أرشيف المقالات

جيل وجيل!

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
للأستاذ محمود البشبيشي من الأجيال ما يطويه الزمن تبعاً لقانون الحياة، ولكنة يطوي الزمن تبعاً لقانون الفكر، فلا يذهب الزمن إلا بأهله، ويذهب فكر أهله في الزمن كل مذهب! والذي يطيل في عمر الأجيال برغم فنائها، ويقصر في عمرها وهي على قيد الحياة، وهو قوة الروح فيها، وحيوية الفكرة في مجموع أفرادها .

هذا ما أوحاه إلى حديث بيني وبين ولدي (حسين) وهو شاب له نظرته الخاصة في نثره وشعره، لا يعترف بنظرة غيره إلا بمقدار ما فيها من صلات تربطها بفكرته وبصدق المنطق والعقل.
.

تناقشنا، فكنت أنا وحججي أمثل جيلاً مضى، أو أوشك أن يمضي، يحاول أن يحرج ويقنع ويصلح جيلاً جديداً تجسم في نفس ولدي وفكره.

وكان هو مؤمناً كل الإيمان بقوله، وإذا وجد الأيمان تفتحت أكمام الحياة والغاية عن ثغور النجاح باسمة جميلة.
.

وحاولت أن أفهمه أن البقاء للقوي، وأن الذي لا يحصن نفسه، ولا يتخذ الأهبة للقاء الشرور والأفراح معاً لا يستطيع أن يقف على قدميه طويلاً، واضطرب أمام النسيم العابر قبل العاصفة الشديدة، وجار عليه كل من أتصف بالقوة وتحصن بها.

شخص كهذا يقطع مسافة عمره كما يقطعها الحيوان والنبات، لا يسلم من اعتداء القوي والضعيف!.
حاولت أن أفهمه هذا فقال: إذن فأنت ترى أن البقاء للقوي، وان الذي لا يتصف بالقوة مثله كمثل النبات والحيوان الضعيف، وظاهر قولك من حكمك على النبات بالضعف أن الإنسان يزرعه ليقلعه! وهذا ما يحدث.

ولكني لا أرى ضعف النبات كما تراه أنت ضعفاً بمعناه الذي هو ضد القوة، بل أراه قوة البقاء في النبات! فالقوة عندي ليست تلك التي يقع تحت صفاتها التدمير والجور والشدة، وإنما هي قوة الروح فقط! .

وهذا الضعف في النبات هو أسمى درجات قوة الروح، فأنت لا تقتلع النبات إلا بعد تمام أكتماله، أي بعد تمام قوة الروح فيه، فتستفيد منه ذلك غذاء وبناء للأجسام، وهذه الفائدة هي قوة الروح في النبات، فهو لا يفنى لضعفه، إنما ليكون حياة أخرى ويجدد بناء آخر، الفضل فيه لقوة روحه الكامنة في عناصره.
هكذا النبات، وفلسفة الطبيعة في النبات، يضعف ليخلق قوة، ويفنى ليجدد حياة.

وليت الإنسان كذلك.
- لقد أصبت في ذلك يا بني، ولكن الذي يصلح للنبات قد لا يصلح للإنسان، والذي تراه أنت فلسفة في طبيعة النبات قد لا تعترف به العقول البشرية - لا لضعف فيه - وإنما لأن هذه العقول قد اختلط بها من صفات الحياة القبيحة الكثير، فامتزج بها الطمع، ودفعها إلى حب السيطرة على أشياء الغير، فكانت العداوة، وكانت البغضاء، وشعر الإنسان بأن لا أمان من جانب أخيه الإنسان، وصار كل فرد إذا صادق ونسج ثوب الوفاء، نسج بجواره ثوب الرياء؛ وإذا أخذ العدة لحسن اللقاء، أخذ الأهبة لدواعي الفراق، فاضطربت الحياة.

لهذه الأسباب يصعب تطبيق فكرتك على حياة الإنسان، ويصدق منطقها في حياة النبات، لأن الطبيعة عادلة في تصرفاتها، فلم نر نباتاً اعتدى على نبات، فظهر في زمن نبات آخر.
كل شيء يسير في الطبيعة وفي منطقه عدل وحكمة، فللقمح ميعاد، وللقطن ميعاد، ولا يصلح الأول في زمن الثاني.
وهكذا سائر النبات.

