أرشيف المقالات

حديث في القرن التاسع عشر

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
للأستاذ خليل هنداوي التفت إلي محدثي - وهو شيخ وقور - وقال لي: إنني محدثك حديثاً عجباً! قلت: هات! قال: كنت في نهاية القرن التاسع عشر في وظيفة إفتاء للأسطول العثماني.
وألزمت أن أركب البحر من الدار العلية إلى شاطئ المغرب لمشاغل دينية، على باخرة يونانية صغيرة تميل كلما مال عليها الموج.
كنت في عزلة موحشة، لأني غريب لا تميل سحنة إلى سحنتي، ولا ينحني زي على زيي.
وصدفة جلس إزائي على المائدة رجل قد تجاوز الأربعين، ولكن ملامح الأسفار على وجهه، وقد استبد الشيب بأكثر مساحة رأسه.
أما همته، فلا تزال في صعود: يمشي فلا ينحني، ويتكلم فلا يتتعتع.
بادرني قائلاً بالألمانية: - هل تحسن الألمانية؟ - لا. سكت ريثما فرغت جفنة من الطعام وعاد سائلاً: - هل تحسن الفرنسية؟ - لا. - هل تحس الإنجليزية؟ - لا. ثم قال بلسان فصيح طلق كأنه أحد البداة: - وهل تحسن اللغة العربية؟ - أنا أبنها! - ما اسمك، وما وسمك، ومن أين، وإلى أين؟ أجبته على سؤاله، وعجبت من أمر هذا الرجل الذي كان ينبغي له لما صادفه من زيي أ يسألني بالعربية.
وقدم إلي نفسه بأنه مستشرق ألماني من هامبورج، قضى في الشرق زمناً طويلاً يبلو به الأخلاق، ويدرس العادات.
وكانت صحبتنا خلال هذه الأيام المعدودة، صحبة متينة وثيقة، تجاذبنا فيها ما اختلف ألوانه من الأحاديث.
وقبل أن يغادرني إلى بلده قال لي: - والآن أريد أن أسألك عن مسألتين، ولكني رجل لا أُحب النقاش الممل، والجدل القائم على المكابرة.
قال: - إنني اطلب إلى الله أن يميتني على دين عمر بن الخطاب! قلت له: - يا هذا! إن الدين دين محمد، فكيف تسنده إلى عمر؟! أجاب: - نعم.
إن الدين دين محمد، ولكني أدعو الله أن يميتني على دين عمر.

إن محمداً جاء بالدين ودعا إليه، وأبو بكر شد أًزره، وثبت أمره.
وجاء عمر ينشره يؤيده وينفذه.

ومات عمر والمسلمون من بعده لا يزالون يتخبطون في فتنة عمياء، عرفت أوائلها، ولا تعرف خواتمها! المسلمون اليوم على دين غير دين عمر.
وماذا - لعمر الله - ير عون من هذا الدين إلا رسومه؟ دين عمر يأمر بالصلاح وهم فاسدون.
دين عمر يأمر بالأمانة وهم خائنون، ويأمر بالصدق وهم كاذبون، ويأمر بالوفاء وهم غادرون.
سمعتُ هذا من محدثي، وبرقت لنفسي خاطرة أُحببت أن أوضحها، وأحببت أن الفت إليها أنظار المصلحين من رجال الدين: إن الأخلاق التي حث عليها الدين تنحصر في نوعين: الأخلاق الحسية، والأخلاق المعنوية.
أما الأولى فهي تتناول الظاهر وتجعل من الرجل الذي يتمسك بها رجلاً فاضلاً محترماً.
وإلى هذا النوع من الأخلاق يميل المصلحون، وعلى ممارسته يحثون.
على أن المسلمين في الحقيقة لم يتردوا في هذا الدرك الأسفل من الذل، لأن بعضهم يشرب الخمر أو يفسق أو يقامر، وإنا لنرى اكثر الأمم المتسلطة علينا غارقة في خمرها وفسقها وقمارها.

