أرشيف المقالات

تسخير ما في الكون للإنسان

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
تسخير ما في الكون للإنسان

كرم الله تعالى الإنسان بتسخير الكون له، وتسخير ما فيها لمنفعته وتمكينه من دوره الذي خلقه من أجله، حيث سخر له ما هو أكبر منه خلقاً كالسماوات والأرضين، وأعظم منه جسماً كالأنعام، وغير هذا كثير ومختلف.
وإن كل ما أوجد في هذا العالم فإنما أوجده لأجل الإنسان.
كما قال تعالى ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ﴾[1].

يقول ابن كثير: يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السموات سقفاً محفوظاً والأرض فرشاً ﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ﴾[2]، ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك وما هناك إلى هنا وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر رزقاً للعباد من شرب وسقي وغير ذلك من أنواع المنافع ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ﴾[3] أي يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهارًا[4].
 
وقال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾[5].
 
يقول الطبري[6] في تفسير هذه الآية: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ من شمس وقمر ونجوم ﴿ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ من دابة وشجر وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم ﴿ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ يقول تعالى ذكره: جميع ما ذكرت لكم أيها الناس من هذه النعم نعم عليكم من الله أنعم بها عليكم وفضل منه تفضل به عليكم وجميعها منه ومن نعمه فلا تجعلوا له في شرككم له شريكا بل أفردوه بالشكر والعبادة وأخلصوا له الألوهة فإنه لا إله لكم سواه[7].
 
وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾[8].
 
وقال الإمام الرازي[9] في تفسير هذه الآية: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ ﴾ أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ولا أحد من الحديد ولا أكثر هيبة من النار، وقد سخرها لكم وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها[10].
 
وقال الشيخ السعدي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾[11]، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له وأن رسله صادقون فيما جاءوا به، فهذه أدلة عقلية واضحة لا تقبل ريباً ولا شكا[12].
 
وكرم الله تعالى الإنسان حين مهد له الأرض، وجعلها صالحة للحياة بما خصها الله تعالى بهم من هواء وماء وغير ذلك من أسباب الحياة.
قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾[13].
 
قال الإمام الشوكاني: «أي: سهلة لينة تستقرون عليها، ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها»[14].
 
وقال الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: هو الذي سخر لكم الأرض وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم، من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة، ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾ أي: لطلب الرزق والمكاسب.
﴿ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحاناً، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة[15].
 
فآيات عديدة تتحدث عن الماء وكونه سبباً للحياة، وجوده ضرورة، توزيعه في الأرض بهذه الصورة رحمة من الله تعالى وفضل كبير، يقول الله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾[16].
 
وارتباط الماء بالإنبات والإثمار الذي هو طعام الإنسان وماشيته، ارتباط واضح ذكره القرآن في أكثر من آية، نذكر منها قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾[17] وقال تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾[18].
 
وأما ما يتعلق بالليلة والنهار ذكره القرآن إما بصيغة التسخير وإما بذكر الغاية من هذا التسخير، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾[19].
 
قال ابن كثير: «يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام، فمنها مخالفته بين الليل والنهار، ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصناعات والأعمال والأسفار، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك؛ ولهذا قال: ﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ أي: في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك ﴿ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك»[20].
 
هكذا سخر له في السموات والأرض لخدمته.
وأما ما ذكرناه هي مجرد أمثلة تؤكد ما ذهبنا إليه من أن الله تعالى يسر للإنسان سبيل حياته زماناً ومكاناً، وإلا فآيات التسخير كثيرة وفوائدها جمة.
 
ب: تكريم الإنسان بالجوارح والحواس:
لقد وضح لنا القرآن الكريم بأن الله تعالى خلق الإنسان على هذه الصورة البديعة وزوده بما ركب فيه من حواس وجوارح وغرائز وغير ذلك ليتمكن بكل هذه القوى من القيام بما وكل إليه من رعاية مسؤولياته وتكاليفه.
كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾[21]، قال الإمام النسفي[22]: «في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه»[23].
 