فهل الإنسانية كذلك؟ لو كانت كذلك ما واشتعلت يا بني اليوم النيران، واضطرب ميزان الحياة، وذهبت الرحمة من القلوب فقال: ليس معنى هذا أن الفكرة غير صائبة، وأن فلسفة الطبيعة فيها نقص، بل لعل ذلك يثبت ضلال الإنسانية وتحكم شهواتها في ميولها ونزعاتها الفكرية. - هذا حق يا بني، ولكن ما فرط الناس في أمور دنياهم والإنسانية والروابط الدينية، إلا منذ أن فرطوا في شخصيتهم وأخلاقهم، فأصبحوا لا يحكمهم شعور حي، ولا يقيد شرورهم رحمة، وأساء تقديرهم للأشياء، فعبدوا الكم، وابتعدوا عن الكيف! ونشأ فيهم اختلاف الطبقات، فقدروا الغنى بالمال، والفقر بقلته، ما أبعد القوم عن الصواب.

ما أبعدهم! ورب فقير له من عزة نفسه ثروة تسجد أمامها جبابرة السنين.

ورب غني تمر به الأيام كما تمر على الجماد لا تشعر به لأنه فقير الروح! - أنت ترى يا والدي أن سبب انحدار الإنسانية هو التفريط في أمور الدنيا والدين.

وأنا أرى أن السبب هو فساد التأمل في أفرادها واختلاطه بحب الذات، فأصبح الإنسان لا يرى الشيء حسناً إلا إذا كان له نصيب من حسنه!.

ولكن هناك تأملات نقية وتأملات ساقطة.

وأكبر الظن أن سر اضطراب الإنسانية اليوم هو تغلب التأملات الساقطة التي غلب عليها حب الذات.

ولابد للحياة من تأمل.

إما في غاية الحياة ومثلها العليا الإنسانية، وإما في الخلاص من قيود الحياة ومثلها الإنسانية العليا.
وفرق بين التأمل الأول والتأمل الثاني يصل بك الأول إلى الغاية - إذا صدقت فيه - ولم تأخذ في ظنون الأمور بيقينها.
وهذا النوع كان موجوداً في أيام طفرة الإسلام الأولى، أيام كان تأمل الرسول الكريم يتغلغل في المسلمين جميعاً.

ما أحوج الإنسانية اليوم إلى هذا التأمل، فإنه إذا وجد في أمة بعث فيها روحاً يجعلها لا تصل بين شريرها ومجاهدها الصادق إلا مقدار ما يُصلح الثاني من أمر الأول، ولا تحث على جوار النقائض إلا بمقدار ما يُشعر الحَسنُ القبيح بأن فيه قبحاً!! - إذن أنت ترى يا بني أن الإنسانية اليوم تأملت، ولكن في الخلاص من قيود الحياة وثقل مُثلها الإنسانية وتبعاتها.

هذا حق يا بني، فإن الفضائل اليوم أصبحت قيود الحياة، لأن الإنسان قد غرق في الشهوات وحب الذات، ولأن نفسه قد فسدت فرأى الشرور فضائل!! وما هذه الحرب الضروس غير صورة لفساد تأمله.

لقد صبغت الحرب يا بني كل شيء في الحياة بصبغة سوداء، وظاهرها الخوف وباطنها الموت والدمار، فدعنا من فلسفة تقودنا إليها، وعرج بنا على ناحية أخرى.

فقد عرفت منك أن التأمل أساس الحياة، وأن هناك تأملاً في غاية الحياة ومثلها، وتأملاً في الخلاص من غاية الحياة ومثلها وتبعاتها، وأن الجيل يفسد بفساد تأمله، كما قلت لي إن القوة هي قوة الروح، وإن الضعف والفناء قد يكونان قوة، والفناء يجدد حياة.

عرفت كل هذا فأحسست أن الجيل الحديث.
- متجسماً في روحك وفكرك - يختلف كل الاختلاف عن جيلنا الذي ذهب بعضه وبقى بعضه! وأدركت أن الأجيال تتأثر بالفكرة التي تتولد فيها وتمتاز بها، ولكني لا أزال أشعر بامتياز جيلنا بالقوة والهيبة والشهامة.

