أرشيف المقالات

الجارم الشاعر

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 الأستاذ عبد الجواد سليمان (الوفاء في شعره) في شعر الجارم ركن من الأركان العامرة يكاد يجزم كل من قرأ شعره في أجزاء من ديوانه الأربعة، وتتبعه في كل ما أذاعه أو نشرته له الصحف في أواخر أيامه أنه أكثر الشعراء المحدثين نظما في هذا الميدان، ذلكم هو (شعر الوفاء) والوفاء صفة إنسانية تجيش بها العاطفة اليقظة التي تهيم بحب من أحبت.
وقد كان مظهر هذه الصفة في شعر الجارم وفاؤه لمليكه، والوفاء للملوك ولاء، وولاء شاعرنا هو ذوب نفسه المؤمنة وعصارة وجدانه الصادق، سجله في عشرات القصائد ومئات الأبيات في شتى المناسبات الملكية السعيدة.
ثم وفاؤه لوطنه الصغير مصر ووطنه الأكبر الشرق، ثم وفاؤه لأصدقائه من شعراء وعلماء وعظماء وأساتذة يحييهم عن حب وتقدير أحياء، ويظل حافظا لودهم باقيا على عهدهم فيرثيهم بعد مماتهم رثاء يترجم عما ينطوي عليه قلبه لهم من حب ومودة وإخلاص؛ هذا إلى وفائه لمعاهده التي ورد فيها موارد الثقافة والمعارف يشيد بفضلها وينوه بذكرها ولا يتنكر لها؛ للغته ينافح عنها ولدينه يذود عنه. وسنقصر هذه الكلمة على النوع الأول من الوفاء (والوفاء بمعنى الولاء) الذي آثر به الجارم الجالسين على عرش مصر فأدى لهم ديناً في جيده من شعر يبقى على الدهر خالداً توقعه قيثارة الولاء وتهتف به ألحان الخلود. لم تفت الجارم مناسبة ملكية أو عيد من الأعياد (المصرية) إلا قيد لها أوابد فكره وتغنى فيها ببيان عذب وسحر مبين.
وكيف يفوت الجارم شيء من ذلك وقد غمره مليكه بفيض من إحسانه فقربه منه، وأصغى إلى شعره ينشده بين يديه، وأغدق عليه فضله وأسبغ عليه إنعامه؟ ففي قصيدة له سماها (التاحية الكبرى) قالها بمناسبة تولي الفاروق سلطته الدستورية يصف الجارم هذا اليوم التاريخي العظيم، فيجعله متوجاً على الأيام حتى إن الأيام التي سبقته في الوجود لتأسف على تقدمها عليه، ويود كل يوم منها لو حالفها حسن الطالع فتأخر ظهوره قليلا ليحظى بالشرف الذي ناله هذا اليوم؛ ثم تغبطه الأيام بعده فيتمنى كل منهما لو سعد فسبق في صحيفة المقدور ليدرك المجد الذي أدركه يوم الفاروق وأنى لكل منهما أن يبلغ ما أراد أو ينال ما تمنى؟ هذه العاطفة الجياشة بالولاء يخطها الجارم شعراً فيقول: - يوم غدا بين الدهور مملكا ...
يوما إليه مهابة ويشار الأمس أن تقدم خطوة ...
وغداً إطار صوابه أستئخار يوم جثا التاريخ فيه مدونا ...
لله ما قد ضمت الأسفار ثم يلتفت إلى المليك العظيم فيقول: - يكفيه أن ينمى لأكرم سدة ...
سعدت بها الأيام والأمصار بيت له عنت الوجوه خواشعا ...