في تفسير هذه الآية: ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم.
والله سبحانه أحسن كل شيء خلقه.
فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب، وحسن التقويم، وحسن التعديل..
فيه فضل عناية بهذا المخلوق
 
لذلك أبين فيما يلي حديث القرآن الكريم عن الحواس والجوارح التي وهبها الله تعالى للإنسان وزوده بها وكونها سبباً من أسباب المسؤولية.
 
وهذه الجوارح والحواس هي الألسن والشفاه والأفواه والعيون والآذان والوجه والأيدي والبطن والأرجل والرأس والفروج وغير ذلك مما كمل الله به تعالى الإنسان وأعده لتحمل المسؤولية.
 
فكل جارحة وحاسة في الإنسان تتعلق بها أمور كثيرة من الواجبات والمندوبات والمكروهات والمحرمات وغير ذلك، فاللسان مثلا يتعلق به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقراءة في الصلاة وذكر الله تعالى وغير ذلك مما هو واجب أو مندوب، وكما يتعلق به من المحرمات والمكروهات فالقذف وشهادة الزور والكذب والغيبة والنميمة وغير ذلك.
 
ولذلك نجد القرآن الكريم في مقام التذكير الإنسان بنعم الله تعالى عليه يقول: ﴿ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴾[24] وأمرنا بالصدق في القول بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾[25] وتوعد من يقول الكذب بلسانه ونهى عن ذلك فقال: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾[26] ويقول مهددا أصحاب الإفك الذين افتروا الكذب على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها[27]: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾[28].
وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن اللسان وما يتعلق به من أحكام بل جعل الله تعالى الألسن شاهدة على أصحابها يوم القيامة يقول تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[29].
 
كما يتعلق بالأفواه والبطون كثير من الأحكام فكل أمر من الله تعالى بالأكل من الطيبات الحلال، وكل نهي يتعلق بالأكل من الخبيث الحرام، إنما يقصد به الفم والبطن يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾[30] ويقول ناهيا عن أكل الحرام: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[31].
 
كما يذكر القرآن الكريم في كثير من الآيات السمع والبصر أو الآذان والعيون ويبين أن الإنسان بهاتين الجارحتين يتوصل إلى الاعتبار بما في الكون من علامات ودلائل على وحدانية الله تعالى، كما جعل الله تعالى السمع والبصر والفؤاد سبباً مؤدياً إلى شكر الله تعالى يقول الله تعالى:
﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾[32].
كما أعلن القرآن الكريم عن ندامة الكفار وحسرتهم يوم القيامة بسبب عدم استعمالهم جوارحهم في طاعة الله تعالى في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾[33].
 
وكذلك نعى الله تعالى على من لا ينتفعون بهذا الحواس والجوارح في الهداية إلى ربهم ومثلهم بالأنعام في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾[34]، كما وصف الله تعالى المنافقين والكفار بالصم والبكم والعمى لأنهم لم يستعملوا حواسهم في عبادة الله والإيمان به يقول تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾[35].
 
وقد جعل الله تعالى الإنسان مسؤولا عن هذه الجوارح يوم القيامة وعن إستعمالها فيما شرع الله تعالى كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾[36].
فالله تعالى خلق هذه الجوارح في الإنسان ليقوى بها على القيام برعاية مسؤولياته وتحقيق مكانته في الحياة الدنيا، فكلما تكاملت في الإنسان هذه الجوارح أصبح متحملا لجميع التكاليف وإذا سلبت منه إحدى هذه الجوارح والحواس خفف عنه ما يتعلق بها من أحكام وتكاليف، وذلك من فضل الله تعالى ورحمته بعباد حيث لم يكلفهم إلا على قدر طاقتهم كما بين ذلك في قوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾[37]، وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾[38]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[39].
 
ومن مظاهر اليسر أن الله تعالى رخص للمريض والمسافر الفطر في رمضان، واكتفى منهما بالقضاة في أيام الصحة والإقامة بل اسقط فريضة الصوم على من لا يطيقه في قوله تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[40]، كما أباح للحاج المريض أو من به أذى من رأسه أن يحلق ويفدي بصيام أو صدقة أو نسك يقول تعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾[41].
 
كما رفع الله تعالى الحرج والإثم عمن ترك الجهاد لعماه أو عرجه أو مرضه يقول تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [42].
 
