أرشيف المقالات

الفريضة المنسية: إنكار المنكر ولو بقلبك فقط

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2الفريضة المنسية..
إنكار المنكر ولو بقلبك فقط
 
ما أن أذَّن المؤذِّن معلنًا دخولَ وقت الصلاة حتى قام العمُّ سعيدٌ من نومه، فلبس حذاءه، وجلس على كرسيِّه، وتناول إبريقَ الماء...، وقال: بسم الله...، فأكمل وضوءه، وخرج من منزله متَّجهًا إلى المسجد.
 
• وبينما هو في الطَّريق سمع صوت موسيقا مألوفًا له، ذكَّره بأيَّام شبابه، فأخذه الفضول إلى هذه الموسيقا، وحدَّثته نفسه: أنَّ وقت الصَّلاة ما زال مبكِّرًا، فما أن وصَل إلى هذا الصوت حتى وجد شبابًا غافلين يتراقَصون على صوت موسيقا صاخبة، وتلاعب بهم الشيطان، فأصبحوا يرقصون كالمجانين.
 
هذا كله والعم سعيد واقف متسمرٌّ، أعجبه فعلهم، مخفيًا ابتسامةً؛ انبهارًا بما يصنعون، وقد ارتاح قلبُه لهذه المعصية، ولم ينكِرها – على الأقل - بقلبه، مذكِّرة له بأيَّام صِباه...
 
وبينما هو مسترسل في هذا اللَّهو ناسيًا صلاته إلَّا وقد أُقيمَت الصلاة! فانتبه من غفلته وعاد مسرعًا إلى المسجد.
 
• وفي الجانب الآخر خرج العم صالح إلى المسجد، وكان الطَّريق إلى المسجد يمرُّ على هؤلاء الشباب الغافلين، فمَرَّ عليهم وامتعض وجهُه من فعلتهم، وتمنَّى لو يستطيع إيقافهم أو نُصحهم.
 
إلَّا أنَّه خاف على نفسه منهم، ومن شرِّهم، فلم يتبقَّ أمامه إلَّا أن يَكرَه هذا الفعلَ بقلبه، ويكمل مسيرَه إلى المسجد لإتمام الصَّلاة.
 
• بالرغم من أنَّ العمَّ سعيدًا والعم صالحًا لم يشاركا في هذه المعصية ولم يتكلَّما ولم ينكِرا على أصحابها، فإن أحدهما أصاب والآخر أخطأ؛ فالعمُّ سعيد أُعجب كثيرًا بهذه المعصية، وتذكَّر أيامَ شبابه، وساقه الحنين إليها سوقًا من طريقه الذي قَصده إلى المسجد، فلم ينكِرها، لا بلسانه ولا بيده، والأدهى أنَّه أحبَّها بقلبه!
 
وهذا ما يقَع فيه كثيرٌ من الناس؛ حبُّهم للمعاصي والذنوب بتزيين الشَّيطان لهم هذه القاذورات.
 
والأدهى من ذلك أنَّ فريضة إنكار المنكر تكاد تنعَدِم عند النَّاس، إلَّا ما رحِم الله من الدعاة والمصلحين وغيرهم من أهل الخيرِ والإحسان.
 
حتى إنَّهم ربما لم يشاركوا في هذه المعاصي، ولكنَّهم أحبُّوها؛ وهنا يكمن الخطر.
 
• وممَّا يخيف ويبعث على دقِّ ناقوس الخطر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا عُمِلَت الخطيئةُ في الأرض، كان مَن شَهدَها، فكرِهها، كمن غاب عنها، ومَنْ غابَ عنها، فرَضِيها، كان كمَن شَهِدها))[1].
 
قال ابن رجب رحمه الله معلِّقًا على هذا الحديث: "فمَن شَهِدَ الخطيئةَ، فكرِهها بقلبه، كان كمَن لم يشهَدْها إذا عَجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضِيَها كان كمَن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكِرها؛ لأنَّ الرِّضا بالخطايا من أقبح المحرَّمات، ويفوت به إنكارُ الخطيئة بالقلب، وهو فرضٌ على كلِّ مسلم، لا يَسقطُ عن أحدٍ في حالٍ من الأحوال"؛ انتهى.
 
ومما يدلُّ على أهميَّة إنكار المنكر بالقلب:
• الحديث الذي رواه أبو سعيد الخُدري قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلِسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعفُ الإيمان))[2].
 
