات المحسنين الذين يتأثر مبلغ إحسانهم بالتقاليد الاقتصادية التي لا تعرف نظاماً ثابتاً ولا تتقيد باستقرار. وحاولت الدولة الحديثة أن تقوم بأعباء الحقائق الاجتماعية التي كان يقوم بها الدين دون أن تستطيع تلك الدولة أن تندمج في العلاقة الثالوثية التي شرحها دير كهايم وهي الروح والمادة والمجتمع.
وكان من جراء ذلك هذا الفشل الذي أصاب الديمقراطية في توفير النظام وتوطيد الاستقرار؛ لا في ناحية الروحية والنفسانية والفكرية فحسب بل حتى في فروعه السياسية والاقتصادية كذلك وحين يقف مفكر رزين كالأديب البريطاني ت.
إس إليوت وغيره من المثقفين الممتازين ليناشد الدولة والمجتمع أن (يوفر للمعوزين قبل أن يوفرا لهم زجاجات الشمبانيا) لم يعن بذلك إلا لضرورة ربط الحياة الروحية بالحقائق الاجتماعية والترف المادي والفكري التي أغرمت به هذه الأيام الدولة وأصحاب الثقافة المادية من دعاة الإصلاح. فالمشكلة إذن مشكلة نظام يراعي الحقائق الروحية الدينية إلى جانب اهتمامه بالحقائق الروحية الدينية إلى جانب اهتمامه بالحقائق المادية في حياة الفرد والجماعة. وحين يراعي المشرعون وأصحاب الحل والعقد والفرد والجماعة والحقائق الأصيلة في هذا السلاح المثلث تكون الإنسانية قد لمست نقاط الضعف والقوة في هذا الاضطراب المرير الذي يعيث في مجتمع القرن العشرين فساداً. (للبحث صلة) عمر حليق نيويورك

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