فتبين من كل ما سبق أن الحواس والجوارح التي زود الله تعالى في الإنسان من أسباب تكليفه ومن عوامل قيامه بتبعاته ومسؤولياته، فإنها القوى التي يتمكن بها من أداء التكاليف التي كلفها الله تعالى وحملها للإنسان، وبذلك يظهر رحمة الله تعالى بالإنسان حيث لم يحمله عسرا بل جعل الأمانة والمسؤولية والتي حمله إياها وأناط به رعايتها والقيام بها وفق طبيعته ومطابقة لتكوينه وخلقه.

[1] سورة إبراهيم.
آية 32.


[2] سورة طه.
آية 53.

[3] سورة إبراهيم.
آية 33.

[4] تفسير القرآن العظيم، لإمام ابن كثير، ص: 1036.


[5] سورة الجاثية.
آية 13.

[6] هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ولد عام 224 بطبرستان كان أعلم الناس في زمانه وكان مجتهدا لا يقلد أحد وله مؤلفات منها: جامع البيان عن تأيل أي القرآن، تاريخ الأمم والملوك، توفي عام 310هـ انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 8/134 وطبقات المفسرين لداودي 2/110.


[7] جامع البيان عن تأويل أي القرآن، لإبن جرير الطبري، 13/143، 144، دار الفكر.
ط: 1405هـ، 1984م.


[8] سورة الحج.
آية 65.


[9] هو أبو عبد الله بن محمد بن عمر الحسين بن الحسن بن علي التميمي الطبرستاني الرازي الملقب بفخر الدين والمعروف بابن الخطيب الشافعي، ولد عام 544هـ كان إماما في التفسير والعلوم العقلية وعلوم اللغة لقب بشيخ الإسلام وله مؤلفات عديدة منها: التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب، المطالب العالية، المحصول شرح الوجيز.
توفي بهراة عام 606هـ انظر وفيات الأعيان 4/248 – 252، البداية والنهاية 13/55 وطبقات المفسرين لداودي 2/215 – 218.


[10] التفسير الكبير، لإمام فخر الدين الرازي، 12/55، دار الكتب العلمية.
ط: الثانية 1425هـ، 2004م.


[11] سورة الجاثية.
آية 13.

[12] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن السعدي، ص: 936.


[13] سورة الملك.
آية 15.


[14] فتح القدير، لإمام الشوكاني، ص: 1771.


[15] تفسير السعدي، ص: 1054.


[16] سورة الواقعة.
آية 68، 69.

[17] سورة النحل.
آية 10، 11.

[18] سورة عبس.
من آية 24 إلى 32.

[19] سورة الإسراء.
آية 12.

[20] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص: 1106.


[21] سورة التين.
آية 4.


[22] هو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي الفقيه الأصولي المفسر المتكلم صاحب كتاب (تفسير مدارك التنزيل) توفي سنة 710هـ انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 2/247 وتاج التراجم ص 111.


[23] مدارك التنزيل وحقائق التأويل، لإمام أبي البركات النسفي، 2/367، دار الفكر للطباعة والنشر.


[24] سورة البلد.
آية 9.

[25] سورة الأحزاب.
آية 70.


[26] سورة النحل.
آية 116.

[27] هي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق – رضي الله عنها – ولدت بمكة بعد المبعث بأربع أو خمس سنوات تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست كانت بليغة أدبية عالمة توفيت سنة 58هـ انظر: الإصابة 4/359 – 361 و الاستيعاب 4/356 – 361 وأسد الغابة في معرفة الصحابة 5/501.

[28] سورة النور.
آية 15.


[29] سورة النور.
آية 24.

[30] سورة البقرة.
آية 172.


[31] سورة البقرة.
آية 188.

[32] سورة النحل.
آية 78.


[33] سورة الملك.
آية 10.

[34] سورة الأعراف.
آية 179.

[35] سورة البقرة.
آية 171.


[36] سورة الإسراء.
آية 36.


[37] سورة البقرة.
آية 286.


[38] سورة البقرة.
آية 185.


[39] سورة الحج.
آية 78.

[40] سورة البقرة.
آية 184.


[41] سورة البقرة.
آية 196.


[42] سورة التوبة.
آية 91.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن