أرشيف المقالات

موازنة وتحليل:

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
8 بين شوقي وولي الدين يكن سقوط عبد الحميد للأستاذ محمد رجب البيومي بين شوقي وولي الدين مشابه كثيرة، فكلا الرجلين تركي الأصل، وكلاهما نشأ في ظلال الترف والنعمة، وذللت دونه طرق المجد والجاه، فاتصل بالأسرة الحاكمة، وتقلب في المناصب المرموقة.
وكلاهما شاعر مبدع يصوغ القلائد الساحرة، ويصرف أعنة البيان حيث يريد.
وكلاهما ينتقل به هواه فوق ضفاف البسفور، وعلى شواطئ النيل، فأنت تسمع لهما الروائع المبدعة في وصف الآستانة، كما تقرأ لهما الحنين الدائب إلى مطارح النيل، حيث قدر لهما أن ينزحا عن القاهرة مغتربين، ذاك إلى الأندلس، وهذا إلى سيواس، وفي غياهب المنفى السحيق تتأجج العاطفة، ويجيش الخاطر بالروعة والإبداع ورغم هذه المشابه العديدة فقد افترق الشاعران في وجهة نظريهما إلى السلطان عبد الحميد افتراقاً شاسعاً، وقد وجد كلاهما من ظروف حياته، وطبيعة شخصيته، ما يدفع به إلى التمسك برأيه والدفاع عنه مما يملك من بيان.
وقد كان لعبد الحميد في كثير من الأذهان صور متناقضة متضاربة، فهو - من ناحية - أمير المؤمنين الرسمي، وقائد الإسلام الرمزي، وظل الله في أرضه، وخليفته في تنفيذ أوامره وتحريم نواهيه! وهو - من ناحية ثانية - طاغية مستبدة، يعذب الأبرياء، ويغتال النصحاء، وينصب الدسائس والشباك، ويجمع الحور والغانيات في قصوره المترفة الناعمة، ويصل إلى أهوائه الجامحة في طريق من الأشلاء والدماء! وتلك أمور تدعو إلى الثورة وتدفع إلى العصيان، فانطلقت الألسنة بالعراق والشام ومصر تندد ببغيه وعدوانه، وقام الزهاوي والرصافي وولي الدين بتجريحه وهجوه، فأظهروا للملأ فضائحه ومثالبه.
ومن المدهش الغريب أن يقوم إلى جانب هؤلاء الثائرين شعراء مبدعون بكيلون المدح كيلا للسلطان الجائر، ويرسلون القصائد الرزنة تلهج بالثناء عليه، وتحيل ظلماته الدامسة إلى نهار ضاح! وأنت تسأل عن سبب ذلك فنجد هؤلاء المادحين يهيمون بالوحدة الإسلامية، ويخافون أن تتصدع الخلافة بمهاج السلطان، فتتفرق كلمة المسلمين، ويصبحون طعاماً سائغاً للمتربصين من الأعداء.
وخير عندهم أن يتغاضوا عن أفعال هذا الطاغية، من أن تدور الدوائر على الكلمة الجامعة والشمل المتماسك، فتنحدر الخلافة إلى المهوى السحيق! هذا ما كان يعتقده محرم والكاشف والرافعي وحافظ والقاياتي وغيرهم ممن أحالوا البساطل حقاً بمدائحهم المموهة، ووقفوا من ولي الدين وشيعته على طرفي نقيض! وقد كان أمير الشعراء مدفوعاً إلى مدح السلطان الجائر بهذا الدافع من ناحية، وبدافع أقوى منه من ناحية أخرى، فهو شاعر القصر، وترجمان البلاط الخديوي، يأتمر بأمره، وينطق بلسانه.
وكان النفور القائم بين الاحتلال الإنجليزي، والخديوي الشاب يدفع الباب العالي بالأستانة إلى العطف على عباس وتحييذه، كما يدفع الأمير الغيور إلى الاعتزاز بالسلطان والتطلع إليه.
وطبيعي أن يعبر شوقي عن ذلك بمدائحه المسهبة في كل مناسبة تحين، وتمضي هذه القصائد إلى أسماع عبد الحميد فتأخذ مكتنها من نفسه، وتميل به إلى الشاعر المادح، فإذا زار شوقي الأستانة نزل ضيفا على السلطان، ونال من الحفاوة والتجلية ما يضاعف حبه وينعى إخلاصه، فيشدو بعظمة عبد الحميد، ويطلق لخياله العنان في تهنئته ومديحه! مع أن فظائعه الدامية لا تطاق بحال! هذا الوضع السياسي الذي جذب شوقياً إلى ساحة عبد الحميد، قد قابله وضع مضاد لولي الدين، حيث أتيح للشاعر أن يمكث مدة غير قصيرة بالأستانة.
فرأى بعينه ما يسمعه الناس من فضائع السلطان، وشاهد الظلم والدسيسة والخيانة في أبشع صورها، فلم يطق صبراً على ما شاهد بعينه وليس بيده، فرجع إلى القاهرة وأنشأ جريدة الاستقامة، وأعلن الثورة على السلطان في جبروته، ورسم بقلمه المؤثر صوراً حزينة للضحايا الأبرياء الذين تجرعوا الغصص القاتلة بالأستانة، فأصبح من أعلام المعارضين للسياسة العثمانية.
وقد حوربت جريدته محاربة شديدة، وتصدى لها الحكام والولاة تصدياً ماحقاً، حتى لم تعد تصل إلى قرائها في مختلف الأمصار.
ورأى الشاعر من الحزم أن يقطع صدورها، ولكنه لم يغمد قلمه بل شهره في الصحف اليومية التي تميل إلى رأيه، وجعل من جريدتي المقطم والمشير منبراً يذيع حملاته من فوقه.
وشاءت السياسة العثمانية أن ترشوه كغيره من المعارضين، فعين عضواً بمجلس المعارف الأعلى في الأستانة.
وكان الظن به أن يقنع بمنصبه الساحر، ولكن واصل الهجوم العنيف دون مبالاة، فصدر الأمر بنفيه إلى سيواس! وقضى سبع سنوات في مكان موحش مقفر، لا يرى غير الغيوم والصخور والأمطار والهضاب.
وكلما اشتعل الغيظ في صدره أرسل قر يضه مندوا هاجياً، ولم يذق طعم الراحة حتى صدر الدستور العثماني ثم عزل السلطان بعد ذلك فهوى إلى الحضيض! هذه عجالة تاريخية توضح لنا البواعث التي حدت بشوقي وصاحبه إلى موقفهما المختلف من السياسة العثمانية.
والباحث المنصف يعجب كل الإعجاب ببسالة ولي الدين وشجاعته، فهو لم يشأ أن يذعن للباطل في أمر مهما قبض الثمن غالياً، وكان يغيظه من شوقي أن يبالغ في مدائحه مبالغة تدعو إلى الدهشة والاستغراب، فهو يعلم تمام العلم ما يجري بالأستانة من محن ونكبات، ولكنه لا يقتصر على الثناء الرسمي والدعاء بالتوفيق والهداية كما يفعل مادحو السلطان، بل يزعم أنه أعاد سيرة الفاروق، وأنه كلل البائسين والأيتام بتاج من عطفه وإخلاصه، وأن الخصب والنماء والغمام هبات تتناثر من كفه، يا إن البيت العتيق ليشكر ربه من أجله، وعرفات يسعى هاتفا به، وأن الرسول يهنأ في قبره بحياته، فهي حياة الدين واليتامى والمساكين! إلى غير ذلك مما يراجعه القارئ في الشوقيات! وبعد جهاد متواصل كادح من الشعب والجيش كان ما لا بد أن يكون، فقد حاق المكر السيئ بأهله؛ ودارت على الباغي الدوائر، وتقدمت الجيوش زاحفة إلى (يلدز) فسقط السلطان من عليائه، ونزل الجبار عن عرشه.
وطار الخبر إلى ولي الدين فصفق شعره في خاطره، ونظم قصيدة شامتة يذكر فيها السعادة الذاهبة، والمجد البائد، ويتصور الأسير المهيض وقد كبل بالأغلال وتجرع غصص الحرمان متيقظا، فإذا أغفت عينه نغصته الأحلام بأطياف خاطفة لكلكه الزائل، وبدره الآفل! إنه ليقول في تشف ساخر وتهكم مرير: عزاء أيها النافي الرعايا ...
ولا تجزع فخالقهم نفاكا حرمت كراك أعواما طوالا ...
وليتك بعد ذا تلقى كراكا تفارقك السعادة لا لعود ...
وقد عاشت خطاها في خطاكا فدع صرحا أقمت به زمانا ...
وقل يا قصر لست لمن بناكا نعم عبد الحميد ما ندب زمانا ...
تولى ليس يحمده سواكا تولى بين أبكار حسان ...