أحس فيه الهيبة الفطرية التي تتجلى في رهبة الابن لوالده والتلميذ لأستاذه، وكل الناس أمام رجل الدين.
ولا زالت أشعر بامتيازه بسعة المعارف والمدارك وقوة الصبر والمجالدة.
ولعل الدكتور زكي مبارك على حق في ثورته على شباب الأدب اليوم، وقلة صبرهم واضطلاعهم.
فقال: هذا حديث آخر أحب أن أطلعك على خواطري فيه، فهنا خزان ماء صناعي يُزود بالماء في كل وقت، وهناك نبع سيال له من طبيعته مدد لا ينقطع، فأيهما تراه أنفع وأفضل؟ إن الأدباء كذلك: فيهم من استفاد علمه وأدبه في كثرة الاطلاع، فهو مقيد بألفاظ محفوظة، وأفكار مسبوقة، وإذا جاء منه الجديد جاء بعد عناء.
وفيهم من فطر على دقة الحس وسهولة الطبع، فهو يغرف من بحر متماوج بين وجدانه وعقله.
كل أفكاره جديدة لأن شعوره الفطري يتجدد، ومن هؤلاء الفلاسفة من الشعراء والكتاب، وقد يكون بعض الشباب اليوم من النوع الثاني. - هذا حق يا ولدي، ولكنك لا تستطيع إنكار فضل الكثير منا، فقد كشفنا لكم ظلمة الطريق وقدنا القافلة وسط تيارات من الشدة والظلم، حتى وصلنا بكم إلى النور، وحتى استطاع الابن منكم أن يجادل الوالد ويناقشه! واضطر الوالد أن يقبل منه النقد لأنه هو الذي هداه إلى سبيله! - حقاً أنا وغيري لا نستطيع إنكار قدرة الأستاذ الزيات على حسن الصياغة ودقة المعنى وعبقرية الفكرة، وسهولة الدكتور زكي مبارك وجمال عبارته الفني الذي يخيل إلي أنه ينسجها من روحه ودمه، وتسلسل الدكتور طه حسين واختصاصه بأسلوب رائع، ومنطق الأستاذ أحمد أمين وحرصه على الفكرة، لا أستطيع أن أنكر هؤلاء جميعاً وغير هؤلاء لأني أبحث عن الحق، كما أني لا أستطيع أن أنسى الرافعي وسحر الرافعي وشوقي وحافظ والزهاوي، لا أستطيع أن أنكر فضلهم، كما أحب ألا ينكر منا النابغ.

فقد كان منا الشابي وشقيقي الراحل؛ ولم يزل فينا صالح جودت، والعطار، ومحمود إسماعيل، ومختار الوكيل، والعوضي الوكيل.
ولم يزل فينا الذي يقول: قد عصرتُ الفؤاد خمرة وجد ...
وسكبت العصير في شفتيك فسكرنا من الغرام وجُنتَّ ...
نشوةُ الحب من سنا عينيك قبلات الهوى صلاةُ محب ...
قيَّد الحبُّ أصغريهِ عليك! والذي يقول داعبت ثغرها بثغري وقالت ...
دائماً أنت في ابتسام وفنَّ قلت لا غرو لو تبسم ثغري ...
مذُ رأى القلب في الضلوع يغني ومنا الذي يقول: لا تهابي الفناء روحي يوماً ...
إنما المرء لا محالة مودي! وأضحكي واسخري فدهرك يجري ...
ضاحكاً ساخراً لتلك اللحود! ثم فينا الذي يقول: فسيري بي يا ربة الآمي إلى السدره فإني ضقت بالإنسان لما أفسد الفطره ألا يا ليتني همت كما هامت به فكره ولم ألق إلى الأرض كياناً سجنه بَشره وأخيراً ما أجمل أن يتناقش جيل وجيل! وما أروع حديث الأب لولده والولد لوالده! إن في مثل هذا الحديث صلة روحية تسعد الآباء، وتشرح صدر الأبناء، وتخلق في نفوسهم صفة الاعتماد على النفس واستقلال الشخصية. محمود البشبيشي حاشية: كل ما جاء على لسان ولدي (حسين حسني محمود البشبيشي) فهو من فكره ويكاد يكون في ألفاظه.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