فلم يضرها ذلك شيئاً.
أما الجانب الأكثر خطراً في الأخلاق، فهو الجانب المعنوي الذي تقاس به حيوية الأمم.
ولعل هذا الجانب هو ما قصد إليه المستشرق، لأنه وجد أخلاقنا المعنوية، ومقاييسنا الروحية هزيلة جداً: فتاجرنا مثلاً يثرى بالخيانة والحيلة، وفقيهنا يرنع بالكذب، ومصلحنا يقصد جيبه قبل أن يقصد ربه.
ومثل هذا الجانب هو ما ينبغي للمصلحين أن يعالجوه! وقد عرف رجال الدين كيف نعت الرسول (ص) الكفر بالشرك الأكبر والرياء في الأخلاق بالشرك الأصغر.
ومن ذا الذي لا يذكر ذلك الأعرابي الذي قدم على رسول والرذائل حشو ثيابه، فقال له: إنه لا يستطيع أن يقعد عن الخمر، وعن الفسق، وعن القمار.
فما عالجه الرسول الحكيم إلا من الناحية المعنوية التي تقوي الشخصية وتنقي النفس قال له: - لا تكذب، وافعل بعد هذا كل شيء! لكن الأعرابي بعد يومين ترك كل رذيلة. وهاهنا روعة الفهم وروعة الحكمة! ولكن كيف يعمل مصلحون يتاجرون بالأخلاق الحسية على حساب الأخلاق المعنوية؟ ألتفت المستشرق إلى محدثي عن المسألة الثانية: - وما هو الفارق بين الشرقيين والغربيين؟ - فاعتذر صاحبي بأنه لا يعرف الغرب معرفة صحيحة، كما اعتذر الشيخ محمد عبده حين سأله الفيلسوف سبنسر عن أخلاق الإنجليز فاجاب المستشرق: - إن الشرق كفرد له قيمته وطيبة قلبه، بعكس الغربي الذي فسدت ذاتيته، وتعطلت محاسن نفسه.
ولكن الشرقي حين يندمج ويتكتل مع غيره لا يلد إلا كتلة فاسدة متفسخة، يسوقها الطمع، وتقتلها الأنانية.
بعكس الكتلة الغربية التي يسودها النظام، وتذوب فيها المصالح الفردية.
ولهذا يرجع سر نجاح الجمعية الغربية، وفشل الجمعية الشرقية! ولقد أصاب المستشرق الهدف إلى حد بعيد، لأن تربية الشرقي تربية ذاتية أنانية تدور حول نفسها، لا تعمل الخير ولا تطلب الإحسان في العمل إلا إذا عملت لنفسها.
بينما تربية الغربي تكاد تصبح تربية جماعية اجتماعية، كأنما أدركت هذه التربية قول الرسول (ص): يد الله مع الجماعة. ولكن ما عسى يقول هذا المستشرق لو عرف أن الشرقي الذي كان يعرفه قد مات، وان الشرقي اليوم قد أضاع طيبة القلب وأمانة النفس كفرد، وبهذا أصبح لا يصلح للحياة كفرد في نفسه ولا في مجتمعه! وهنا افترقنا.
لكن القدر هيأ لهما اجتماعاً ثانياً بعد أربعة أعوام في مدينة المستشرق - هامبورج - فاستقبل المستشرق صاحبنا وأحله في مثواه، لأنه عربي له عليه حق الضيافة.
وفي اليوم الثاني عرَّج به إلى الجامعة، وقدمه إلى رئيسها، وهو شيخ مفكر، لكنه غير محلول اللسان قال الرئيس لمحدثي بالعربية: - كيف رأيت بلادنا؟ - البلاد جميلة! - جميلة! الظواهر جميلة في انتظام، أما البواطن ففي انقلاب! ولكن إذا حكم الإنسان العقل أدرك الأمور بحقائقها فالتفت محدثي إلى الرئيس وقال: - على ذكر العقل وإدراكه للحقائق، أود أن أذكر هذه الفقرة من كتاب مخطوط قرأته في مكتبة - أيا صوفيا - وهو في التصوف، وأسمه (نور الأبصار) لمؤلفه الشيخ بهاء الدين اليانيلي من منطقة الألبان (صدر في سنة 1160هـ).
قال عن الشيخ العارف الأكبر السيد محيي الدين بن عربي: (ما عرفت رجلاً عرف الله عن طريق العقل مثل أفلاطون.

وأفلاطون فيلسوف يوناني تفتحت له الحكمة، وانزاحت عن عينيه الحجب.
وقد أوصى بأن ينقش على قبره: (الحكمة سلم العالم الأعلى، من علمها فقد علم القرب إلى بارئه، من تدبر نظر، ومن نظر انفتح ذهنه وعقله صفت نفسه، ومن صفت نفسه وصل إلى خالقه بدون واسطة!) وهنا طلب الرئيس إلى محدثي اسم الكتاب واسم مصنفه ومكانه.
وطلب إلى أستاذ في الجامعة أن يسافر لغده إلى - الدار العلية - لاستنساخ الكتاب.
ويضيف محدثي إلى ما قاله: وبعد شهرين علمت من قيم المكتبة أن أستاذاً ألمانياً نقل الكتاب، وأعطى القيم مكافأة حسنة.
خليل هنداوي

شارك الخبر

المرئيات-١