تعلق في غدائرها نهاكا جعلت فدائها الدنيا جميعا ...
ولو ملكتها جعلت فداكا وطال سراك في ليل التصابي ...
وقد أصبحت لم تحمد سراكا ستحيا في سلانيك زمانا ...
ستحسد فيه عن بعد أخاكا وتعلم أن ملكا ترتضيه ...
ولعت به، ولكن ما أرتضاكا فإن زار الكرى عينيك ليلا ...
وعادك تحت طيته أساكا تمثل في المنام لديك ناس ...
تخبر عن دمائهمو يداكا رما هم بالأفول دجاك لما ...
تبدوا كالكواكب في دجاكا وتمضي القصيدة إلى قراء العربية ومعها أخوات قالها الأحرار من الشعراء في شتى بقاع الهالم الإسلامي، فتعبر عن السرور الدافق وتنطق بما تكن المشاعر الساخطة على الأسير المعزول.
ويجرف التيار بطوفانه الجائش جميع الشعراء، فيستقبلون الخليفة الجديد مهنئين ويشيعون الراحل المستبد لائمين معيرين، ولكن شوقا وحده يظهر الأسف على سقوط السلطان واندحاره، ويفيض خاطره الحزين بقصيدته الشهيرة (سل يلدزا ذات القصور) غير مستطيع أن يكبت عواطفه الملتاعة، بل ينسى الشعور العام في العالم الإسلامي ويقول عن عبد الحميد: خطب الإمام على النظيم ...
يعز شرحا والنثير شيخ الملوك وإن تضعضع ...
في الفؤاد وفي الضمير نستغفر الله له! ...
والله يعفو عن كثير ونراه عند مصابه ...
أولى بباك أو عذير ونصونه ونجله ...
بين الشماتة والنكير ولكن ولي الدين لا يرضيه هذا الإغضاء الخاطئ، ويخاف أن تجد قصيدة شوقي مكانها في النفوس، فتميل ببعض العواطف نحو السلطان الذاهب، وتطفئ ما سطع من بريق الفرحة والابتهاج، فيلجأ الشاعر إلى مناقضتها مناقضة حارة في قصيدته التي مطلعها: هاجتك خالية القصور ...
وشجتك آفة البدور وقد وقف بها أمام شوقي وجها لوجه، فدحض حججه، وناقض أدلته، وأفسح لنا مجال الموازنة والتحليل، وكلتا القصيدتين بعد ذلك تعلن شعور قائلها واتجاهه، وتصور تفكيره وأسلوبه، وهاأنذا أفصح عنهما بعض الإفصاح بدأ أمير الشعراء قصيدته كما يبتدئ قصائد الرثاء والتأبين، فهو يسأل يلدز عن نيراتها الثواقب، ويعلن عجزها عن الإجابة المقنعة، فقد أناخ عليها الدهر كما أناخ - في البعيد الغابر - على قصور النعمان بالحيرة، فأصبح الخورنق والسدير أطلالا دارسة، وكما أنماخ - في القريب المائل - على الجزيرة وقصر إسماعيل فغاب عنهما الأنس والبهاء! وروح الشاعر في مطلع قصيدته هامسة كئيبة تعلن عن ذاتها إذ تقول: سل يلدزا ذات القصور ...
هل جاءها نبأ البدور لو تستطيع إجابة ...
لبكتك بالدمع الغزير أخفى عليها ما أنا ...
خ على الخورنق والسدير ودها الجزيرة بعد ...
إسماعيل والقصر الكبير ذهب الجميع فلا القصور ...
ترى ولا أهل القصور فلك يدور سعوده ...
ونحوسه بيد المدير!! أما ولي الدين فيعجب لشوقي كيف تهيجه القصور الخالية من الأنيس، وتشجيه البدور الآفلة بعد السطوع، وكيف يذكر أصحاب الترف والنعيم، وينسى المقابر المليئة بالضحايا، الآهلة بالأبرياء، وكيف يكسب الدمع الغزير على طاغيه طالما أثار المدامع وأبكى القلوب، ونهب الأموال، وبدد الضياع! ويعلن أن دثور يلدز غنيمة كبرى للشعب الجريح، فستأهل بعدها الدور الموحشة، وستضئ المنازل الخربة، ويحيا المعذبون أعزة سعداء! والقارئ يلمس صدق العاطفة، وسلامة المنطق إذ يسمع وليا يقول: هاجتك خالية القصور ...
وشجتك آفلة البدور وذكرت سكان الحمى ...
