أرشيف المقالات

من أقوال السلف في أفضل العلوم وأنفعها وأشرفها

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2من أقوال السلف في أفضل العلوم وأنفعها وأشرفها
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالعلم أنواع وأقسام، منها النافع، ومنها الضار والمهلك، قال الإمام الذهبي: قال يحيى بن عمار رحمهما الله: العلوم خمسة: علم هو حياة الدين؛ وهو علم التوحيد، وعلم هو قوت الدين؛ وهو العِظة والذكر، وعلم هو دواء الدين؛ وهو الفقه، وعلم هو داء الدين؛ وهو أخبار ما وقع بين السلف، وعلم هو هلاك الدين؛ وهو الكلام.
 
وأفضل العلوم، وأشرفها، وأنفعها علوم الشريعة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عبادته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه.
 
وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: حقيقة العلم هو العلم بكتاب الله عز وجل، وبسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا أرفع في الكلام ولا أعظم قدرًا من كلام ربنا عز وجل، ولا أعظم ولا أرفع بعده من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، فالمُوفَّق والمُبارك مَنْ عَلِم وعلَّم، واجتهد في ذلك.
 
للسلف أقوال في أفضل العلوم، وأنفعها، وأشرفها، يسَّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.

 
العلوم: علوم شرعية، وعلوم يُقصَد بها منافع دنيوية:
قال العلامة السعدي رحمه الله: العلوم قسمان: علوم نافعة تُزكِّي النفوس، وتُهذِّب الأخلاق، وتُصلِح العقائد، وتكون بها الأعمال صالحة مثمرة للخيرات؛ وهي العلوم الشرعية وما يتبعها مما يعين عليها من علوم العربية.
 
والنوع الثاني: علوم لا يُقصَد بها تهذيب الأخلاق، وإصلاح العقائد والأعمال؛ وإنما يُقصَد بها المنافع الدنيوية فقط، فهذه صناعة من الصناعات، وتتفاوت بتفاوت منافعها الدنيوية، فإن قُصِد بها الخير، وبُنيت على الإيمان والدين، صارت علومًا دنيوية دينية، وإن لم يُقصَد بها الدين صارت علومًا دنيوية محضة لا غاية شريفة لها؛ بل غاياتها دنية ناقصة جدًّا فانية، وربما ضرَّت أهلها من وجهين:
أحدهما: قد تكون سببًا لشقائهم الدنيوي وهلاكهم وحلول المثلات بهم كما هو مشاهد في هذه الأوقات؛ حيث صار ضرر العلوم التي أحدثت المخترعات والأسلحة الفتَّاكة شرًّا عظيمًا على أهلها وغيرهم.
 
والثاني: أن أهلها تحدث لهم الزهو والكِبْر والإعجاب بها، وجعلها هي الغاية المقصودة من كل شيء، فيحتقرون غيرهم، وتأتيهم علوم الرُّسُل التي هي العلوم النافعة فيدفعونها ويتكبَّرون عنها، فرحين بعلومهم التي تميَّزوا بها عن كثير من الناس، فهؤلاء ينطبق عليهم أتم الانطباق قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [غافر: 83].

 
العلوم الشرعية نوعان: مقاصد، وهي علم الكِتاب والسُّنَّة، ووسائل إليها، مثل: علوم العربية بأنواعها، فإن معرفة الكتاب والسُّنَّة وعلومهما تتوقف أو يتوقف أكثرها على معرفة علوم العربية، ولا تتم معرفتهما إلا بها، فيكون الاشتغال بعلوم العربية لهذا الغرض تابعًا للعلوم الشرعية.
 
أفضل العلوم وأجلُّها:
• قال أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله: إني تبحَّرت في العلوم.....فلم أجد من العلم علمًا...أولى من علم معرفة المعبود وتوحيده والإيمان واليقين بآخرته، ليصح الخوف من عقابه، والرجاء لثوابه، والشكر على نعمه.
 
• قال ابن عيينة رحمه الله: أفضل العلم: العلم بالله، والعلم بأمر الله، فإذا كان العبد عالمًا بالله، وعالمًا بأمر الله، فقد بلغ، ولم تصل إلى العباد نعمة أفضل من العلم بالله، والعلم بأمر الله، ولم يصل إليهم عقوبة أشدُّ من الجهل بالله، والجهل بأمر الله.
 
• قال الإمام الشاطبي رحمه الله: اتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم وأعظمها أجرًا عند الله يوم القيامة.
 