• وسمِع ابن مسعود رجلًا يقول: هَلَك مَن لم يأمُر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر، فقال ابنُ مسعود: "بَلْ هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَعْرُوفَ بِقَلْبِهِ، وَيُنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِقَلْبِهِ"[3]؛ يشير إلى أنَّ معرفة المعروفِ وإنكار المنكر بالقلب فرضٌ لا يَسقط عن أحد؛ فمَن لم يعرف المعروف وينكر المنكر بقلبه هَلَك.
 
فدلَّت هذه الأحاديث والآثار على أهميَّة إنكار المنكر للمسلم الغَيور على دينه، وأنَّه دائمًا في حالة إنكارٍ للمنكر بدرجاته الثَّلاث: (اليد، واللسان، والقلب)، بحسب الاستِطاعة، ومراعاة أحوال المدعوين، وهكذا.
 
فماذا دَهى قلوبنا؟ أصبحنا نحبُّ المنكرَ ولا ننكِره، بل تسرُّ قلوبنا به، إلَّا ما رحِم الله تعالى؛ فتدخل منزلك وتشاهد أبناءك يَنظرون للمنكر في جهاز التلفاز، ولا تنكِر عليهم، وتجد المديرَ يرى المنكرَ في مؤسَّسته ولا ينكر عليهم؛ بل ربما يأمرهم بذلك، وتجد المعلِّمة لا تَنصح طالباتها بالحِجاب، وقد تكشَّفَت نحورهنَّ وشعورهن ووجوههنَّ، والأمر كأنه لا يعنيها بشيء!
 
وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ كما في الحديث عن عبدالله بن مسعُود، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: ((ما من نبيٍّ بعثه الله في أُمَّةٍ قبلي، إلَّا كان له من أُمَّته حواريُّون وأصحاب، يأخُذون بسُنَّته ويقتدون بأمره، ثُمَّ إنَّها تَخلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ؛ يقولون ما لا يفعلون، ويَفعلون ما لا يُؤمرون؛ فمَن جاهدهم بيده فهو مُؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّةُ خردلٍ))[4].
 
فالشاهد من الحديث أنَّه لا يكون حبَّة خردلٍ من الإيمان لمن لم ينكِر بقلبه؛ بل انتفى عنه معنى الإيمان!
 
لذلك علينا أن نراجِع قلوبنا، وألَّا نرضخ للمنكر مهما عظم وكبر وفحش، ولا نهابه؛ بل ننكره حتى نثبتَ لله سبحانه وتعالى أنَّنا لا نرضى هذا، فيكون لك مَعذرة، وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على المعتدين في السَّبت أنَّهم قالوا لمن قال لهم: ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾﴿ ﴾ [الأعراف: 164].
 
ولنُزِل ما في قلوبنا من حبِّ هذه المعاصي والذنوب، ولنتذكَّر أنه سبحانه يُخرِج من النار مَن كان في قلبه مقدار حبَّة خردل من إيمان.
 
ولتعلم أخي المسلم وأختي المسلمة، أنَّ الإسلام اعتنى بالقلوب وما فيها أشدَّ الاعتناء، وأمر بإصلاحها، بل لا يقبل منها إلَّا القلب السَّليم، الذي سَلِم من حبِّ المنكرات، وكَرِهها، وأحبَّ طاعةَ الله، وانصاع لأوامره برِضًى.
 
إذًا؛ علينا بإصلاح قلوبنا، وألَّا نجعلها مرتعًا للذنوب والمعاصي وحبِّها، فربما يحلُّ عليك الموت وأنت في غفلة، والأعمال بخواتيمها، فربما تحدَّث لسانك بما في قلبك من المنكرات! وكم سمِعنا بأنَّ فلانًا مات ولسانه يدندِن بالغناء والعياذ بالله، وعلى النَّقيض من ذلك سمِعنا مَن مات ولسانه يلهج بذِكر الله وشهادةِ التوحيد؛ ويا لها من نهايةٍ سعيدة يتمنَّاها كلُّ مسلم.
 
فأصلح قلبَك يصلِح الله لك سائرَ أعمالك.



[1] سنن أبي داود (4345)، وهو حديث قويٌّ.


[2] رواه مسلم.


[3]مصنف ابن أبي شيبة (7/ 504).


[4] عياض بن موسى بن عياض: "إكمالُ المُعلم بفوائد مُسلم"، المحقق: الدكتور يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة: الأولى، 1419 هـ - 1998 م، ج 1، ص (290، 291).

شارك الخبر

المرئيات-١