ونسيت سكان القبور وبكيت بالدمع الغز ...
ير لباعث الدمع الغزير ولواهب المال الكثير ...
وناهب المال الكثير إن كان أخلى يلدزا ...
مخلى الخورنق والسدير سيتأهلن من بعدها ...
الآف أطلال ودور بعض النجوم ثواقب ...
والبعض دائمة المسير وكما بدأ البحتري قصيدته في رثاء المتوكل بوصف قصره المنيف، وما منى به من ذله بعد عزة، ثم انتقل إلى أوانس القصر وظبائه، ومقاصره وستائره، فكذلك ابتدأ شوقي قصيدته يتحدث عن القصور في يلدز ثم ينتقل إلى غانياتها الساحرات، ولشوقي سلاسة وعذوبة حين يتحدث عن هؤلاء المترعات من النعيم العاثرات من الدلال، الناهيات الآمرات على الولاة، الطيبات الأريج، الذاهلات عن الرمان بما هن فيه من خفض ونعيم، المشرفات على الممالك، بين المشارف والرفارف والزخارف! الآمنات في مسكن فوق السماك بين المعاقل والخيول والرماح وفوق غارات المغير، أجل! إن لشوقي براعة في رسم هذه الصور الفاتنة الخلابة، وإنها لتتجلى لعينيك حين تسمعه يقول: أين الأوانس في ذراها ...
من ملائكة وحور الترعات من النعيم ...
الراويات من السرور العاثرات من الدلا ...
ل الناهضات من الغرور الآمرات على الولا ...
ة الناهيات على (الصدور) الناعمات الطيبات ...
العرف أمثال الزهور الذاهلات عن الزما ...
ن بنشوة العيش النضير المشرفات وما انتقلن على ...
المسالك والبحور أمضى نفوذاً من (زبيدة) ...
في الإمارة والأمير بين الرفارف والمشارف ...
والزخارف والحرير والدر مؤتلق السنا ...
والمسلك فواح العبير في مسكن فوق السماك ...
وفوق غارات المغير بين المعاقل والقنا ...
والخيل والجم الغفير وهؤلاء الآمرات الناهيات لا يقام لهن وزن في منطق ولي الدين، بل إنهن في نكبة السلطان ومحنته، فقد صرفنه عن التعقل والتدبير، واستلبن أموال الدولة فيما يطلبن من لآلي وعقود وحلي! فعكف على أسرابهن الفاتنات يعتصر الخدود، ويهتصر الخصور، مستمدا من فتور عيونهن فتوراً في همته وانكسارا في عزيمته.

كل ذلك وجيش الدولة ساغب جائع لا يحد ما يقيم أوده من العيش، فأجناده صفر الوجوه، خمص البطون، يشكون المتربة والفاقة، رغم ما يمهد للحسان من أسباب الترف والنعيم، فأي مغنم عاد على الدولة من هؤلاء الفاترات الناعسات؟ وأي متربة جلبنها على الرعية بما يستنزفن من أموال وثروات! إن ولي الدين ليعكس صورتهن الخلابة في مرآة شوقي فتنقلب من مرآته دميمة مقيتة ويصور جنايتهن الكبيرة إذ يقول ضاءت عقود الملك ...
ما بين الترائب والنحور والشيخ بات فؤاده ...
في أسر ولدان وحور ما زال معتصر الخدود ...
هوى ومهتصر الخصور وإذا انقضت ليلاته ...
وصلت بليلات الشعور أهدى الفتور لقلبه ...
مابا للواحظ من فتور واستنفرته عن الرعا ...
يا كل آنسة نفور نختال من حلل الصبابة ...
في الدمقس وفي الحرير والجند عارية مناكبها ...
مقصمة الظهور خمص البطون من الطوى ...
دقت فعادت كالسيور إن الزمان يغر ثم ...
يذيق عاقبة الغرور ثم ينتقل شوقي إلى مناجاة السلطان الأسير، فيغمره بفيض من عطفه ومعذرته، وكأنه ينظر إلى أفضاله عليه، فيأبى أن يخصه بلوم أو تقريع، فهو أرفع من أن يشمت فيه شامت، وأولى أن تراق الدموع حزنا على سقوطه!! وإذا كان قد أسلف بعض الجرائر فالله يعفو عن كثير، فلا داعي أن نطيل حسابه في محنته العسيرة.