• قال الإمام ابن حزم رحمه الله: أجلُّ العلوم ما قرَّبك مِن خالقك تعالى، وما أعانك على الوصول إلى رضاه.
 
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أفضل العلوم في تفسير القرآن، ومعاني الحديث، والكلام في الحلال والحرام: ما كان مأثورًا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى زمن أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم.
 
وما حدث بعدهم من التوسُّع لا خير في كثير منه، إلا أن يكون شرحًا يتعلَّق بكلامهم، وأمَّا ما كان مخالفًا لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه، وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة، فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق، إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا في كلامهم ما يُبيِّن بطلانه لمن فهمه وتأمَّله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة، والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه مَنْ بعدهم ولا يُلِمّ به، فمن لم يأخذ العلم من كلامهم، فاته ذلك الخيرُ كله.

 
• قال العلامة ابن القيِّم: فليس العلم في الحقيقة إلا ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل طلبًا وخبرًا، فهو العلم المزكِّي للنفوس، المُكمِّل للفطر، المُصحِّح للعقول، الذي خصَّه الله باسم العلم، وشهد لأهله أنهم أولو العلم؛ فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ [الروم: 56]، وقال: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 18]، والمراد أولو العلم بما أنزله على رسله ليس إلا؛ وليس المراد أولو العلم بالمنطق والفلسفة وفروعهما، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، فالعلم الذي أمره باستزادته هو علم الوحي، لا علم الكلام والفلسفة والمنطق.
 
• قال العلامة السعدي رحمه الله: علم القرآن أجَلُّ العلوم وأبركها وأوسعها، وبه تحصل الهداية إلى الصراط المستقيم، هداية تامة، لا يحتاج معها إلى تخرُّص المتكلفين، ولا أفكار المتفلسفين، ولا لغير ذلك من علوم الأوَّلين والآخرين.
 
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي، فالضلال العمل بغير علم، والغي اتِّباع الهوى.
 
العلم النافع:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما، ولا نجاة له إلا بالتعلُّق بسببهما، فمن رُزِقهما فقد فاز وغَنِمَ، ومن حُرمهما فالخير كلّه حُرِمَ، وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم، وبهما يتميَّز البرُّ من الفاجر، والتقيُّ من الغويِّ، والظالم من المظلوم.
 
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
العلم النافع هو ما باشر القلوب، فأوجب لها السكينة والخشية والإخبات لله، والتواضُع والانكسار له.

النافع يدل على أمرين:
أحدهما: على معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى، والصفات العُلَى، والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبَّته ورجاءه والتوكُّل عليه، والرِّضا بقضائه، والصبر على بلائه.
 
والأمر الثاني: المعرفة بما يحبُّه ويرضاه، وما يكرهه ويُسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع.
 
• قال العلَّامة السعدي رحمه الله:
علم القرآن...وهو العلم النافع، الذي إذا طلبه العبد أُعِين عليه.

العلوم النافعة هي العلوم الشرعية، وما أعان عليها من علوم العربية بأنواعها، ومن العلوم الشرعية تعلم الفنون المعينة على الدين، وعلى قوة المسلمين، وعلى الاستعداد للأعداء للمقاومة والمدافعة، فإنها داخلة في الجهاد في سبيل الله، فكل أمرٍ أمرَ به الشارع، وهو يتوقف على أمور كانت مأمورًا بها، والله أعلم.

العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطريق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك فإمَّا أن يكون ضارًّا، أو ليس فيه فائدة.

العلم النافع...العلم المزكِّي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين، وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية.


العلم النافع بما جاء به الكِتاب والسُّنَّة الكفيل بكل خير ديني ودنيوي وأخروي.
 
نسأل الله أن يرزقنا العلم الصحيح المؤيد بالعقل والنقل والفطرة، وهو العلم النافع الذي يعرفه العبد من جميع نواحيه، وهو العلم الذي يربط الفروع بأصولها، ويرد الأسباب وآثارها ونتائجها إلى مسببها، وإلى الذي جعلها كذلك، وهو العلم الذي لا ينقطع صاحبه بالمخلوق عن خالقه، وبالآثار عن مؤثرها، بالحكم والأسرار والنظامات العجيبة عن محكمها ومنظمها ومبدعها.
 