كالبيت يمسح ركنه ويزار وإن الصورة الحية الناطقة التي صور فيها التاريخ جاثياً على ركبتيه خاضعاً ذليلاً ليدون محامد هذا اليوم، ويتلو صحفاً مطهرة من أسفاره لتدل على الطبع الشعري الأصيل والخيال الواسع في الجارم الذي يرهف سمعه وحسه للحوادث فيسجلها ويعبر عنها من قلبه فلا يبدو فيها أثر الصنعة والتكلف. وإن التورية التي تضمنتها كلمة (البيت) في البيت الأخير لمن التوريات الطريفة التي لا تنقاد إلا لشاعر ملك ناصية البلاغة وقبض على أزمة التصرف في فنون القول ليختار منها ما يهز القلوب ويبهر البلغاء، فقد لائم فيها الجارم بين خيال شعري جميل ونفحة روحية استقاها من نبع ثقافته الدينية، فالحج ركن من أركان الإسلام، والحجاج في حجهم يزورون الكعبة وهي البيت الحرام قبلة المسلمين ثم يطوفون حولها ويتمسحون ببعض أركانها خاشعين لله قد عنت وجوههم؛ متجردين إلا من لباس التقوى. والشعراء يدونون التاريخ بلغة الشعر لأنهم لا يقرون على سرد الحوادث جافة مجردة بل يلقونها في أفواف من تلك النفحات القدسية التي آثرهم الله بها، ويرسلونها أنفاسا شعرية تلين ما جف من حوادث التاريخ. والجارم في أبياته الآتية يسير على هذا السنن الشعري، فهو يلم فيها بما كانت عليه حال مصر قبل محمد على جد الفاروق، من ضعف وتدهور، وجهل وفوضى، ثم كيف انتعشت وتقدمت عندما تولى أمرها جد الأسرة العلوية، فضم الصفوف ووحد القوى، فبعثها من مرقدها فهبت متحفزة متوثبة تخطب المجد وتنشد الحياة الحرة الكريمة، ثم يذيل هذه الأبيات ببيت حكمي ضمنه مقابلة طريفة حيث يقول: - العلم يخفق للزوال سراجه ...
والعدل مندك الذرا منهار والناس في حلك الظلام يسوقهم ...
نحو الفناء تخبط وعثار فبدا (محمد كم) فهب صريعهم ...
حيا كذاك البعث والإنشار والتفت الرايات حول لوائه ...
ودعا الغفاة إلى المسير فساروا وأعاد مجد الأولين بعزمه ...
إيرادها لله والإصدار إن النفوس تضيق وهي صغيرة ...
ويضيق عنها الكون وهي كبار ووفاء الجارم الشاعر من نوع الوفاء الراكز في النفس الممزوج بغرائزها الذي لا يفارقها ولا يتخلى عنها في ساعة من ساعاتها.
وهل يخرج الإنسان على طبعه الذي طبع عليه أو يحيد عن فطرته التي فطره الله عليها؟ إنه لو حاول ذلك مرة لخانته طبيعته فجاء شاذاً مقلداً، يفضحه تقليده ويدل عليه شذوذه ولا يخفى على الناس تكلفه.
ووفاؤه لمليكه يلهمه في عيد ميلاده أبياتا جديرة أن تسمى بحق (شعر الولاء) عندما يؤرخ لهذا اللون من الشعر في أبواب الأدب العربي المعاصر. ففيها يصور (الفاروق) أستاذاً يلقن دروس الوفاء، وقد اتخذ النيل منه مجلس التلميذ؛ فتعلم من المليك الوفي لبلاده الوفاء بمائة وخيراته كل عام؛ وماؤه بالفاروق أعذب مورداً من ماء الحياة، بل إن ماء الحياة أثاره من مائه: - النيل بالفاروق أعظم مورداً ...
ماء الحياة ثمالة من مائه علمته صدق الوفاء فأصبحت ...
تتحدث الدنيا بصدق وفائه ومنحته خلق العطاء فغردت ...
صداحة الوادي بفضل عطائه يصف الجارم في بيتين بعد ذلك مليكه بأنه رجل الدين والدنيا فيأتيان بمنجاة من الزلل إذ يقول: - الدين والأخلاق ملء جنانه ...
وجلالة الأملاك ملء ردائه يهتز في برد الشباب كأنه ...
سيف يدل بمائه ومضائه حالف الجارم التوفيق في هذين البيتين كشاعر يمدح ملكاً؛ فلم يزل كما زل شاعر المأمون من قبل عندما امتدحه بقصيدة قال فيها: تشاغل الناس بالدنيا وزبرجها ...
وأنت بالدين عن دنياك مشغول حتى إن المأمون لم يرتض منه لنفسه هذا المديح حيث أظهره مظهر رجل من رجال الدين الزاهدين الذين نسوا حظهم من الدنيا فقال: ويحك، هلا قلت كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز: - فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ...