وما كان عبد الحميد - في رأي شوقي - إلا خليفة كالمنصور أو الرشيد في سالف العصر، وهما قد حفظا جلال الملك، وأبهة الخلافة، وإن استبدا مثله بالأمر، ولم يخضعا لدستور أو مشورة، ثم لا يقتصر شوقي على ذلك بل يصف السلطان بالروية والأناة وحكمه العاقل الخبير، وأي حكمة تلك التي تبطش بالناس، ومصب الدسائس وتستلب الأموال! وبمعنى أمير الشعراء في وصف العظمة الغابرة، والسلطان السالف، كأنه يتعزى بذكراها عما أَصاب سيده من سقوط؛ فهو يقول عبد الحميد حساب مثلك ...
في يد الله القدير سدت الثلاثين الطوال ...
ولسن بالحكم القصير تنهى وتأمر ما بدا ...
لك في الصغير وفي الكبير لا تستشيروا في الحمى ...
عدد الكواكب من مشير كم سبحوا لك في الروا ...
ج وألهوك لدى اليكور خفضوا الرءوس ووتروا ...
بالذل أقواس الظهور ماذا دهاك من الأمو ...
ر وأنت داهبة الأمور أين الروية والأنا ...
ة وحكمة الشيخ الخبير دخلوا السرير عليك ...
يحتكمون في رب السرير أسد هصور أنشب ...
الأظفار في أسد هصور قالوا اعتزل قلتاعتز ...
لت الحكم لله القدير ظنوا بضائع حقهم ...
وضننت بالدنيا الغرور وهذا منطق لا يعجب ولي الدين في شيء، فهو يرى السلطان أهلا للوم والتفريغ ويجب أن ينال جزاء ما أسلف للناس من مَحن وأزراءَ، بل أنه ليذكره بالمجد البائد تهكما وتشفيا، ويعجب لغفلته وبلاهته، وكيف صم أذنيه عن النصيحة، وسدر في غوايته مع أن الشيب قد وحظ لحيته ورأسه وقضى من الزمن ما يتيح له العبرة والعظة، لو رزق قليلا من الحكمة والروية.
ويصف المعركة الدامية التي انتهت بسقوطه وأسره، ويضحك منه إذ ضرع أمام الجند ذليلاً باكياً وأخذ يستجير بمن أعرض عنه، حتى ذاق عاقبة ختوره وغدره، فسقط من عليائه دامي القيد، منحني الظهر، إلى حيث يقضي أيامه الأخيرة في محبسه الذليل!! وللقارئ أن يلمس هذا كله من قول ولي الدين وعظتك واعظة القتير ...
ورأيت منقلب الدهور وربيت في مجد الأمير ...
ولم تمت موت الأمير لما سلبت الحكم قلت ...
الحكم لله القدير ورآك جندك ضارعا ...
لهمو ضراعات الأسير لقد استجرت بمعشر ...
ما كنت فيهم بالمجير هي غارة لكنها ...
دارت على رأس المغير من ذا استشرت لها ولم ...
تك في الحياة بمستشير لقد استطرت بشر ...
يومك كل شر مستطير وخترت يا عبد الحميد وما ...
استحيت من الختور من عاش يستحلي الشرور ...
يموت من تلك الشرور إن الثلاثين التي ...
مرت بنا مر العصور وهبتك تجربة الأمو ...
ر فعشت في جهل الأمور من كان يدعوك الخبير ...
فلست عندي بالخبير وقد كان مجال القول ضيقاً أمام شوقي فترك عبد الحميد في منتصف القصيدة، ولجأ إلى تهنئة الخليفة الجديد باسم الإسلام ومصر، وأسهب في مديح الجيش الذي أسقط السلطان منوها بأبطاله وكماته، وقد يحس القارئ شيئاً من التناقض بين الناحيتين، وذلك هين مقبول من شاعر مجامل يودع راحلاً أسيراً ببعض ما يجب في رأيه من الإغضاء والتسامح!! والمجاملة في بعض أحوالها توقع في الحيرة والتناقض دون معابة أو مؤاخذة.
على أن ولي الدين يؤاخذ شوقا مؤاخذه عنيفة، فهو - في رأيه - يتحسر على المال المبذول، والخير الدرير.
إذ يتحسر على عبد الحميد، وكان عليه أن يقدر فرحة العالم الإسلامي بسقوط الخليفة دون نظر إلى عواطفه الذاتية! وكأني بشوقي وقد حز في نفسه أن يعرض به ولي الدين أعنف تعريض إذ يقول لما أدبل من السر ...
ير بكاه عباد السرير نذروا النذور لعوده ...