هذا العلم هو الذي يثمر اليقين، وتحصل به الطُّمَأْنينة، وتتمُّ به السعادة والفلاح، ويثمر الأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة المُصلحة للدين والدنيا.
 
فائدة: من علامات العلم النافع:
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
من علامات العلم النافع: أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا، وأعظمها الرياسة والشهرة، والمدح، فالتباعُد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع، فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار، كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته، بحيث يخشى أن يكون مكرًا واستدراجًا، كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبُعْد صيته.
 
ومن علامات العلم النافع: أن صاحبه لا يدَّعي العلم، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل، إلَّا من خالف السُّنَّة وأهلها، فإنه يتكلَّم فيه غضبًا لله، لا غضبًا لنفسه، ولا قصدًا لرفعتها على أحد، وأهل العلم النافع...يسيئون الظنَّ بأنفسهم ويُحسنون الظن بمن سلف من العلماء، ويُقرُّون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم، وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها.
 
• قال العلامة السعدي رحمه الله: وعلامة كون العلم نافعًا...أنه يزيل عن القلب شيئين، وهما: الشبهات، والشهوات، فالشبهات تُورِث الشك، والشهوات تُورِث درن القلب وقسوته، وتثبط البدن عن الطاعات، وأن يجلب للعبد في مقابلتهما شيئين، وهما: اليقين الذي هو ضد الشكوك، والإيمان التام الموصل للعبد لكل مطلوب، المثمر للأعمال الصالحة، الذي هو ضد الشهوات، فكلما ازداد الإنسان من العلم النافع، حصل له كمال اليقين، وكمال الإرادة، ولا تتم سعادة العبد إلا باجتماع هذين الأمرين، وبهما تنال الإمامة في الدين، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
 
فائدة: علامة العلم الذي لا ينفع:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: علامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يُكسِب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء، وطلب العلو والرفعة في الدنيا والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء، وصرف وجوه الناس إليه، وهذا بخلاف ما كان عليه السلف من احتقار نفوسهم، وازدرائها باطنًا وظاهرًا.

 
ومن علامات ذلك: عدم قبول الحق والانقياد إليه، والتكبُّر على من يقول الحق.
 
ومن علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبُّر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم، ونسبتهم إلى الجهل، وتنقصهم ليرتفع بذلك عليهم، وهذا من أقبح الخصال.

 
فنسأل الله تعالى علمًا نافعًا، ونعوذ به من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعاءٍ لا يسمع، اللهم إنَّا نعوذ بك من هؤلاء الأربع.

 
فائدة: من محدثات العلوم المنهي عنها:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وما أُحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها، وسمَّوها علومًا، وظنُّوا أن من لم يكن بها عالمًا بها فهو جاهل أو ضالٌّ، فكلها بدعة، وهي من محدثات الأمور المنهي عنها.

 
فمن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر...ومن الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول، وهو أشد خطرًا من الكلام في القدر؛ لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله تعالى، وهذا كلام في ذاته وصفاته تعالى.
 
ومن ذلك أعني - محدثات العلوم- ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية وردّ فروع الفقه إليها، وسواء أخالفت السُّنَن أم وافقتها، طردًا لتلك القواعد المقررة.
 
فائدة: التوسُّع في بعض العلوم يحرم علمًا نافعًا:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: التوسُّع في علم الأنساب هو مما لا يحتاج إليه، وقد سبق عن عمر، وغيره، النهيُ عنه، مع أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يعرفونه ويعتنون به.
 
وكذلك التوسُّع في علم العربية لغةً ونحوًا هو مما يشغل عن العلم الأهم، والوقوف معه يحرم علمًا نافعًا، وكره أحمد التوسُّع في معرفة الله وغريبها، وأنكر على أبي عبيد توسُّعه في ذلك، وقال: هو يشغل عمَّا هو أهم منه.

 
ولهذا يُقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام، يعني: أنه يُؤخَذ منها ما يصلح الكلام، كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام، وما زاد على ذلك فإنه يفسده.
 
فعلى المسلم أن يختار من العلوم الأنفع، قال الإمام النووي رحمه الله: ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع.
 
ومن ترك أفضل العلوم وهو قادر عليها، واشتغل بأدنى العلوم فقد خسر كثيرًا، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: من شغل نفسه بأدنى العلوم، وترك أعلاها وهو قادر عليه، كان كزارع الذُّرة في الأرض التي يجود فيها البُرُّ.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