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله ثم هو يؤكد هذا المعنى في مناسبة عيد الجلوس، فاخراً بدولة الفروق القوية التي أصبحت بفضل ملكها وتمسكه بأهداب دينه موئل الإسلام وملاذه فيقول: - ملك من النور قد ضاءت دعائمه ...
كأنما شيد من هالات أقمار ودولة ركز الإسلام رايته ...
فيها على طود تاريخ وآثار وفي مناسبة تهنئته بعيد الفطر فيقول: - إذا اصطنع الله امرأ جل سعيه ...
وعمت أياديه وطابت نقائبه به ازداد دين الله عزاً ورددت ...
منابره آلائه ومحاربه وقور بدرس الدين يطرق خاشعاً ...
من النسك يرجو ربه ويراقبه بجانبه الشعب الوفي يحوطه ...
وترحمه أعضاده ومناكبه تحلى به عصر الرشيد وعزه ...
وسالف عهد الراشدين وذاهبه ثم يوفق إلى هذا المعنى الجليل في مناسبة أخرى منشداً في الفاروق: - قدوة للشباب قد عرف الجي ...
ل طريق الحياة من خطواته مرة سامقاً على صهوة الخي ...
ل وأخرى مطامناً في صلاته وفي غيرها في سهولة وإشراق قائلا في مملكة الفاروق: شهدت بمطلعك الحيا ...
ة تفيض بالنعم الزواخر ورأت مخيل دولة ...
فوق النجوم لها معابر وتطلع المحراب في ...
جذل وأشرقت المنابر واستبشر الدين الحني ...
ف بخير من يحيي الشعائر ومدينة (رشيد) بلد الجارم قد شرفت بزيارة ملكية سعيدة؛ فلم تنسه غمرة الفرح التي عمت بلده بشرف الزيارة حق الوفاء لمليكه بل يسجل ولاءه في هذه المناسبة فيخلع على رشيد ثوباً قشيباً تزهو به على الأيام بين البلدان.
فبزيارة الملك لرشيد أصبحت طريقها تبراً وكانت قبل تراباً: - جزت الطريق فصارت ...
تبراً وكانت تراباً ونخيلها اهتز طرباً تشوقا إلى طلعة المليك: والنخل ماست ومالت ...
تشوقاً واجتذابا قد هزها الشوق حتى ...
كادت تجاري الركابا وثغرها قد تفتحت أساريره، وبسم عن ثغور - فواحة بالعطر - بسمة حبيب أذهلت حبيبه عن لومه وعتابه: - والزهر ينضح عطراً ...
بين الربا وملابا له ابتسام حبيب ...
أنسى المحب العتابا وطبيعة رشيد السحرية شاركت أهل رشيد الحفاوة بالملك، فتطامنت هضابها وحنت رقابها وكانت قبل الزيارة عالية شامخة، والبحر لا ينتظر حتى يرده الفاروق بل هو يسعى إلى بحر مثله ليستقبله لأنه أكثر منه عطاء وأسخى جنابا والنيل قد سار فخوراً مدلا بسيفه الفروق فوق متنه: - تطامنت هضبات ...
ماذا أصاب الهضابا كانت تسامي الثريا ...
واليوم تحني الرقابا والبحر يدنو ويعلو ...
تطلعا وارتقابا لما تلقاك قلنا ...
لاقى العباب العبابا فاروق أعظم نفساً ...
منه وأسخى جنابا يزجي السحاب ثقالا ...
وأنت تزجي الرغابا والنيل ينساب تيهاً ...
بين المروج انسيابا ثم يصور رشيد وقد خرجت شيباً وشباناً تجتلي طلعة المليك، ورنت مآذنها وقبابها تتمنى أن تخوض مياه النيل للقيا المليك لو قدر لها ذلك: - لولا السفين لهامت ...
(رشيد) تعدو وثابا وأقبلت وهي ترنو ...
مآذناً وقبابا تود خوضا إليه ...