هيهات يرجع بالنذور أسفوا عليه وإنما ...
أسفوا على المال الدرير والبعض كان جريره ...
فسمايتيه على جرير طلبوا له عفو الغفور ...
وشذ من عفو الغفور وقد سكت شوقي عن هذا التعريض المرير.
إذ كان يلزم الصمت إزاء ما يوجه له دائماً من تجريح، وقد يكون السكوت من ذهب في بعض الأحوال.
.
وأظنه كذلك الآن ونحن بعد ما تقدم من العرض السريع نستطيع أن نحكم على القصيدتين معا بسلاسة الأسلوب، وغزارة المعاني، وتنوع الأغراض، واستقامة التعبير؛ إلا أننا نلمس بين القصيدتين فوارق متعددة من عدة نواح 1 - فقصيدة شوقي أشبه ما تكون بخطبة رسمية تلقى في حفل عام، فيها أولاً من الخليفة السابق، ومدح الجيش المنتصر ثانياً ثم هنأ السلطان الجديد بالخلافة ثالثاً، وأعلن اغتباط مصر والعالم الإسلامي به رابعاً! وليس ذلك بمستغرب من شاعر يعبر عن روح القصر الخديوي، ويتلقى وحيه الشاعري من الحاشية والبلاط.
أما قصيدة ولي الدين فهي ترجمة أمنية لعواطفه، وتصوير شامل لابتهاج المخلصين، بزوال العهد الغاشم، دون أن يتقيد فيها بوجهة نظر خاصة، والشاعر الطليق يجد من اتساع المجال ما لا يحده المرهق بالقيود والأثقال.
2 - كان شوقي يسير على القتاد في قصيدته فهو يدعو إلى التسامح والإغضاء عن مستبد جارم لا يعقل أن يتسامح معه الناس ويلتمس الأعذار لطاغية سقطت أعذاره، وشاعت في الملأ مثالبه ومخالبه.
وطبيعي ألا يجد من الحجج ما يسعفه ويقوي دفاعه، وعلى النقيض منه كان ولي الدين ممتلئ اليدين بأداته وبراهينه، هذا غير شعوره المبهج بانتظار آرائه، وتحقيق آماله وأشواقه 3 - بلغ شوقي القمة حسين تكلم عن الفانيات في قصر الخليفة، وما كان لهن من عظمة ودلال، وما أسدل فوقهن من بهجة وبهاء، ورسم ألواحاً بديعة للسرور الزائل والنعيم السالف، بينما بلغ ولي الدين القمة في ناحية مضادة، إذا استسلم لخواطره الحزينة فأسمعنا إحسانا مشجية تدمع على الضحايا الأبرياء، والصرعى الشهداء، وطاف بخياله على الأجساد الثاوية بين الجنادل والصخور، والزهور المضرجة بدماء شبيبتها الزاهرة، واليتامى البائسين من الصبية والأرامل.
ولأنه ليستنزل الدموع الحبيسة من المآقي الشحيحة إذ يقول: لله أجساد ثوت ...
بين الجنادل والصخور كانت زهور شبيبة ...
لهفى على تلك الزهور سقيت مياه دمائها ...
والروض رقراق الغدير كم خلقها من صبية ...
يتمت ومن شيخ كبير يترقبون مآبها ...
إن المآب إلى النشور وممنعات في الخدو ...
ر تموت حزناً في الخدور ترجو زيارة حبها ...
نبت الزيارة بالمزور لم يجدها نصح القبيل ...
ولا تسلت بالعشير أودي الردى بنصيرها ...
فقدت تعيش بلا نصير لا بالعشي تضيق من بث ...
ولا عند البكور وأنا أجد لهذه الأبيات وأشباهها في قصيدة وأي الدين مربراً، ولذعاً دامياً، وجودة الشعر تتوقف على ما يثيره في النفس من كوامن الأحاسيس، وما يهيجه من حرق الوجدان (أما بعد) فاقد كان لهاتين القصيدتين الخالدتين دوى ورنين، عند نشرها لأول مرة في الصحف السيارة، إذ فويلنا بكثير من الاهتمام والاحتفال، وتطلقت إليهما عقول المثقفين من الأدباء.
وقد رأيت أن ألفت إليهما الأنظار من جديد، فجلوت هذه الصفحة من تاريخ غير بعيد، ولله شوقي إذ يقول: وإذا فانك التفات إلى ألما ...
ضي فقد غاب عنك وجه التأسي محمد رجب البيوسي المدرس بأبي تيج الثانوية

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١