لو استطاعت ذهابا ثم لا يترك هذه الظواهر من غير أن يعلل لها تعليلا نفسياً يظهر فيه أثر ثقافته ومعرفته بالنفوس وطبها فيقول: - والشوق إن غال نفساً ...
لا تستطيع غلابا وولاء الجارم لمليكه المحبوب لم ينسه حتى في أشد حالات سروره وفاءه لأبيه الملك الراحل، وذلك شأن النفوس الكريمة ذات البداهة الثاقبة، وإن من وفى للغائبين كان وفاؤه للحاضرين أولى وأجدر؛ فالمغفور له الملك فؤاد أعلى من قدره واستمع إلى شعره، فتراه هنا يستطرد إلى ذلك في إلماعة لبقة تنبعث من منابع نفسه قائلا: - أبوك راش جناحي ...
حتى لمست السحابا وكان يصغي لشعري ...
وكان شعري عجابا وفي قوله (وكان شعري عجابا) إشارة من الإشارات الدقيقة الخفية إلى ما كان عليه الملك فؤاد من تذوق للشعر، وهي إشارة تعفي الجارم من مؤاخذته على الفخر في مقام مدح الملوك، ولعل تعبيره هنا (بكان) يشفع له ويجعل السامعين يتحسرون معه على أيام شبابه الخوالي. أما وفاء النفس الطاهرة، وولاء القلب الواله الذي لا ينسى الجميل والإحسان؛ وأما دموع الوفاء الساخنة وزفراته الحارة، وأما ولاء الرعية للملوك فاستمع إلى الجارم يتلوه في رثاء الملك فؤاد لتعرف كيف يكون حزن الأوفياء ورزؤهم فيمن وفوا لهم: - حملوه وإنما حملوا آ ...
مال شعب بزهرها الغصن تندى حملوا حامي الحقيقة ...
والدين كما تحمل الملائك عهدا ما على الدهر مرة لو توانى؟ ...
أو على الدهر ساعة لو تهدى قد نعينا فردا به كان عصراً ...
وفقدنا عصراً به كان فردا إنما الناس بالملوك وأعلى ال ...
ملك شأواً ما كان حباً وودا يا مليكي والحب يطحن نفسي ...
كلما قلت: خف قال: سأبدا أين تلك الهبات للعلم تزجى؟ ...
وجميل العزاء بالحر أجدى نحن لله راجعون وكل ...
بالغ في مجاله العمر حدا غير أن الفتى يغالبه الدمع فلا يستطيع للدمع صدا ثم يعلل نفسه، ويخفف من حزنه على الملك الراحل، بذكر الفاروق - وفاء له - في مقام الولاء لأبيه، فهو أمل الشعب المرجى، قد قرأ خطه في ملامحه وعلق آماله على مليكه وسلطانه. أمل الشعب في خليفتك ألفا ...
روق أحيا آماله وأجدا قرأ الشعب في ملامحه الغ ...
ر سطور المهنى وأبصر جدا ورأى فيه نبعة المجد والنب ...
ل أبا مفرد الجلالة وجدا لم يجد للعلا سواه مثيلا ...
ولبدر السماء إلاه ندا لقد صدر الجارم في قصائد ولائه عن طبعه الشاعري، فلم يقهر المعاني أو يحشر الألفاظ بل أنثالت عليه المعاني في تداع طبيعي وانقادت له الألفاظ آخذا بعضها برقاب بعض، وواتته القوافي طيعة لينة فكان ذلك كأنه من قصده ابن قنيبة في قوله (والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته وتبينت على شعره رونق الطبع ووشى الغريزة.
)
ولعل سر نجاحه في هذا الباب صدق عاطفته وقوة شعوره، فإن صدق العاطفة وعمق الشعور يكسبان الأسلوب صفة القوة متى كان صاحبها قوي السلطان اللغوي خبيرا بفن التعبير وما نظن أن حظ الجارم من هاتين المنزلتين قليل. وبعد فهذا ولاء الجارم لعرش بلاده هتف به في شعره وشدا به في بيانه بعد أن آمنت به نفسه فجعله فرضاً لازماً به عليه وعلى الشعب فقال: - إذ الشعب والاه فذلك فرضه ...
وإن فداه فذلك واجبه عبد الجواد سليمان المدرس بمعلمات سوهاج

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